إن واقعنا كأقلية فلسطينيّة في دولة يهودية يجعل حياتنا مشحونة بالسياسة، فمنذ نعومة أظافرنا نبدأ نستوعب معنى كوننا أبناء لشعب مضطهَد ونصير واعين بالنضال من أجل الحرية والمساواة. عندما نأتي إلى هذه الدنيا لا ندرك في الحال بأننا عرب في دولة يهوديّة، بل نولد أحرارًا ومنزهين عن أي فكرة سياسية. لكن من جيل مبكّر نبدأ نستوعب الحقيقة المُحبِطة والمخيّبة للأمل، حقيقة كوننا ننتمي لأقليّة متدنية المكانة، تعاني من تمييز واضطهاد الأغلبيّة. على هذه الخلفيّة ننشأ ومن خلالها تبدأ هويتنا السياسية بالتبلور.
وأنا لا أزال طفلاً صغيرًا بدأت أنشغل بكوني فلسطيني وبأن هنالك أرض فلسطينية محتلة وبأن عليّ أن أؤيد تحرريها من الاحتلال. كنت صغيرًا جدًا حين صرت أجلس بجانب أبي وهو يتابع، في التلفزيون، الأخبار باللغة العبرية. المذيعة كانت أحيانًا تقول "أشاف"، فأظنها تتحدث عن شخص اسمه "أشرف"، ومن كثرة ما كرَرَت الاسم صرت متأكدًا من أنه لا بد من أن يكون قائدًا فلسطينيّا هامًا، حتى أني بادرت بسؤال أبي: "بابا، مين أشرف؟ هل هو رئيس الفلسطينيين؟"، فأجابني ضاحكًا: "هذا مش أشرف، هاي ‘أ.ش.ف’، اختصار ‘إرجون شحرور فلسطين’، يعني منظمة التحرير الفلسطينيّة".
اهتمامي بالسياسة وأنا طفل ما كان ليقتصر على الساحة المحليّة والفلسطينيّة، بل تعدّاها إلى الانخراط في السياسة الدوليّة. يومها كان العالم مأزومًا في الحرب الباردة. ونحن نلعب "ناس وناس" بلعب الـ"باربي" مع بنات الجيران، كنت أتجادل عن من الأفضل، أمريكا أم روسيا؟. كنّا جميعنا نبدأ نتخيل حالة اندلاع حرب نووية بين المعسكرين، الشرقي والغربي. وأذكر أني حين كنت أسمع فرقعة، ربما جراء انفجار عجل سيارة تمر في الشارع، كنت أتوجس من أن الحرب النوويّة قد ابتدأت، ثم سرعان ما أعود وأستنشق الهواء وأقول لنفسي "نشكر ربنا انو طلعت هاي المرّة سليمة ".
حتّى دعابات وسماجات جيل المراهقة لم تكن تخلو من السياسة. حين كنّا نركب الباص، كنا أحيانًا نبدأ بالحديث بالعربية بصوت عالٍ، فيقول أحدنا "وين السلك" فيجيبه آخر "هياه، يللا .. الله أكبر". هكذا كنا نحاول أن نخيف باقي الركاب. ربما كنا نريد، بهذه الطريقة المضحكة أن نقول لأنفسنا أننا، نحن أيضًا، فلسطينيون. وحين زارت البلاد فرقة روك أمريكية اسمها "Rage Against the Machine"، أي "التمرد على الماكينة"، قررنا أن نكتب بيانًا سياسيا ونرسله لأعضائها الذين علمنا أنهم من الهنود الحمر. وفعلا، كتبنا لهم خطابًا عن الشبه بين وضعنا كأقليّة وطن وبين وضع الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، وعن أن على كل منّا أن يؤيد قضية الشعب الآخر. كتبنا الرسالة وذهبنا إلى العرض ورميناها خلال العرض على المنصة.
هذه أمثلة قليلة عن كيف أن الوضع السياسي الشاذ الذي ترعرعنا فيه قد طبع أثره الواضح على طفولتنا وشبابنا، بل ودفعنا إلى اتخاذ مواقف وإلى سلوك مسالك لم نكن لنتخذها أو لنسلكها لو أنا نشأنا في ظروف طبيعيّة. وأنا أفكر في هذه الأمور وجدتني أقول لنفسي: "خسارة على الطفولة وعلى تسييسها في جيل مبكر". أخذت رشفة من السيجارة ومن القهوة وفكرت في أني قد صرت اليوم ملوّثًا بالسياسة أكثر بكثير مما كنت عليه وأنا طفل.