تضحيات وقرابين!

مراسل حيفا نت | 28/08/2018

تضحيات وقرابين!

د. منعم حدّاد

السيد المسيح يأتي ويتجسدّ ويصلب ليفتدي البشر من خطاياهم، وفي الكتاب المقدس والتراث العبري يأمر الله ابراهيم خليل الله عليه السلام بتقديم ابنه اسحق محرقة للرّبً فيستجيب، ويحتفل العالم الإسلامي كلّ عام بعيد الأضحى المبارك، لذكرى استجابة سيدنا ابراهيم عليه السلام لما أمره به الله من ذبح ابنه، وكما يصف ذلك سليمان مظهر في كتابه: “قصة الديانات”:”ولم ينس ابراهيم ولده (والمقصود اسماعيل)… فقد كان يأتي بين الحين والحين ويزوره ويطمئن عليه، حتى إذا شبّ وأصبح الولد ابن الثالثة عشرة، رأى ابراهيم في نومه أنّه يؤمر بذبح ولده الوحيد.
unnamed-4-8-221x300
كان ابراهيم مؤمناً بربّه لا يعصى له أمراً، ولم يجد – برغم حزنه وألمه – إلا أن يمتثل للأمر ويسارع إلى الطاعة، فارتحل إلى حيث لقي ولده وأخبره بما أُمر به.

قال ابراهيم: يا بني… إني أرى في المنام أني أذبحك… فانظر ماذا ترى؟ أجاب إسماعيل: يا أبت… افعل ما تؤمر… ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

ومضى ابراهيم بولده لينفذ فيه أمر الله، واستسلم الولد لأبيه وهو يشدّ وثاقه ويحكم رباطه حتى لا يضطرب… ووضع الأب السكين على عنق ولده وأمرها…غير أنها لم تقطع، فجربها على قفاه فما استطاعت أن تقطع شيئاً، وأدركت ابراهيم الحيرة فتوجّه إلى إلهه أن يجعل له مخرجاً… فاستجاب الله لدعائه وناداه “يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين”.

وفوجيء ابراهيم بكبش بجانبه، فأدرك أن الله فدى به ولده، فأقبل على الكبش وهوى بالسكين عليه فصرعه وخضب الأرض بدمه… وكانت تلك هي الضحية التي تمّ بها فداء اسماعيل”…

فما الأمر يا ترى؟

هل من الممكن أن يقبل الله تقديم القرابين البشرية وهو الذي نهى عن كلّ خطيئة مهما كانت صغيرة؟

وهل يعقل أن يأمر أباً بذبح ابنه وحيده بيديه ليقدمه ضحية له؟

هل كل هذا ممكن ومعقول؟

إن لعيد الأضحى المبارك من المفاهيم والرموز والعبر والعظات ما امتلأت به المجلدات العديدة الضخمة، ومهما كتب عنه فكل ما يكتب لا يحيط بكل ما يحمله من معان وأخلاق سامية وبرّ وإحسان!

فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى تجربة ابراهيم فعلاً لا قولاً لكي يتأكد من أنه لا يعصي له أمراً!

فما الأمر إذن يا ترى؟

وإنما يأمر ابراهيم بذبح ولده ثم يرسل إليه كبش الفداء ليعلّم البشر – بالإضافة إلى كل القيم والمعاني السامية الأخرى المتمثلة في عيد الأضحى – ليعلّم البشر أن الله سبحانه وتعالى لا يريد قرابين بشرية بل يرفضها ويحرمها!

ولكي نفهم المعنى السامي الآخر للتضحية والفداء لا بدّ من استعراض بعض ما دأب عليه الناس وما اعتبروه طقوساً وعبادات في العصور القديمة والموغلة في القدم!

فقد عرف التراث الإنساني تضحيات وقرابين من أنواع شتى على مرّ العصور، ونجد في فهارس الجزئيات والأنماط القصصية قرابين وتقدمات كلامية تتألف من صلوات خاصة، ونجد المواد الغذائية، ونتاج الحقول والأراضي والمحاصيل الزراعية، وكذلك نتاج الحيوانات وأبكارها، وكذلك قرابين حيوانية كانت تُقدم للغيلان في مجتمعات معينة، وكانت قرابين سواها تنزل نيران من السماء فتلتهمها وتأتي عليها، وتُبعد قرابين أخرى شبح الشيطان، وتُقدَّم قرابين بشرية للغيلان أو لسواها.

ويقول سليمان مظهر في كتابه “قصة الديانات” (صفحة 19) إن قصة الخلق هي “الأساس الأول في كلّ العقائد البشرية التي نشأت في هذا العالم الكبير” والتساؤل عن الخلق والخالق، وتفسير هذا الخلق هو “أوّل طريق البشرية في محاولة البحث عن الله”، وعجز الإنسان في أول حياته البدائية عن إدراك الأخطار والأسرار المحيقة به، وحمله ما رأى من عجائب وأمور غامضة لم يستطع تفسيرها ولا إدراكها إدراكاً علمياً على أن يتوهّم لكل هذه تفسيراً، و”يتخيل أصولاً ووقائع يرتاح إليها وتزيل حيرة نفسه”.

وهكذا أوجد الإنسان الأساطير والتوهّمات والخرافات التعليلية والخوارق، وآمن بوجود قوى خالقة وخارقة مسيطرة على الحياة وتتحكم في الكائنات ومصائرها.

وأدرك ما لهذه القوى الغيبية من أهمية من حيث سيطرتها على حياته وتسييرها شؤون هذه الحياة بحلوها ومرّها، فراح يسعى لاسترضائها والتزلف إليها والتقرّب منها، ليأمن شرورها من جهة وليسخّرها لخدمته من الجهة الأخرى.

وكانت إحدى وسائل هذا التزلّف وأهمها هي وسيلة تقديم القرابين والأضاحي…، فهذه قديمة قدم الإنسان نفسه، وقدم أيّ إيمان واكبه او اعتنقه منذ بدء تاريخه البشري!

القربان هو نمط أو طراز من التقدمات الدينية أو الهدايا التي تقدم إلى كائن أعظم أو كينونة عظمى، ويجري تقديس التقدمة من خلال تدميرها.

وقد تقدم القرابين على أساس عادي تبعاً لنماذج أعمال أو ممارسات يومية أو شهرية أو فصلية أو موسمية، أو مناسبات خاصة وفريدة من حيث أهميتها في حياة الأفراد مثل الميلاد والبلوغ والزواج والوفاة، وفي ظروف خارجة عن المألوف.

والهدف منها هو تأسيس علاقة أو ترسيخ علاقة قائمة بين الإنسان والإله أو الآلهة، وتعبر القرابين عن التبجيل والإجلال أو الشكر على الحظ السعيد، وتهدف قرابين الرجاء للحصول على الحظ السعيد، وتقدّم قرابين الاستغفار لتهدئة ثورة الآلهة على سلوك بشري خاطيء، أو جرائم ارتكبها البشر.

واعتاد البشر على تقديم القرابين من كل ما يملكون أو ينتجون، وقد يكون القربان مكشوفاً، أو مسكوباً إذا كان سائلاً، أو مدفوناً في الأرض أو محروقاً.

وتستمدّ طقوس تقديم القرابين شرعيتها من ملك أو امبراطور، كما في مصر واليابان والصين القديمة، أو لدى السومريين والرومان، وقد يتفجّر صراع حول هذا الحقّ بين السلطة السياسة والسلطة الدينية: أي بين الملوك والكهنة.

ولا نملك شهادات صريحة عن تقديم القرابين في العصر الباليوليثي أو الحجري القديم، ولا في مجتمعات الصيادين المعاصرة لهذا العصر، لكنها بدت واضحة في المجتمعات الزراعية، ففي المجتمعات البدائية يجوز لكلّ واحد تقديم القرابين على هواه، أما في المجتمعات الأكثر تعقيداً فتقديم القرابين من اختصاص رجال دين معيّنين، أو ذوي مراتب سياسية من طبقة خاصة، ومحصور في هؤلاء الناس دون سواهم.

وفي الكتاب المقدس أن تقديم القرابين ابتدأ بقرباني قايين وهابيل ابني آدم وحوّاء حيث قام قايين بتقديم ثمار الأرض قرباناً لله، ولم يقبلها الله قرباناً، بينما قبل قربان هابيل المكوّن من بواكير مواشيه وقطعانه.

وترى المصادر العبرية أن إنقاذ ابراهيم في اللحظة الأخيرة من تقديم ولده اسحق قرباناً إنما جاء ليؤكد رفض الله سبحانه وتعالى تقديم القرابين البشرية قطعياً، إذ لا يمكن أن يقبل إله أن ينحر الرجل ولده قرباناً من أجل استرضائه!

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت الأقوام والأمم السابقة تقدم القرابين البشرية فعلاً؟ أم أنها مجرّد أساطير وأوهام؟

ويقول ول ديورانت في كتابه “قصة الحضارة”(ص 318) إن سكان سوريا الأقدمين “كانوا إذا حزّ بهم أمر جلل يضحّون بأطفالهم قرباناً… كما كان الفينيقيون يفعلون، فكان الآباء يأتون إلى الحفل وقد أخذوا زينتهم كأنهم في يوم عيد، وكانت دقّات الطبول وأصوات المزامير تطغى على صراخ الأطفال وهم يحترقون في حجر الإله…”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *