
في إحدى الأمسيات الأخيرة مع الصديقات والأصدقاء، عاتبني أحدهم مهاجمًا عدم زيارتي الكنيسة، وابتعادي عن الحياة الدينيّة واتهامي بأني إنسان غير صالح؛ فأثارني أسلوب الطرح، ودار بيننا نقاش طويل حول ماهيّة الصلاة والعبادة، وتقييم الإنسان بحسب عدد زياراته للكنائس أو المساجد! فهل ذلك الشخص الذي يدخل "بيت الله" مرّات عديدة في الأسبوع، هو الصالح فعلاً؟! مَن قال هذا؟! فكثيرون منهم – للأسف – يدخلون الصلاة، وأعمالهم لا تمتّ، لا من قريب ولا من بعيد، لِما تمليه عليهم صلاتهم!
لست مُلحدًا؛ فأنا أزور الكنائس في فترات متباعدة جدًا وفي مناسبات خاصّة، وصلاتي لا يجب أن تكون على الملأ ومجاهرة بين الناس – كعدد كبير من الممثّلين والممثّلات الذين يدّعون الإيمان – فتكفيني أن تكون علاقتي مباشرة بيني وبين الخالق!
إن الصلاة هي صلةُ الإنسان الروحيّة بالله خالقه. وهي التعبير الصادر من قلب المؤمن يخاطب به الله ليحمده ويشكره ويناجيه ويحادثه ويطلب منه ما يحتاج إليه. هي لغة يعبّر فيها المؤمن عن حبه لله وشكره له وولائه. ومن خلال صلاته يقدم المصلّي طلباته وتوسلاته لسدِّ احتياجاتٍ معينة سواء كانت تخصّه أو تخصُّ غيره، ويرجو الاستجابة لها.
فالصلاة علاقة فردية بين المؤمن والله، علاقة شخصية تربط الفرد المؤمن بربه. لذلك فهي ليست شيئًا يُفاخَرُ به أمام الناس؛ لأن الصلاة علاقة مع الله وليست علاقة مع الناس، فهو فاحص القلوب وعالِم بالنيّات. أما الناس إذا رأوا إنساناً يصلّي، فلا يرون إلا الظاهر؛ لذلك تظاهُر الإنسان بصلاته أمام الناس تُحذّر منه الكتب السماويّة، لأن التظاهر بالصلاة أو الصوم يعمّم الرياء ويكثر من النفاق بين الناس، ويَحْرِفُ المصلّي عن جوهر الصلاة للاهتمام بمظاهرها الخارجية وكسب مديح الناس.
الصلاة ليست تمثيليّة يقوم بها المصلّي أمام الناس لكي يحظى بمديحهم – كما يفعل العديد من زوّار "بيوت الله" – لمجرّد التفاخر والتظاهر والانخراط مع باقي المصلّين، و"حجز" مقعد في الكنيسة يلائم مركزه الاجتماعي ويحافظ على "بريستيجيه" أمام المحيطين ومظاهره الخدّاعة، بدل دخول الكنيسة بكل تواضع! إضافةً إلى تطويق نفسه بهالة من القدسيّة والطهارة، كغطاء لأعمال بعيدة كل البعد عن معنى الصلاة.
ومن الناس مَن يقيم صلاته مع ربه على أساس منفعة ومصلحة شخصيّة فقط، بهدف كسب الأموال أو الصفقات، أو لطلب الشفاء من مرض، فإذا استُجيب طلبه كان سعيدًا، وإن لم يُستجَب تراجع عن صلاته ولعَن وكَفر!
تجد بعضًا ممّن يرتادون الكنائس أو المساجد – وأنا لا أعمّم، ولا أقصد المؤمنين الحقيقيين – لحظة خروجه من الصلاة، يمارس أعمالاً، يخجل حتّى الكافر من ممارستها؛ فيحارب جاره أو أخاه ويقاتله لأتفه الأسباب، يعمل لمصلحته الشخصية، يعربد، يفرض سيطرته، يسرق، ينهب أموال الغير، يحقد، يقاضي، يعاتب، يكره، ينتقم، يسيطر، يخادع، يخون، وما إلى ذلك.. فما فائدة صلاته التي أدّاها قبل لحظات إذًا، والتي علّمته على المحبة، التصالح، التسامح، العطاء، المساعدة، الأخوّة، والصدق، وغيرها من تعاليم الدين..؟!
لذلك يقول السيد المسيح في عظته على الجبل في إنجيل متى، الإصحاح الخامس: {فإن قدّمت قربانك إلى المذبح (أي عندما تقوم بواجب العبادة والصلاة في بيت الله) وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذٍ تعال وقدّم قربانك}… وعلى هذا فكثيرون في هذه الحالة عليهم ترك القربان، وفورًا!!
وجاء في الإصحاح السادس: { ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية}.
وجاء في القرآن الكريم، في سورة الماعون: {بسم الله الرحمن الرحيم.. فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (صدق الله العظيم).
وجاء في القرآن الكريم، في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (صدق الله العظيم).
فعلى كل من يرتاد الكنيسة أو المسجد، بهدف الصلاة والعبادة أن يكون قريبًا من الخالق، لا للتظاهر وللمفاخرة أو لكسب مديح الناس أو لكسب الثناء من البشر، أو لغاية في نفس يعقوب، وإلاّ فلا معنًى لصلاته.
وكي لا يفهمني أحد خطأ، فأنا لا أدعو إلى عدم دخول "بيوت الله"، لكن لحظة دخولكم عليكم معرفة أهمية الصلاة ومعناها. تعلّموا أوّلاً المعنى الحقيقي للصلاة والعبادة، وأعطوا الصلاة حقّها – كما يفعل المؤمنون الحقيقيون – وإلاّ فاتركوا الصلاة لأصحابها!
عدد الزيارات لـ "بيوت الله" لا يمكنها أن تكون مؤشرًا لتقييم الشخص.. فأعماله هي التي تقيّمه، مؤمنًا كان أم كافرًا.
لذا يجب أن لا تُبهرنا المظاهر، فعلينا أن نحكم ونقرّر ونقيّم الشخص، بحسب أعماله لا بحسب كثرة زياراته للكنائس أو المساجد، كما يعتقد البعض!
(حيفا)




