ما أبهاها ساعةً وأجملها لحظاتٍ عندما فُتِحَ الستارُ مُعلِنًا افتتاحَ العرض بحيث باتَ الجميعُ صامتًا، مترقِّبًا ومُنتَظِرًا مجرياتِ الأحداث التي ستَكشِفُ لنا سرَّ الفتاة التي دُعِيَ العرضُ على اسمِها. تلك الفتاة التي عاشت ويلاتِ الحروب ومآسيها وبلاياها وكأنّها أصبحت خرّيجةَ الكلياتِ الحربيّة التي لا تُعلِّمُ إلا استراتيجيّات الدمارِ والقتل والارهاب. مُحَفِّزاتُ كثيرةٌ جَعَلَتنا نتوقُ لحضورِ هذا العرض سأتطرَّقُ إليها في سياق مقالتي هذه.
يُعلِّمُنا الكتابُ المقدَّس أنّ الموتَ قويٌّ ولكنّ الحبَّ أقوى لأنّ اللهَ محبَّة، وهذه المقولة هي فعلاً الحقيقةُ بذاتِها. فالحربُ الشرسة لم تقتلْ أحلامَ ماريا ولم تقوَ حتى على مَحوِ ذكرياتِها الجميلة مع أصدقائها في بلدتِها ولم تستطعْ أن تقتلعَ وردةَ الحبِّ العَطِرَة الرائحة من مُخيَّلتِها بل بَقِيَتْ حيَّةً خالدةً في قلبِها وفي ذهنِها وفي كيانِها. فهل يكونُ الموتُ والحربُ أقوى من الحبِّ والحياة؟!
أصبحنا نعيشُ في عالمٍ كاد أن ينسى كلمةَ "سلام" وأنّه كاد حتى أن يُلغيَها من قاموسه. فقد أصبحَ الإنسانُ بكليَّتِه أسيرًا لعبوديَّةِ الموت والارهاب الفكريّ، الدينيّ، السياسيّ، الاجتماعيّ والعائليّ وفَقَدَ بالتالي هويَّتَه الحقيقيَّة وكرامتَه الإلهيَّة وتناسى أنّه "مخلوقٌ على صورةِ الله ومثالِه". وإذا ما فتحنا التلفازَ أو الراديو رغبةً منّا في سماعِ القليل من الأخبار، فإنّها تأتي تحت عناوين الحروب والقتل والدمار والبشاعة والظلم والاستبداد، وكأنّ الإنسانَ أصبحَ ذئبًا لأخيه الإنسان، فهل هذه هي إرادةُ الله في الكون الذي خلقَهُ بيدَيه، أن يتناحرَ الأخُ وأخوه؟! هل عُدنا إلى زمنِ هابيلَ وقايين الذي قتلَ أخاه بدمٍ باردٍ وكأنّ شيئًا لم يكن؟ هل دَخَلنا في حقبةٍ تاريخيَّةٍ جديدة تدعو إلى إلغاءِ الآخر وسلبِه كيانه وهويّته الذاتيّة والاجتماعيّة والوطنيّة، وجعلِه قابعًا في معتقلِ الظلم والنسيان؟
"صرخةُ ماريا" تُعبِّرُ بأدقِّ تفاصيلِها عن صرخةِ كلّ طفلٍ في العالم يريدُ أن يعيشَ حاضرًا مستقرًّا حالِمًا بمستقبلٍ تكونُ ثمارُهُ يانعةً وشمسُه شارقةً مُنبأةً له بفجرٍ جديدٍ يحملُ في طيّاتِه الأملَ والرجاء بحياةٍ أفضل. وكم ينتابُنا شعورٌ مليءٌ بخيبةِ الأمل والإحباط عندما نرى أنّ هذه المقولةَ لا تنطبقُ على أطفالِ غزّة المحرومينَ من أبسطِ حقوقِهم الطبيعيّة، المدنيّة، الإنسانيّة والتعليميّة وكأنّ الحياةَ أصبحت بمعتقداتِهم بلا هدفٍ يرجونَه وبلا مستقبلٍ يتوقونَ إليه. هذه هي حالُ الكثيرين من أطفالِ هذا العالم، راجيًا أن تكونَ "صرخةُ ماريا" صرخةً في ضميرِ وقلوبِ حكّام هذا العالم، ليستيقظوا من سُباتِهم العميق الذي أصبحوا أسرى له ويعملونَ كلّ ما في وُسعهم لتحقيقِ العدالةِ الكونيّة من خلال السلام السلام السلام. "صرخةُ ماريا" دعوةٌ موجَّهةٌ إلى عمقِ كلِّ إنسان، إنّها تُخاطِبُ قلبَه وعقلَه وإرادتَه؛ إنّها تُخاطبُ الإنسانَ المتعطِّشَ للدماء والثأر والجائعَ للحروب والإبادة والقتل، لتجعلَ منه إنسانًا متعطِّشًا للسلام والوداعة والتآخي وجائعًا إلى تحقيق أُنشودةِ الفرح والرجاء والأمل إلى كلّ طفلٍ معذَّب: إنّها أُنشودةُ الملائكة الذين بشّروا رعاةَ بيت ساحور بميلاد المخلِّص، قائلين: "المجدُ لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة"؛ إنّها تطويبةُ السيّدِ المسيح الذي أعلنَ في عظتِه على الجبل قائلاً: "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون". هنيئًا لنا إنْ كنّا من بُناةِ السلام ذي الأبعاد الثلاثة: السلام مع الذات؛ مع الآخر ومع الله تعالى.
أمّا ما يختصّ بهذا العمل الفائق الجمال والرَوعة، فإنّه لا يسعني إلا أن أحني رأسي احترامًا وتقديرًا وتبجيلاً لكلّ الذين ساهموا وعملوا بجهدٍ لإنجاحِ هذا العرض المتميِّز. جعلتم شعلةَ الأملِ مُشتعِلَةً في قلبي بأنّ الفنّ الفلسطينيّ المحليّ ما زال مِعطاءً ومُنتجًا على صعيدَي الكيف والكم. كم هو شعورٌ لا يخلو من التباهي والافتخارِ بشبابٍ وشاباتٍ وصغارٍ اتّخذوا من المسرحِ شعارًا لفنّهم الراقي والمعبِّر، هنيئًا لكم أيّها الشبيبةُ الحيّة وأدعوكم إلى مزيدٍ ومزيدٍ من العطاءات في خدمةِ مجتمعكم وقومِكم. أهنّئُ نفسي بأنّ الكثيرين من أعضاء الفرقة هم من أبناءِ رعيّتي المحبوبين الذين افتخرُ بهم فردًا فردًا. رفعتم رأسي عاليًا وكم كانت فرحتي تغمرُني عندما رأيتكم يا أبنائي الأحبّاء تُزيِّنونَ المسرح بحضوركم البهيّ وطلّتِكم المُشرِقة. واسمحوا لي من خلالِكم أن أشكرَ السيّدة فريال خشيبون مؤسِّسة جمعية سلمى للفنون الاستعراضيّة ومديرتها الفنيّة على ما تقدّمه من فنِّ راقٍ ورقصاتٍ تشكيليّة فائقةِ الروعة والدقّة. فمثلُ هذا الفنّ البديع لا يحملُ إلا هدفًا ومعنىً ورسالةً: الإنسان كإنسان. إنّنا نفتخرُ بكِ ونُهنّئ أنفسَنا عليك ونُطالبُك بالمزيد والمزيد من الأعمال الفنيّة التي تُغني بنوعيَّتِها وجَودتِها الفنّ الفلسطينيّ المحلي. وهنا أريد أن أُوجِّهَ كلمةَ شكرٍ وتقدير للشاعر الفلسطينيّ سميح القاسم والمخرج نورمان عيسى. واسمحوا لي خِتامًا أن أُوجِهَ كلماتي المتواضعة بمعانيها، الغنيّة برقَّتِها وبريقِها إلى الموسيقار الكبير ريمون حدّاد ابن رعيّتي المحبوب والذي أفتخرُ به وبصداقتِه. لقد خاطبتَ مشاعرَنا وحواسَنا بموسيقاكَ العذبة والتي لا تخلو من الروحانيّة الإنسانيّة؛ جعلتنا نشعرُ وكأنّنا في السّماء نسمعُ النغماتِ الملائكيّةِ العذبة ونتذوَّقُ حلاوةَ الموسيقى التي أعادت إلى عُروقِنا نسمةَ الحياة وفُسحةَ الأمل.
إنّ عملاً كهذا لا يستحقّ منّا إلا التقدير والتشجيع وإلى الأمام في أعمالٍ إبداعيّةٍ أخرى كهذه وإلى مزيدٍ من الإغناء لتراثنا العربي الفلسطيني، إيمانًا منّا بضرورة تفعيلِه وإغنائه ودعمِه على كافّة المستويات. بارككم الله وأنعم عليكم جميعًا بخيراتِه الأرضيّة والسماويّة.




