رجوع فرويد العربي بقلم: فؤاد سليمان

مراسل حيفا نت | 26/05/2010

من حسن حظي أن زوجتي تحب قراءة كتب الفلسفة والعلوم، لأن هذا يعطيني الوقت اللازم لكي أمارس أمورًا أخرى أحبها، ولحسن حظي أيضًا أن أبي يعمل في ألجامعه، فهذا يسهّل علي معاملات استلاف الكتب من مكتبتها.  بعد أن صففت سيارتي قرب الجامعة، مشينا، أنا وزوجتي، باتجاه المكتبة. تركتها تبحث عن الكتب وأرخيت العنان لقدميّ فقادتاني بصورة تلقائيّة إلى "كافيه ديشي". إنه المقهى الذي أعتدت أن أجلس فيه حين كنت طالبًا، أشرب فيه القهوة وأدخن السجائر. يومها كنت أتعلّم في قسم علم النفس. بعد أن تخرّجت، قررت أن أكتفي باللقب الأول وأن أبدأ مسيرتي الأدبية والفنية. يومها قالت لي زميلة يهوديّة:"حافال!! …فبالنسبة لي أنت فرويد العرب".

وأنا أجلس في "كافيه ديشي" لاحظت أنه لم يتغير فيه شيء. هو لا يزال، مثلما تركته، مكان تجمّع الطلاب العرب. يجلس فيه أعضاء الجبهة على طاولة وأعضاء التجمع على طاولة أخرى ويبدؤون بالجدال الذي يحمى أحيانًا فيتحوّل إلى طوشة عموميّة. النشاطات السياسيّة والمظاهرات والانتخابات والخلافات بين الخلايا الحزبيّة لم تتغيّر، وهي التي ربما تكون قد حدت بطلاب اليمين العنصريين أن يُطلقوا على جامعة حيفا اسم جامعة "بير زيت الثانية". أما أنا، فكنتُ دائمًا خارج هذه المعمعة.

وأنا جالس أدخّن وأشرب القهوة، تذكرت كيف أن الكثير من الصبايا العربيات، اللواتي بدأن تعليمهن معي في السنة الأولى، سرعان ما تركن الجامعة وتزوجن. إنها ظاهرة لا بدّ أن يكون كلّ من تعلم في الجامعة قد لاحظها. أنا شخصيّا كنت مغرمًا بإحدى هؤلاء الصبايا وأذكر أني أهديتها يومًا كاسيت أغنية "بلا ولا شي" لزياد الرحباني وأرفقته بمقدمة غزلية كتبتها لها، لكنها اختفت فجأة، ثم سمعت بأنها تزوجت وتركت تعليمها، فحزنت حزنًا شديدًا.

لي الكثير من الذكريات في هذه الجامعة. من هذه الذكريات الأحاديث التي كنت أجريها مع "أنطون"، عامل النظافة الروسي الذي كان دائمًا يحدثني النكات "البايخة" التي كنت أضحك منها فقط لكي لا "أفشّله"، وقد نقلت شخصيته في كتابي الاول "صائب والبلاد المقدسة" حيث كان "أنطون" إحدى شخصياته الرئيسية.

بعد أن أنهيت تعليمي اشتغلت لفترة في وحدة القيادة الاجتماعية في الجامعة ، ثم في المركز اليهودي- العربي فيها، كمنظم لفعاليات طلابية. وهكذا فإنه بإمكاني القول بأن لي تاريخًا في هذه الجامعة واني جلست في قاعاتها ومقاهيها وتعرفت على طلابها وأساتذتها. أما الآن وبعد ابتعادي عنها واكتشافي بأن هنالك حياة خارجها، فإني أعود إليها تلبية لحاجة زوجتي للكتب. نعم، ها أنا أعود كزائر لأرى الطلاب الجدد وأجلس في "كافيه ديشي" وأشرب القهوة مع السيجارة وأستعيد الإحساس القديم الذي أحسسته كتلميذ واستمتع مرة أخرى برؤية الصبايا المتجولات حول الـ"كافيه ديشي" وأفكر بأن الكثيرات منهن سوف يختفين فجأة، تمامًا كما اختفت يومًا من الأيام الصبيّة التي عشقتها.

بقلم: فؤاد سليمان


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *