يوم عُرسَكْ يا عَبِد يوم التقسيم…

مراسل حيفا نت | 15/10/2018

يوم عُرسَكْ يا عَبِد يوم التقسيم…

نداء نصير

بدّي أحكيلكو قصّة عَبِد ابن خليل ابن عبد الرازق أبو الهيجا ابن قرية الرويس.. اللي صارت كلّ أحداث البلدة تتأرَّخ حسب يوم عُرسه… أي يوم؟ يوم التقسيم..
“مسكين عَبِد”، قالت أمّه… “إشو ذنبو؟ هيك ألله رتّب يكون يوم التقسيم يوم عُرسه.. وما كان بنفع يغيّروا التاريخ، تاريخ العرس؛ لأنّه عُرس عَبِد مش أيّ عرس.. والكلّ محضِّر حالو من شي سنة.. نسوان وزلام وصغار وكبار وختياريّة وحدّا والكبّة والرزّ وسفاين اللحمة.. وعليا اللي معَّطينلها شعرها. هذا وين بدّه يروح كلّه!! وما كان بنفع يغيّروا يوم التقسيم.. تغييره كان بدّه قرار أممي، والأمم المتّحدة يغضب عليها هيك وقتها قرّرت… فلسطين تنقسم لدولتين!!”.
يوم ما خلّفَتْ مزيَّن بنت الجيران، قالوا إجاها الصبي صمألله عليه، وِجّهو زي شقفة القمر، إجا بعد عرس عَبِد بشهر وثلاث أيام، الكلّ بتذكّر هاليوم كانت جيابتها صعبة، برد وصقعة وموت أحمر.. ويوم ما طهّروا ابنها بعد شهرين من عُرس عَبِد، ما حدا كان فاضي يروح يتفرّج!! ماتت مزيَّن من القهر بعد عرس عَبِد بثلاثة أشهر!
ويوم ما انقصفت القرية من جهة بئر الطيرة الواقعة في الجهة الغربية من البلدة تقريبًا، من مدخل طمرة الرئيس، يوم ما هرب جميع السكّان شرقًا باتجاه طمرة، يوم ما حملتْ فاطمة بنت سليمان من دار حمّاد، زوجة غازي أبو الهيجا، طفليها الحسن والحسين، في شقتيْ خرج الحمار، ويوم ما وصلت نزَّلَت فاطمة الحسن والحسين، فلاقت الحسين مات! كان كلّه بعد عُرس عَبِد بثمانية أشهر وثلاثة عشر يومًا.
وراحت عليك يا عَبِد- وصُرِتْ شؤم البلد وكلّ مصيبة صارتْ معه، قالوا “يوم التقسيم”. الله يرحمك يا عَبِد… راح وراح معه التقسيم وراحت فلسطين وصارت الرويس حكاية شعبية تتوارثها الأجيال..
عن الرويس…
نداء 2 (1)
هي نسائم الخريف في ساعات العصر تحاول أن تثنيَ تلك الأشجار الشاهقة المرتفعة عن شموخها، ما استطاعت، وعلى مدخل بلدة الرويس كان لقائي بالسيّد إبراهيم أبو الهيجا، العضو الفعّال في لجنة الدفاع عن مهجّري الرويس، الذي تكّرم عليّ بكل ما لديه من معلومات عن القرية. والسيّد إبراهيم، صاحب كتاب “الرويس ذاكرة لا تموت”، كنز غنيّ بالمعلومات القيّمة، سار معي في كلّ بقعة من الرويس، وسارت معنا أشجار التين والزيتون والرمّان وخرّوبة الأولياء والفواكه بأنواعها، ترافقنا الألقاب التي كانت تعطى للأشخاص وتسميتهم ملتصقة بأسماء أمّهاتهم: يوسف الوضحى، عيسى السعدية… والشايب (مَن تزوّج للمرّة الثانية وهو كبير السنّ وشعره شائب)، والحلّاق والشعّار (عمله بناء بيوت الشَّعَر) وغيره وغيره.. ونظرًا إلى أنّها بلدة صغيرة جدًّا، استطعنا أن نتعرّف كلّ جهة وزاوية فيها بأقلّ من ساعتين!
كان بدء اللّقاء بمحاذاة عين الماء، حيث توافرت بئر عميقة (24 مترًا)، وقد بُنيت البئر عام 1941، وهي عبارة عن بئر ارتوازيّة (نبع) تقع جنوب القرية، زوّدت السكّان بالمياه طَوال أيّام السنة. كما كانت هناك أكثر من قناة: قناة لريّ المزروعات وقناة تؤدّي بالمياه العذبة إلى مخازن الماء، ومنها يملأ الناس جرارهم ويعودون بها إلى بيوتهم، وما يتبقّى لسدّ ظمأ الأغنام.
يؤكّد الأستاذ إبراهيم أبو الهيجا أنّ عدد سكّان الرويس عام 1948 كان 383 نسمة، مسجّلين بالاسم، ومساحة الأرض 1,100 كم (قد تكون المساحة غير دقيقة)؛ حوالي 15 دونمًا للقرية و 222 دونمًا مزروعة بساتين و 844 دونمًا مزروعة حبوبًا، قمحًا، شعيرًا، سمسمًا، بِطّيخًا، و 82 دونمًا بور!
هذا واشتملت البلدة على معصرة زيت استعملت حتّى عام 1920، وبعدها خربت وأُهملت، ثمّ استولت الـ”كيرين كيّيمت” على المعصرة بين الأعوام 1960-1965.
والرويس عبارة عن حارتين صغيرتين: الحارة الفوقا والحارة التحتا، يفصلهما شارع في الوسط. لم تتوافر في البلدة مدرسة لقلّة سكّانها، فكانوا ينضمّون إلى زملائهم على مقاعد الدراسة في قريتَي طمرة والدامون القريبتين.
نداء 3 (1)
عند تجوالي في القرية، لاحظت كمّيّة أشجار الصبر ولونها أبيض! وقد حدّثني السيّد إبراهيم أبو الهيجا أنّ أشجار الصبر يتمّ رشّها بمبيد قاتل ومعدٍ، ما يحوّلها إلى اللّون الأبيض ويجعل ألواحها آيلة إلى السقوط، حيث يتغلغل المبيد داخل أكواز الصبر والفروع المتسلّقة عليه، فيجعلها هزيلة جدًّا، فتطرى حتّى تسقط كلّيًّا. ومن الواضح أنّ هذا العمل يهدف إلى طمس معالم ما تبقّى في القرية. (من اللّافت أنّ هذه الظاهرة موجودة في عدّة بلدات مهجّرة)

أصول سكّان الرويس
حتّى عام 1810 لم تكن بلدة الرويس مسكونة، ويُقال إنّه مع حملة صلاح الدين الأيوبيّ إلى القدس عام 1187، أتى معه رجل عسكريّ اسمه حسام الدين أبو الهيجا، وهو من العراق، ونتيجة للانتصارات التي حظيت بها كتيبة العسكريّ حسام الدين، اقتطع صلاح الدين خمس قرًى لعائلة أبو الهيجا وهي: كوكب أبو الهيجا، الحدَثة، عين حوض، سيرين، والرويس.
سُكِنت القرى الأربع ما عدا الرويس، وقد استغلّها، آنذاك، سكّان قرى أبو الهيجا للزراعة، إذ كان يأتي إليها المزارعون من الحدَثة لزراعة الأرض في الصيف ويخيّمون شتاء فيها لجني المحصول.
عام 1810 قرّروا السكن فيها وإقامة بيوت، فأتت سبع عائلات من دار أبو الهيجا للسكن فيها. كان سكّانها يعملون في زراعة الأرض في القرية، وكذلك منهم من عمل في مدينة حيفا، الذين كانوا يستقلّون حافلات تنتظرهم في بلدة الدامون.
عند احتلال الرويس عام 1948 تسجّل فيها 78 بيتًا، وقد شهدت 230 قبرًا، وهي المقبرة الوحيدة قبل عام 1948 المسجَّلة بالأسماء، الاسم الرباعيّ والخماسيّ والسداسيّ.

علي بابا والأربعين حرامي..
تحتوي القرية على مغارة صخرية اكتشفت قبل حوالي 200 عام، وقد تمّ طمرها عندما بُنيَ شارع 70. على ما يبدو، يصدّق عدد لا بأس به من الناس أنّ هناك كنزًا ما مدفونًا في الرويس، وتحديدًا في تلك المغارة المطمورة، لوجود معلم لآثار كنز، منقوشة عليه شارة صليب، وهي وفق علماء الآثار، مؤشّر على وجود شيء ما. ومن الملاحظ، أيضًا، أنّ أعمال حفريّات تحصل في الخفاء وفي ساعات الليل المتأخرة أو الصباح الباكر، بحثًا عن هذا الكنز الدفين. مَن يدري؟!

“إذا رميت السيجارة من طمرة فستصل إلى الرويس”
بهذه العبارة يؤكّد أهالي الرويس مدى قرب البلدة من طمرة، فلا مسافة تقريبًا تبعدهما عن بعضهما، والرويس الواقعة من عكّا شرقًا 12 كم، والواقعة شرق شارع 70 بين مدينة طمرة وقرية كابول، هي إحدى القرى المهجّرة منذ تمّوز 1948. وقد هاجر أهلها إلى البلدات المجاورة. 90% منهم يسكنون في طمرة والبقيّة في عبلين وشفاعمرو ولبنان.
بعد عملية “ديكل”؛ العملية التي قامت بتفريغ القرى وترعيب سكّانها في الجليل الأوسط، تحرّكت وحدات من لواء “شيبع” غربًا للسيطرة على عكّا وعدد من قرى الجليل الغربيّ، وكانت الرويس التي سقطت في 15 تمّوز عام 1948 من بينها.
لم تكن مقاومة في القرية، هرب سكّان الرويس خوفًا من وقائع القتل والضربات، وبعد أن وقعت قذيفة على محمّد حسين أبو خليل أبو الهيجا فقتلته، لم يستطع أهل البلدة دفنه إلّا بعد ثلاثة أيّام، وقد بُني له قبر، إلّا أنّ القبر – الشاهد أزيل أكثر من مرّة، ويُعاث فيه الفساد بشكل مستمرّ!
بعد فترة رجع جزء من الأهالي إلى القرية، لكنّ الجيش قام بطردهم وهدم القرية ببيوتها، ولا يتذكّر الناس إلّا عبِد وعرسه في يوم التقسيم.. لا فِرِح عَبِد ولا فرحوا أهالي الرويس..

نقد الذات..
حاولت وما زالت تحاول لجنة الدفاع عن قرية الرويس إعادة ترميم بعض الأمور في البلدة، أبسطها وضع مقاعد للجلوس لمن يرغب في التجوّل في الرويس والاستراحة فيها، إلّا أنّه يتمّ كسر المقاعد بشكل دائم، كما تُلقى الأوساخ في كلّ مكان، حتّى إنّه يتهيّأ لك أنّك في مكبّ للنفايات.. روائح نتنة تنبعث عند خروجنا من القرية الواعدة التي كانت تسمّى الرويس – الرويسيّة العالية الشامخة الجميلة.. والسؤال المطروح هنا: كيف لشعب عاش النكبة والتهجير أن يوسِّخ تلك الأرض المقدّسة التي جُبِلت بعرق وتعب الأقدمين وارتوت بدماء الشهداء.. كيف لنا أن نعيد إحياء ما كان، وما فينا يحتاج إلى ترميم وإعادة صياغة للذات.. كيف؟!
ومن الجدير بالذكر أنّ زيارتي المشهودة لقرية الرويس كانت بعد عرس عَبِد بـِ 71 سنة وشهر و9 أيّام بالتمام والكمال.
نداء 1 (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *