دخل أبو العبد ذلك المكان الواقع في أعالي حي وادي النسناس في مدينة عروس الكرمل ليرتشف القهوة في غرفة "العقد" ليستعيد الذاكرة من سنوات مضت, خالها ومضة من الومضات, انطبعت على شقوق جبينة العريض والأسمر ورسمت لها أخاديد ودهاليز جلدية ترعب من يراه. دخل لتوّه بعدما وصل إلى مسامعه نبأ افتتاح ذلك المكان. وقف عند الباب الخشبي الكبير يحدق في سقف المقهى غير مكترث بالمخلوقات البشرية التي تضج بالمكان. وكأنه بدأ يحصى حجارة سقف العقد ليتأكد من عددها, فهو أبو العبد الحجار المشهور بمهنته من " أيام الانكليز".
فلم تبنَ عمارة في حيفا إلا ويداه الخشنتان لامستا حجارتها, خاصة وأنه تتلمذ على يد كبار البنائين والحجّارين أمثال "أبو بولس" وسعيد البلاط ومحمد أبو طبعة.
بقي واقفا عند الباب يمنع زوار المكان من الدخول أو الخروج إلى أن تجاوزته فتاة قد تكون ابنة حفيدته ليستيقظ من غفلة شريط ذاكرته, التي استحوذت عليه حين نظر لتلك الحجارة المرصوفة في سقف العقد. اختار له مكانا في آخر زاوية من "المحل" لكي يختلى بنفسه وليعيش داخل ذاكرته في مكان غير مكانها. فقد توقف التاريخ عند أبو العبد الحجار منذ نيسان 1948, لا يستوعب الجديد إلا من خلال القديم أو شيء يذكره به. فكل المؤثرات التي تمسك بها اختفت بسبب يد الهدم في "البلد", فما تبقى له هو هذا ألواد بأبنيته الحديثة- القديمة . فأبو العبد لا يذكر الأحداث التي حصلت قبل يوم أو يومين, إنما تنشط ذاكرته وتبدع في استذكار ما حدث قبل سبعين عام أو أكثر.
بدا أبو العبد يتفحص المكان كأنه آس يجس عليلا ينظر إلى أعلى والى الأسفل, إلى اليسار والى اليمين لكنه لا ينظر إلى الوراء, لأنه الماضي ومآسيه, ولسان حاله يقول "لا عين تشوف ولا قلب يحزن" ولا ينظر إلى الأمام كي لا تصيبه "الصفنة" جراء ما يحدث في العالم من تغيرات. بدأ يركز اهتمامه بما يعرفه من عالم البناء والبنائين والحجارة وفن صنعها. كانت تكفيه نظرة خاطفة إلى العمارة كي يصف نوع الحجر, أصله وفصله. فالحجارة أنواع وأصول تماما كالبشر فلماذا نقول "للحجارة آذان, انطق أيها الحجر و.. " هكذا كان يقول.
ويتابع "هنالك أبو صرة (الحجر البارز) والطبزي والمسمسم (الناعم) والمطبة والمجلي والتلطيش, أما أنا فكنت أحبذ حجر التلطيش لأنه يجمع بين المسمسم والطبزي. فكان هذا النوع من الحجارة يناسب عقلي وتفكيري فلكل حجر طابع مستقل عن الآخر لذلك اسمح لنفسي مخاطبته ومحاكاته حتى حسبني الناس مجنونا, لأنني كنت اكلم الحجر تارة والمالج والمهدّه (من أدوات أعمال البناء) تارة أخرى. هذا حصل فعلا عندما كنا نبني عمارة اللاتين في ساحة الحناطير, حيث كان لزاما على أن أضع البرطاش (القسم الأسفل من حجر الشباك), لكن "ولعجقتي" تعثرت "بالعتلة" (أداة لإخراج المسامير) فجرحتني , حينها انهلت على حجارتي باقذع الشتائم ولا سيما ذلك الحجر "المجلي" الذي لم أطق رؤيته منذ البداية. لكن شتائمي تحولت بعد استراحة قصيرة إلى حديث ذي شجون مع هذه الحجارة , التي سحرتني بتكحيلتها وعرقتها وسكوفها (السكوف- حجر مصقول يوضع على طول الشباك).
ومن زاويته المخفية طلب كأسا من العرق خاله دكلوشا الا انه كان حدادا , فقد تنازل عن القهوة لأنها لن تشبه حتما قهوة مقهى ادوار أو مقهى ادمون في شارع الملوك التابعين للأخوين الياس. هذه المقاهي التي كانت معلما هاما في شارع الملوك وموعد لقاء لكل الأحبة ولكل زوار حيفا.
في وادي النسناس وبالذات في هذا المكان يخرج أبو العبد كل ما تبقى له من تيارات كهربائية داخل خلايا مخه ليوظفها في استعادة حقبتين مترابطتين من تاريخ هذه المدينة. لكن هذه المهمة صعبة جدا , ولكي يريح نفسه من إشكالية ترابط هاتين الحقبتين قرر أن يتجول في شريط وادي النسناس, الذي سكنه بعد النكبة , حيث حشرت العائلات في هذا الحي ومنعت من مغادرته.
في الخمسينات كان أبو العبد ذلك البناء الذي ساعد اغلب العائلات ببناء بعض الإضافات الضرورية , ومنها هذه البناية التي يجلس فيها غريبا عن مكانه وزمانه.لا, انه ليس غريبا , فصاحبة البناية التي يجلس فيها أم سامي أمد الله في عمرها تذكره ويذكرها ويذكر أولادها جميعا. انه ليس غريبا لأنه يعرف كل العائلات التي سكنت وادي النسناس ولا سيّما القسم العلوي منه. وكان التقسيم على النحو التالي: من مقهى أبو شقارة حتى الحسبة (السوق)- الأسفل, ومن مقهى سيمون إلى دكان الجمّال- الوسط, ومن الجمّال الى ام عزّو –العلوي . نعم , انه يذكر أيضا ذلك اليهودي الذي سكن العقد حيث كان يرمم الراديوهات ذات اللامبات والعيون المخيفة وكذلك العائلة اليهودية المغربية "أبو شلطوفة" والمشرد نديم, سعيد المصري الملقب بالدكتور, أم موسى, المختار, قسيس, أبو نادر, سليم الأصلع, البدوي, أم احمد "باقة" وتينتها, زورو- كلب دار حمّانا وغيرهم من الرموز, التي عاشت هذا ألواد بحلاوته ومرارته.
إذن ما ذكرناه في البداية غير دقيق. فأبو العبد لم يدخل لتوه. دخله عمدا ليشغل شريطه السينمائي ليقص علينا أحاديث الدهور وليستنطق كل حجر حتى "المجلي" منه دقّ في وادي النسناس.
وضع أبو العبد أمامه نسختين من المشاهد الواقعية من أزمنة متباعدة. تراءت أمامه صورتان
مدمجتان- مقهى ادمون في شارع الملوك ومنصته وكراسي القش وصور البكوات والبشوات
المعلقة على الحائط الشمالي منه والطاولات السوداء ذات الأرجل المنحوتة بدقة النجار عبد الله النصراوي والتي تزينها كؤوس العرق البيتي ومزات من فستق العبيد المحمص على يد أبو جميلة السوداني, والزبائن من الإناث والذكور المعتمرة للطرابيش الحمراء الاسطنبولية والنادل أبو مريول وعازف القانون المصري والمطرب الصيداوي الذي أبدع بأداء الأدوار والموشحات والطقاطيق لسيد درويش والمينيلاوي والخلعي والصفطي وأبو العلا. تزداد الصورة رونقا بدخول بديعة مصابنة المقهى على حين غرة لتستريح من عناء سفرها من بيروت متابعة رحلتها إلى القاهرة . يذكر أبو العبد في هذا المشهد أيضا ذلك الطالب الجامعي الذي ينهل العلم في لندن حين اعتلى المنصة وألقى شعرا حماسيا ضدّ الاستعمار ومآربه. وفي تلك الليلة كان أبو العبد شابا يضع الطربوش مائلا إلى الجانب الأيمن رمزا للتجديد والخروج عما هو رسمي ومألوف. دفعته كؤوس العرق والغناء الطربيّ للرقص بجانب رفاقه على كرسي القش, الأمر دفع صاحب المقهى بإبداء الملاحظة حرصا على سلامة الكرسي المصنوع من القش. بالمقابل يظهر على شاشة أبو العبد الحالية مقهى جديد في وادي النسناس العلوي ذي المنصة لكن مع الميكروفون وكراسي صلبة ورسومات حديثة- تجريدية وطاولات مزودة بالكؤوس الملونة من الفودكا والجعة وغيرها من أنواع الكحول ومزات من الفستق و "البيجلة" والزيتون وزبائن غير مكترثة بماضي الزمان ولا بآت العيش. يعتلي المنصة ذلك الشاب العكاوي النغش ليداعب أوتار العود بمرافقة الايقاعجي العكاوي آية في الروعة- روعة الكلام واللحن والصوت والأداء الجميل. هذه هي الأغنية العربية. وتزدان القعدة جمالا بارتجالات حيث أدى غناءا رائعا لعبد الوهاب وفريد الأطرش. يعود العكاوي الأسمر ذي اللحية غير المتناسقة ليؤدي أغنية حلم لام كلثوم . وهنا كانت المفاجأة. لم يتمالك أبو العبد نفسه ولم يكتم أنفاسه, ابن الثمانين يقف على رجليه وعصاه بيده اليمنى ويده اليسرى منطلقة في الهواء تشير إلى بداية الرقص. نعم..
أبو العبد يرقص في المكان والزمان في وادي النسناس, ظانا انه يرقص في مقهى ادوار او في مقهى الداموني في محطة الكرمل او في "العوالم".
ابر العبد يرقص على نغمات "حلم" غير مكترث أين هو؟ من هو, انه طرب, انه…
انتهت هاتان الصورتان المدمجتان.. إلا أن أبو العبد لن يتنازل عن قص روايته الذاتيّة, التي تشكل جزءا من الرواية الجماعيّة, فما كان عليه إلا أن يحشر صاحب المكان والزمان ليحدثه المزيد عن هذه الرقعة من المساحة التاريخية- وادي النسناس.
ويبقى هذا المكان محاولة إبداعية لاستنساخ عضوي وجدليّ لذلك الحيّز الوجودي والمجتمعي الذي كان سائدا في جزء آخر من هذه المدينة. فلهذا المنبر ذوق خاص به تستطيع أن تتفاعل معه, مطلقا لخيالك العنان والاسترسال وتشغيل اسطواناتك التي تحملها منذ 62 عام لتضعها على الحاكي- ليحكي ويروي الرواية. كلنا من ألواد والى ألواد سنعود.