على كرسي في غرفة صغيرة يجلس أكبر معمر في البلاد –بحسب وزارة الداخلية الاسرائيلية- وعلامات قرن من الزمان بادية عليه بوضوح..فالسيد شحادة سليمان شاهين المولود عام 1892، والمقيم في بيت صفافا جنوب القدس، يافاوي المولد نابلسي النشأة مقدسي الاقامة، ففلسطين العثمانية والانتداب والاردن والاحتلال الاسرائيلي كانت وما زالت موطنه الى ان يشاء الله.
عالمه بالأمس كان مليء بالاحداث والضجيج والذكريات السعيدة والحزينة، أما عالمه اليوم..غرفة صغيرة وطاولة مستطيلة لوضع قارورة الماء وعلبة الادوية والراديو الصغير.حاولت الحديث معه لكنه لم يكن يتذكر ويسمع كل ما اقول استطاع التعريف عن نفسه وعمره وكانت كلمته الدائمة طوال اللقاء عبارة "نشكر الرب".
ذاكرة محدودة..
للحقيقة تمنيت لو كان السيد شاهين بكامل صحته ليسرد لي أحداث قرن مضى عاشه بكل تفاصيله، فالحديث الى شخص لديه ذكريات أجمل بكثير من قراءة كتاب تاريخ، لأن صاحب هذا الحديث يعتبر شاهدا حقيقيا على العصر.
زوجته المسنة والمريضة ربما تكون أكثر شخص يسأل عنه..فعندما جلست بالقرب منه لالتقاط صورة لهما قال للخادمة "حضري لها العشاء" وعندما اجابته بأنها أكلت بقي مصرا على تأكيده لحرصه على صحتها وتناول الطعام والدواء في الوقت المحدد، كما سأل عن حلاق الشعر فهو يريد أن يحلق شعره…!! ابنته الصغرى "سوزي" تحدثت عن حياته البسيطة وكيفيه قضاءه لوقته حيث بدأت بعلاقته بوالدتها فقالت :"هو شديد التعلق والحب بوالدتي ودائم السؤال عنها..يسأل حتى لو غابت عنه الى ساحة المنزل، بدأ مرضه الشديد بعد اصابة والدتي بالسكري وقطع قدميها وغسيل الكلى، الذي دفعها الى الغياب عنه لايام، ادت الى دخوله في حالة صعبة".
وأضافت :"يعيش هذه الايام حالة من الملل والاكتئاب فهو يعاني من ضعف في السمع فلا يستطيع الحديث المستمر مع من حوله، يصحو من نومه الساعة الثامنة صباحا ويبقى على كرسيه جالسا حتى الساعة 11 ليلا ومعظم وقته يكون نائما على كرسيه".
وقالت سوزي "الأم لخمسة أبناء" :"يرفض الخروج الى ساحة المنزل الخارجية لشعوره بالبرودة طوال ايام السنة"، مشيرة انه يبقى مرتديا الملابس القطنية والصوفية الثقلية طوال الوقت.وحول نظامه الغذائي قالت :"في شبابه وشيخوخته يحافظ على اوقات طعام (الفطور والعشاء والغذاء) وهو على هذا الحال، وكان يبتعد عن تناول المأكولات "الدسمة" كما كان يشرب زيت الزيتون، واليوم يشرب الماء باستمرار والعصير والمشروبات الساخنة، والفطور والعشاء يتناول شرائح الخبز ويأكل الفواكه".
أما عن وضعه المالي فقالت :"لا دخل لوالدي على الاطلاق، فوالدي محروم من مخصصات التأمين الوطني "الشيخوجه" لأنه حسب القانون الاسرائيلي المولود عام 1907 لا يأخذ مخصصات من التأمين"، موضحه انهم اكتشفوا ذلك قبل خمس سنوات فقط عند مرض والدتها، التي وفر لها التأمين "عامله-خادمة" تساعدها في القيام بامورها اليومية، وعندما طالبوا باخرى للوالد تم الرفض.
وتؤكد سوزي أن والدها يتذكر حتى اليوم ابنائه جميعا باسمائهم وهو مشتاق لرؤيتهم، ويتمنى بالاخص رؤية ابنته ريما المقيمة في الاردن والتي تم سحب هويتها اوائل التسعينات وحرمت من زيارة البلاد رغم توكيل المحامين للمتابعة، كما تؤكد أنه حتى عامين مضيا كان والدها يواظب على لعب طاولة الزهر مع زوجها يوميا وكان هو الرابح دائما!!
العائلة الكبيرة..
لدى السيد شاهين 9 أبناء ( 5 ذكور و4 اناث) وجميعهم باستثناء "سوزي" التي تعيش في شقة ملاحصقة لوالديها كبار بالسن ويقيمون في مناطق ابعد، تزوج لمرتين الاولى انجب منها 7 أبناء، وبعد وفاتها بسبع سنوات تعرف على زوجته الحالية في عمان وتزوجها قبل 51 عاما وبالتحديد في 8-11-1959.
وأضافت سوزي :"وهو في سن 113 عاما كان يستطيع قراءة الجريدة ويتابع نشرات الاخبار بالراديو وكان هو يقوم بشراء كافة مستلزمات البيت من الطعام والشراب والاحتياجات الاساسية".
اصله من نابلس ولد في يافا وهجر منها واخواته الى القدس ومنهم هاجر لامريكيا، أحدى شقيقاته وتوفيت وهي في سن 110 سنوات واخرى هاجرت للاردن وتوفيت عن عمر ناهز 104 سنوات واما شقيقته الصغرى فبقيت بالقدس وتوفيت عن 78 سنة فقط، ابنته الكبرى تبلغ اليوم 83 عام، وله العديد من الاحفاد وأحفاد الأحفاد.
الزوجة ودلالها..!!
تحدثت زوجته ببعض الكلمات حيث قالت :"عاش الحرب العالمية الاولى والثانية والنكبة والنكسة والانتفاضتين وكان أحد الجنود مع تركيا في الحرب العالمية الاولى لكنه هرب اثناء وجوده في قطار وبقي مختبئا لمدة ثلاث سنوات".
وتضيف :"لم يكن يزعلني ابدا حتى اليوم وهو شخص مرح ويدللني كثيرا".وتؤكد أنه كان فرحا بانه من المعمرين ويعتبر وجوده حتى اليوم "هبة وسر من الله".
بر الوالدين ورعايتهما..
واعربت سوزي عن حزنها لعدم وجود جهات ترعى المسنين الكبار وتوفر لهم وسائل الترفيه وقالت:" مع مرض والدتي كان والدي بحاجة الى من يسليه ويبقى يحدثه، وحاولت جاهدة البحث عن شخص يقوم بذلك وكنت على استعداد لدفع راتب له لكن للاسف لم أجد"، مضيفة ان كافة النوادي المختصة بالمسنين تكون لمن هو قوي البنية فقط (يستطيع المشي لوحده وصعود الدرج والحديث).
وترفض سوزي بشدة وضع والديها بملاجئ للعجزة فهي مستعدة لرعايتهما بمساعدة زوجها واولادها الخمسة وتوفير كافة احتياجاتهما فهي تخشى وتخاف على مصيرهما في حال وضعتهما في الملاجئ وتقول:" كبار السن في البيت بركة، وعلينا ان نكرم الوالدين كما تعبوا وسهروا على راحتنا ونحن صغار".