هذه هي حيفا التي ألهمت بكرملها وساحلها وحاراتها الشرقيّة والغربيّة الشعراء والباحثين عن الحقيقة الحيفاويّة، لدرجة أننا أصبحنا نكتب حيفا وليس عن حيفا. فامتزجت المشاهد أمامنا، نحن أبناء الجيل الثاني بعد النكبة لندمج فيها صوراَ استذكاريّة مستنسخة من ذكريات الآباء والأجداد وننسج منها الصور والمشاهد في لاوعينا لنخرجها حقائقاَ لا لبس فيها.
وعلى الرغم من ذلك فما زلنا في بداية الطريق وبداية استقصاء الحقائق، بلورتها وإعادة صياغتها. ومن هذه الصياغات ما أجمع عليه من مميزات هذه المدينة من التسامح والعيش المشترك بين الطوائف والملل والقوميات. هذه الميزة- الظاهرة التي تخص حيفا أكثر من مثيلاتها من المدن في هذه البلاد تحولت إلى الامتياز التجاري لتصبح سلعة تسويقيّة لمن يريد وكيفما يريد.
تكاثرت وتناثرت الاقتراحات كالفطريات بعد المطر…. لا ضير. فليكن. فهذه الظواهر لن تنتقص من حقيقة الدو- قيوم تاريخيّاَ
السيد – الخواجا ديامنط
في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي يهاجر الشاب ديامنط مع والديه من إحدى الدول الأوروبية ليحط رحاله في مدينة حيفا "أم الغريب" ليسكن مع والديه في بيت يقع على تخوم حارة الكنائس، وقد جرى تسجيله بالطابو بعد شرائه عدّاَ ونقدا.َ بطبيعة الحال فقد اكتسب الشاب ديامنط دون والديه ما يمكن اكتسابه من مكنونات المجتمع الفلسطيني. فحفظ اللغة العربية واللكنة واللهجة الحيفاويّة والعادات والتقاليد لتخاله ابنا بارا لهذا المجتمع لولا زرقة عينيه وبياض وجهه. وما ان تذوق الأطعمة الفلسطينيّة حتى أدمن على الملوخيّة بنوعيها "الناعمة" و "الورق" ولن ينس أول مرة ذاق بها ملوخيّة دار عبد الرحيم حين "لخّت معدته" فلازم الفراش عدة أيام. وعلى ما يبدو فان الدو- قيوم لا يمكن التعبير عنه دون الطعام والأكل المشترك وصولا الى أيام الحمص لتتم النبؤة حسب بشارة النكبة في سفر دهورها قائلين: هو ذا ننجّف (ننشف بالعبرية) صحون الحمص مع بعضنا البعض في وادي النسناس فإذا لم يحضر الحمص على موائدنا المشتركة كان لنا "القيوم" فقط واذا حضر كان لنا "الدو".
تستهوي الشاب ديامنط الحركات الشبابيّة والكشفية والنوادي العربيّة لا سيّما الرياضية منها. إلا ان الحركة الصهيونيّة وتنظيماتها المتنوعة في المدينة تستدعيه وتلاحقه وتقنعه بالعدول عن فلسطينيته، لأنه يهودي وليس له علاقة بذلك المجتمع. يتخبّط الشاب بين انتمائه وأفكاره وبين واقعه غير البسيط فيقرر الوقوف بين- بين مستثمراَ كل جهوده في الحياة التجاريّة التي تطورت في حيفا منذ الثلاثينات ليعمل مع أبيه في متجر في شارع يافا تمّ استئجاره بالمفتاحيّه من عائلة حيفاويّة عريقة. حتى 22 نيسان 1948 سارت الأمور كما هي على الرغم من توتر الأجواء حيناَ وصفائها أحيانا أخرى بين اليهود والعرب في المدينة. وفي 23 نيسان من نفس السنة تنقلب الأمور رأساَ على عقب ويتبدل المالك بقدرة قادر ليصبح المالك "الوصي على أملاك الغائبين" ويستمر الشاب وأبيه بدفع الإيجار الشهري "للمالك الجديد".
تمر السنوات …….. يتفولذ ديامنط الشاب ويصبح خواجا حسب أعرافنا ويتخذ له اليسارية مبدأ وممارسة ….. يعرض "المالك" الجديد صفقه أمام الخواجا باقتناء مكان العمل ليسجل في الطابو على اسمه بأسعار مغرية. يرفض صاحبنا هذا العرض جملة وتفصيلا مصراَ على أنه لا يستطيع اقتناء شيئ مسلوب ومسروق, حتى أنه وصف "المالك الجديد" بالحرامي وبالتالي فالصفقة لاغيه وملغية على اعتبارها غير قانونية بعرفه, الا أنها قانونية بعرف الدولة…
لقد حلف الخواجا ديامنط أغلظ الإيمان وبالقسم أنه لن يكون شريكاَ في هذه الجريمة لطالما لم يعد إلى البلاد المالك الحقيقي.
وعندما تمّ استدعائه أمام ممثلي "الوصي على أملاك الغائبين" قال لهم بأي حق تعرضون عليّ هذه الصفقة, الم يكفيكم أنني كنت أدفع لكم الإيجار الشهري بشكل غير قانوني؟ اعلموا أن المالك الحقيقي سيعود حقا سيعود… حقاَ قام . حيّ ! وحدوا! لا إله إلا هو الحي القيوم.
***************************************************
وفي رواية أخرى لتعميق "الدو" و"القيوم" والحي القيوم, قامت أم رمزي بنت غنطوس من بيتها الكائن في أحد الإحياء العربيّة المتاخمة لمنطقة الأعياد والمناسبات. قامت تبحث عن ضمة خبيزة لتضمها لاثنتين كانت خرطتهما في وقت سابق. ولا بدّ من أن تصل السوق – المكان والزمان. هذان البعدان اللذان إنتقلا من زمان ومكان تمّ القضاء عليهما
في تلك الايام ليحلاّ ويهّلا في سوقنا العزيز.
تخرج بنت غنطوس من البيت وتتجه نحو السوق فيكون لها اللقاء الاول بعد 62 عام مع "المحسوم" (الحاجز بالعبرية) وما يقف من ورائه من تاريخ وذكريات من قريتها الجليليّة. ففي البداية ظنت أنها ستتمكن من دخول السوق من مداخل أخرى فانتقلت إلى زقاق آخر اعتادت الدخول منه, الاّ أنه أيضاَ كان محسوماَ. إشتدت عليها الذكريات بازدياد "المحاسيم" علماَ بأن للسوق أكثر من عشرين مدخلاَ.
لم تعلم, وليس من واجبها أن تدرك كنه هذه الإجراءات التي ربما تكون لصالحها وحماية أمنها الشخصي. إلا أن مهمتها اقتضت بشراء الخبيزة. وبعد يأسها من الدخول الاعتيادي قررت القيام بعملية جريئة غير عادية- اقتحام المدخل. استهمت. تأهبت. هجمت. أوُقفت. سُئلت. بأي ذنب؟ فهنا كانت المجابهة الأولى بعد ستة عقود من الدهر ليسألها الحارس الى أين؟ وماذا في حقيبتك؟ لم تأبه لاسئلته فبدأت تقص عليه مما أُنزل عليها من وحي وبلسان فصيح عن قصتها الثمانية –أربعينيّة وخروجها وهي فتاة صغيرة من قريتها مشياَ على الاقدام لتبلغ القرى المجاورة عن المخاطر المحدقّة بهم وليكونوا على أهبة الاستعداد!!! وتقصّ علية أخبار المجزرة التي تمت فعلا في قريتها. يمل الحارس من حديثها الا أن اسلوبها الشيق في الحديث جعله يصغي لكل كلمة تخرج من بين أسنانها البيضاء على الرغم من تجاوزها عقوداَ لا بأس بها. وكلما هزّ الحارس رأسه علامة للرضى والاستمتاع زادت من قصصها وروايتها حتى وصلت الى الخبيزة…..
دخلت السوق ظانة أن روايتها قد مكنتها من ذلك كتعويضاَ مما حدث لها ولقريتها في تلك الأعوام. الا أن واقع "ضمة الخبيزة" هو ما مكنها من الدخول لتستمتع بشرائها ولتنعم ببرامج الأعياد والمناسبات وليكن حيّها قيوماَ قدوساَ الى يوم الدين