المطران حجار أو هشيزاف؟ بقلم: فؤاد سليمان- حيفا

مراسل حيفا نت | 27/07/2010

أسكن اليوم في نفس الشقة التي ربيت فيها، فحين أنزل من شقتي إلى شارع "المطران حجّار"، أحتاج لبعض الوقت لكي أعتاد على ما تراه عيناي ولكي أتجاوز صدمة كون الشارع الذي أسكن فيه، لا يمت بصلة إلى ما كان عليه أيام الطفولة. لقد اشترى أهلي البيت حين كنت صغيرًا، وفيه قضيتُ معظم طفولتي. يومها كان الحيّ عبارة عن عمارتين. لم يكن شارع "المطران حجّار"، الذي كان يسمى شارع "هشيزاف"، موصولا مع شارع "ستيلا مارس"، بل كان ينتهي حيث يبدأ الجبل المكسو بالأشجار وحيث تقوم المغارة العميقة والمليئة بالأسرار.

 كنّا ندخل المغارة، أنا وباقي أولاد الحارة، حالمين باكتشاف ما تخبئه من أسرار. تارة كنّا ندخل إلى جوفها باحثين عن آثار للإنسان القديم وتارة أخرى كنا نبحث عن الكنوز التي كنّا متأكدين من أنها دفنت فيها في قديم الزمان. وأكاد أجزم أنه لو جاء يومها أحد علماء الآثار وبحث في  المغارة فإنه كان حتمًا سيجد آثارًا للإنسان القديم.

 

 كنّا نذهب إلى المغارة، يقودنا أحد أولاد حارتنا الذي كان يُسيء لفظ حرف الـ"غ" ويستبدله بحرف الـ"ع"، نركض وراءه وهو يصيح بنا: "يلا يا أولاد …عالمعارة … عالمعارة". في كل مرة كنّا تكتشف أزقة ومخارج جديدة للمغارة. على مداخل المغارة عشش الحمام والوطواط الذي كان أولاد الحارة يحاولون اصطياده بالمقلاع، وأذكر كيف أن أحد الأولاد وجد يومًا وطواطًا صغيرًا فوضعه في قفص وبدأ بإطعامه فتجمّع أولاد الحارة ليشاهدوا ذلك الوطواط الصغير. أنا لم أكن أتقن بناء المقلاع وهكذا فقد بقيت محبطًا من عجزي عن مشاركة باقي أولاد الحارة في مغامرات الصيد. بقي الأمر على هذا الحال، إلى أن جاء يوم اقترح فيه أبي أن يقنع جدّي بأن يصمم لي مقلاعًا.

 جدّي فؤاد كان يملك مشغلاً للخراطة في الناصرة وكان فنّانا في خراطة المعادن. وفعلا قام جدي بخراطة مقلاع ممتاز من الحديد وجاء لزيارتنا وأعطاني إياه. فرحت كثيرا بمقلاعي الجديد وذهبت لاصطياد الحمام مع باقي الأولاد الذين أعجبوا بمقلاعي.
لقد كان الجبل والمغارة المقابلين لبيتنا جزءًا من حياتي وحياة أطفال حارتي، وحين هدمت المغارة ونَهَشت الجرّافات الجبل لصالح بناء مدرسة "هشيزاف"، كتبت قصة قصيرة بعنوان "الصرصار"، حكيت فيها عن صرصار كان يعيش في المغارة وهرب من الجرّافات وانتقل ليسكن في بيتنا.

 
الآن تغيّر كل شيء، فالحارة تغيّرت بمائة وثمانين درجة، بدل أشجار الجبل نبتت غابة من الاسمنت. صارت الحارة مكتظة بالعمارات. حركة السير فيها كثيفة والمصّفات بالكاد تكفي لنصف سيارات الحارة مما يجبرك على قضاء ساعات في كل أسبوع في البحث عن مكان تصف فيه سيارتك، وفي المكان الذي كانت فيه المغارة المليئة بالأسرار حُفر الجبل وبنيت مدرسة "هشيزاف". شارع "المطران حجّار" اليوم لا يشبه بشيء شارع "هشيزاف" الذي ربيت فيه ومع هذا فها أنا أجلس في نفس الدار بعد عشرين سنة، أدخن سيجارة وأشرب الشاي وأكتب عن حارتي القديمة الرائعة حيث كانت الطبيعة الخضراء تتألق في كل أرجائها وحيث كانت المغارة المليئة بالحمائم والأسرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *