قبل عدّة سنوات بدأتُ بتسجيل أغانٍ كنت ألّفتها في أستوديو لصديق لي في عتليت. يومها كنتُ مهتمًا جدًا بمشروعي الموسيقي، حتى أني كنت أذهب أسبوعيًا في القطار إلى عتليت وأمشي مسافات طويلة فوق رمال شاطئ عتليت حتى أصل إلى الأستوديو. لم يكن يضايقني السفر ولا مشي المسافات الطويلة، بل كان الأمر ممتعًا، فعملية التسجيل لا تقل متعة عن عملية التلحين أو التأليف، وكان صديقي، صاحب ألأستوديو في عتليت، يساعدني على فهم الموسيقى واستيعاب كل ما يتعلق بالتوزيع وإتقان العزف والغناء. ومع أن التسجيل كان بطيئًا، إلا أني تمكنت خلال سنتين من تسجيل مجموعة من الأغاني تكفي لإصدار "ديسك". ما حصل بعدها هو أن اهتمامي بالموضوع اعتراه الفتور. لا أدري تمامًا لماذا حصل ذلك، لكن بعد مدّة من النشاط،، والذي تخلّلته عدّة عروض موسيقيّة، بدا لي أن فكرة أن أصبح مغنيًا لا تتلاءم مع نظرتي لنفسي. "سأصبح مغنيًا وعازفًا؟!" صرت أسأل نفسي ثم أجيب بأن هذا سوف يتطلب الظهور في عروض موسيقية كثيرة، وهو أمر يستدعي الكثير من الجهد والتوتر الذي لا أريده في حياتي. ربما لهذا السبب وربما لأسباب أخري لست واعيًا بها، فقد عزفت عن كل ما يتعلّق بالإبداع الموسيقي كما وعن تسجيل الأغاني والظهور في عروض موسيقية.
وعلى ما يبدو فإن الموسيقى قد عادت لتشغلني من جديد. لقد بدأ ذلك بأن سمعت بنصيحة لصديق عزيز وأرسلت الأغاني التي كنت ألفتها إلى شركة توزيع في تل-أبيب. بعد مدّة وصل رد الشركة بأن الموسيقى أعجبتهم وبأنهم معنيون بإنتاج ألبوم وبتوزيعه. ذهبت للقائهم في استوديوهات التسجيل وبحسب طلبهم فقد رافقتني في اللقاء زميلة عربيّة هي خبيرة في الإعلام والعلاقات العامّة. حين وصلنا إلى مكاتب الشركة حيّانا أحد أفراد الطاقم ثم ذهبنا للقاء المدير. هناك دار الحديث عن أمور شتى متعلقة بالموسيقى وبالأغاني، لكن كما هو متوقع حين يلتقي اليهود بالعرب، فإن الحديث سرعان ما تحوّل إلى نقاش سياسي. خلال الحديث نظر المدير ناحيتي وقال: "أردت أن ألقاك لكي أفهم من أنت". عندها لعب الفار في عبّي وأزعجتني فكرة أن تكون السياسة قد عكرت الأجواء وأفسدت ما جئنا من أجله، فنظرتُ إليه وقلت "لا تقلق، أنا لست انتحاريًا بل عربي مسالم". لكن تبيّن، لحسن الحظّ، والذي لا يُحسن من أمرنا في هذه البلاد، أن خوفي لم يكن في محلّه وأن مدير الشركة يحمل مواقف سياسيّة تقدميّة وأنه يتطلع للتعامل مع مبدعين عرب.
بعد عدة أسابيع من اللقاء وصلتني بالبريد الالكتروني مسوّدة العقد من الشركة. وها انا أجد نفسي الآن مستلقيًا على الكنبة، بينما العقد بصفحاته العديدة وبنوده اللانهائية والمنصوصة بلغة عبريّة قانونيّة لا أفهمها، ملقى على الطاولة المجاورة. ها أنا على وشك التعاون مع شركة إنتاج يهوديّة والعقد الملقى أمامي، إذا ما تجاوزنا لغة القانون الجافة يعني ما يلي: أنا عربي أطمح في أن أشق طريقي كموسيقي وهم يهود يهتمون بالموسيقى ويعملون في مجال تسويقها، نريد أن نتفق ونساعد بعضنا البعض من أجل الموسيقى والنقود، وذلك بغض النظر عن الاختلاف في آرائنا السياسية والصراع الدائر بين شعبينا على الأرض والموارد وبغض النظر عن الغبن والاضطهاد وانعدام المساواة.
زميلتي الخبيرة في العلاقات العامّة قالت خلال اللقاء مع المدير: "ربما يضعون عليه ‘إكس’ لأنه يريد التعامل مع شركة يهودية" فأجابها "إني أفهم هذه المقاطعة من قبل الفنانين العرب للشركات اليهودية". أنا أيضًا أتفهم مثل هذه الإستراتيجية لكني أعارض التوجه المتطرف الذي ينادي بتطبيقها بشكل شامل بل أقول "إن كان هنالك يهوديًا يتعاطف معنا ويريد أن يمد لنا يدها، فالأفضل أن لا نرد اليد الممدودة وأن نتعاون معه، فليس كل اليهود عنصريون وأشرارا.