نِسَاءٌ بِدُونِ خَجَلٍ – د. خالد تركي – حيفا

مراسل حيفا نت | 21/07/2010

تذكّرتُ جدَّتي صديقة، أم داود، يوم دخلتُ لعيادةِ امرأة مريضة، تجاوزت السّنون طريقها إليها بعد أن عبرت الثَّمانين منها براحة مثيرة دون عناء الدُّروب وكأنَّها نفضت عن ثيابها غبار التَّعب وشظف العيش، زُرتها في بيتها الواقع في إحدى حارات حيفا العريقة.
دخلتُه مستَغْربًا ومسرورًا، بعد أن احتلَّت الغبطة فؤادي وأسرَّت وجداني، حين وجدْتُها تحلُّ السُّودوكو بطريقتها الخاصَّة، بعد أن حلَّت لغزَ الكلمات المتقاطعة بنجاح، وسردَت لي عن دراستها في القرية (التي أصبحت حيًّا من أحياء حيفا) وعن حفظها للقرآن الكريم والنّحوي كتابةً وقراءةً عدا عن المواضيع الأخرى ..

لقد كانت جدّتي أم داود تحفظ الصّلوات جميعها، والأشعار على أنواع بحورها، التي كانوا يدرِّسونها في مدرسة الدَّير، لكنَّهم للأسف لَم يعلِّموا البنات في تلك الحقبة الكتابة والقراءة "خوفًا وحرصًا" من المدرِّسين على ألا تتجاوَزْنَ "أصول الأدب والدِّين" ولكي لا يكون تعليمهنَّ وسيلة لكتابة رسائل غرام لأصدقائهنَّ وقراءة رسائلهم وأجوبتهم، على حدِّ تعبير مدير المدرسة..
لقد نقلت لنا الكاتبة الإيرانيَّة آزار نفيسي، في روايتها المترجَمة للعبريَّة "أَشْيَاءٌ صَمَتُّ عَنْهَا"، كيف وصفوا النِّساء المتعلِّمات في بلاد الفرس على أنَّهنَّ "نِسَاءٌ بِدُونِ خَجَلٍ" (ص 363)، ويَتَّهمونهنَّ بالعلمانيَّة، التي تُشجعهنَّ على كتابة رسائل حبٍّ للرِّجال ويُصبحنَ بدون خجل..
"لأنَّ النِّسَاءَ حِينَ يَبْدَأنَ فِي التَّفْكِيرِ يَفْقِدْنَ الخَجَلَ" (ص 364).
أمَّا جذور الكاتبة آزار العائليَّة فتعود إلى الطَّبيب والفيلسوف العربيِّ الدِّمشقيِّ ابن النَّفيس، أبو الحسن علاء الدين ابن أبي الحزم المعروف بابن النَّفيس القرشيِّ، (607-687) الذي اكتشف الدَّورة الدَّمويَّة حيث فسَّر أنَّ عمليَّة تنقية الدَّم
تجري في الرئتين بعد أن يجري في القلب ويُخالط الهواء.
ومن النِّساء نجد المرأة العاملة، الفّلاحة، الجريحة، الشّهيدة، المُناضلة، البطلة، المُعتقلة، المُوَظَّفة، الكاتبة، الأديبة، الموآزِرة، الطّبيبة، المُمَرِّضة، الزَّميلة، المُعَلِّمة، المُحامية، المُربِّية، الحاضِنة، الجدَّة، الخالة، العمَّة، الحماة، العين السَّاهرة، الإبنة، الأُخت، الزَّوجة، والمرأة هي العِرض والشَّرف ونور العيون، فلا تكتمل حريَّة الرَّجل بدون حرِّيَّة المرأة، فلولاها لم نكُن ولم نبقَ ولم ندُم، هي الأمُّ هي الرَّفيقة هي النَّصيرة هي الأمل وهي كلُّ شيءٍ لأنَّ "الجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَات" فهي مدرسة ونور الحياة ومُهجة القلوب، هي حياتنا وحيويَّتنا، وحبُّنا وأَحَبُّ الناس لي أمِّي لأنَّها الماء والهواء والسَّماء والدَّواء. وهذه هي أسماء المرأة الحُسْنى.
إنّ التّعليم والدِّراسة تشكِّل خطرًا على القوى الرَّجعيَّة والظَّلاميَّة في بلادنا، المعنيَّة في طمس تطوُّر المرأة وهويَّتها، متجاهلة بذلك حقيقة، أنَّ المساهمة في تثقيف المرأة، وتطوير إمكانيِّاتها ومقدَّراتها وقدراتها، هي رافعة أساسيَّة وهامَّة جدَّا ودافعة مسرِّعة لتطوير المجتمع، حيث أن المرأة هي أساس المجتمع وأمُّه ومدرَستُهُ ومُدَرِّستُهُ وأكثر من نصفهِ إن أردنا إنصافها، وأيّ عمل عكس هذا الاتِّجاه يصبُّ في إطار تجهيل المجتمع وكبتهِ وأسرهِ..
يقول الإمام الشَّافعي:
"قَدْ أُوتِيتَ عِلْمًا، فَلا تُطْفِئ نُورَ عِلْمِكَ بِظُلْمَةِ الذُّنُوبِ، فَتَبْقَى فِي الظُّلْمَةِ يَوْمَ يَسْعَى أَهْلُ العِلْمِ بِنُورِهِم".
أردتُ لجدَّتي أم داود أن تكون بدون خجل، وأريد لكلِّ نساء العالم أن يكنَّ
بدون خجل لأنَّ خجلهُنَّ يبعث انحطاط المجتمع.
وأحلى صباح وأعطره لجميع نساء وطني وأخصُّه لوالدتي أم خالد..    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *