جئت من ذلك العالم السرمدي اللامنتهي وقد أعطتني الطبيعة جينة من جيناتها, بحيث أصبحت جزءاَ منها – جزءا من الأخذ والعطاء. آخذ منها الهواء والماء والتربة وأعطيها ما تشاء من الظل والثمرة واللون الأخضر اليانع والرائحة الشذيّة, تخالها المسك والعنبر والعقيق. وأعطي لمنتوجها الآدميّ سر الوجود وإكسير الحياة حين يصنع من أزهاري وأوراقي سوائل شافية تبلسمه في مأزقه التي ازدادت عددا وما نقصت.
أنا من عائلة تلك الشجرة التي أُمرَ الأنبياء بعدم الاقتراب منها, ومنهم من أمرني بالجفاف "فجفت في الحال". لا لم أنشف بعد. فما زلت رغم الشتات والهيام في القفار أورق متما شئت وكيفما إتّفق.
.jpg)
لا أذكر كيف نشأت, كيف ترعرعت , ومتى ومن زرعني في تلك الأرض الرملية المخلوطة ببعض من الأتربة الحمراء, هل كان ذلك منذ أزل التاريخ؟ أمن العصر الحديدي والبرونزي ومجمل التسميات اللاتينية لتلك العصور! أم من عهد الكنعانيين والفراعنة والهكسوس فالفرس واليونان والرومان وسليمان وداود والأسباط أم من العرب العاربة والبائدة والقيس واليمن أم من الأتراك والانكليز و……….. ودولة اليهود. لا أدري!
أذكر فقط ذلك الطفل الأرقش الذي أتى بي شتلة صغيرة كادت أن تذبل من شدّة حرارة نيسان على غير عادته, أيام شمّ النسيم وخميس الأموات والشعانين والقيامة. وضعني بعدما حفر حفرة في ارض حارة الزيتون المتاخمة لأراضي التمبليريين من الألمان غربا وارض الموارس شمالا وأراضي دير الكرمليين جنوباَ. فقد أودعني ذلك الأرقش امانة للأجيال.
.jpg)
ها أوراقي الجديدة التي نهلت العلم في جامعات الأشجار الجديدة تحتلنني بأنني زُرعت في العام 1870 في عهد الأتراك العثمانيين مؤكدة بذلك أن لي شهادة ميلاد تثبت موقع الولادة في حيّ الزيتون وتحديدا شارع أللنبي بقرب العمارة التي تحمل الرقم 161 ( سنأتي على ذكرها فيما بعد).هذه هي المرة الأولى التي أدرك أن لي تاريخا مؤرخا ولي حاضرا غير مستحضر ومستقبلا لا يريد استقبالي في حلتي القديمة مع جذعي العريق الذي بلغ من الكبر عتيّاَ.
.jpg)
بقيت مغروسة في تلك الأرض منذ ذلك العهد أراقب كل ما يجري من حولي واهتم بساقي وجذوري التي ارتوت فقط من مياه الأمطار ومن ما جرف من أراضي الدير المتشامخ فوقي جنوباَ. وأقتات على سماد أوراق جاراتي التي ذبلت, ماتت, وتساقطت حولي لتعطيني مركبات جديدة لاستمراري في الحياة. فسّر الحياة باستمرارها. فما زلت مستمرة على ذكرى يد ذلك الأرقش التي لامستني وأحدثت بيّ رعشة لا يمكن وصفها قلما اذكرها, إلا حين فُضّ غشاء بكارتي في نيسان ما. وعلى ما يبدو حددته لي إحدى إزهاري البيلسانيّة لتقول لي انه نيسان ذلك العام – 1948. عندها استقبلت ذلك الغبار الذكري الذي اعمل بي سيفا من الذروة والنشوة والنسيان والهيام من شجرة مجاورة من عمارة دار الحكيم الرومي الكاثوليكيّ فأصبحت بحكم الأعراف روميّة كاثوليكية على الرغم من إسلاميتي العثمانيّة وتاريخيتي الاورثوذكسية البيزنطية طقسا وعروبيتي مضمونا وطبيعيتي الطبيعة جوهراَ.
.jpg)
كنت ألهو مع أوراقي الخضراء وأمازح أزهاري الليلكية واعزف لهم معزوفة الحياة على أنغام أوتار أغصاني وفروعي وجذعي وحتى جذوري الدفينة في باطن ارض الزيتون, فأراقصهم الدلعونا واجعلهم يدبكون الشمالية فيستزيدون برقصها ويدعون جاراتهن الفرنجيات ليشاركهن في الدبكة التي حولنها تلك الجارات لرقص دعوه "الهورا" فهل هي الهّوارة أم هي "هورا" دول البلقان وشرق أوروبا!..
كم دعوت أوراقي اليانعة وأزهاري المتفتحة للعب واللهو مع تلك الأوراق الفرنجيّة , وكم كنت أتحدث مع تلك الفرنجيات بلغة الطبيعة ولغة الإنسان وابن الإنسان فكّن يبادلنني الحديث بما هو مقتضب مقطبات حواجب أوراقهن ودانيات فروعهن ليصبحن دائرة مستديرة متقوقعة على ذاتها. كم مددت لهن أنفس أغصاني المدللة لنتلامس لكن دون جدوى. فقد ابقين ظلهن على جسدهن منعا للالتقاء معي. ظننت أن صاحب البستان لن يطق رؤيتهن …. كصاحب بستان تينة إيليا أبو ماضي إلا انه طاقهن وارخص النفيس في سبيلهن ليجعلهن سيدات الموقف ومدامات الجلسات و "القعدات" على موائد السادة والسيادة من الخواجا والأدون والمستر دون سماحة المفتي والشيخ وكلية وقار المطران أو "البطرك". هكذا!!
أحببت أوراقي وأزهاري على علاتهن لأنني الأم الرحوم والحزينة على أولادها التي صلبت ولم تقم بعد في يومها الثالث حسب النبؤة لأنها ما زالت تعاني الألم والحزن وهي في سنتها الـ 62 لتدخل في الـ 63 بعد عام .
.jpg)
أحببتهن على تنوعهن ومختلف ألوانهن ففي التلون والاختلاف ما يزيد من الودّ قضيّة . في نهاية المطاف هم من جذعي ونسلي. من الطبيعة ومن آدم وإبراهيم. ذلك النيسان آلمني كثيرا فقد سلخوا مني 70,000 ورقة خضراء وصفراء
وملونة. لن أنسى تلك البادرة التي احتضنتها جيدا وميزتها ميزة يعقوب ليوسف. رعيتها وأعطيتها خيرة مياهي واكسيري وسّر أسراري… إلا إنها قطفت لتهيم على وجهها في شتات الطبيعة لتجد نفسها في مخيم من مخيمات اللجوء في مختبر أقامته هيئة الأمم المتحدة للحفاظ على البيئة وأسرارها. ابكي تلك البادرة . باحثة عنها في شتى الشتات ألمخبريّ في مكنونات العدم اللامنتهي وفي أراشيف الدول والجامعات مع العلم أن وريقاني الحديثة وإزهارها وجلنارها كفيلة في إجراء البحث الأكاديمي مستعينة بما سأعطيها من مال وزاد.
لن انس ما حييت تلك الحادثة من العام 1945. كما قلت لكم فان موقعي كان أمرا محددا ومحدودا وموقوتا في شارع اللنبي على اسم القائد البريطاني الذي حرر – احتل المدينة من العثمانيين ليسلمها فيم بعد لصاحب البستان الذي سلب أوراقي وأزهاري . ففي ذلك الشارع كانت تلك العمارة تحت رقم 161 حيث تتبعت ساكنيها وروادها حسب رائحة الشمّ القوية التي وهبتني إياها أمي الطبيعة, إلى جانب موهبتي في رؤية ما لا يمكن رؤيته,فلاحظت أناسا مشبوهين يدخلون البناية ويخرجون منها بعد ساعات.
.jpg)
استبينت الأمر عبر فروعي وأغصاني الوارفة والمرهفة الحس ليبلغونني أن البيت مسكون بارواح فاطمة الزعرة, فهو بيت دعارة يؤمه الموظفون البريطانيون وانه تابع ليهودي يدعى "أبو يوسف" . ساكنو البيت يشتكون لدى القائمقام برسالة أرسلوها له مع نسخة لرئيس البلدية آنذاك والمؤرخة بـ 18.7.1945 ويحذرونه انه إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة فسوف يقاومون بقواهم الذاتيّة , اذكر لكم هذه الحادثة لتتأكدوا فقط من إثبات وجودي, حيث لم استطع الاستدلال والاستعانة بتاريخ أو حادثة اقرب من العام 1870- عام الأرقش.
.jpg)
للأسف كنت مضطرة لذكر هذه الحادثة غير اللائقة فقصتي مع الطبيعة أرقى بكثير من أن نأتي على ذكر مثل هذه الحادثة علما انه وعلى بعد عدة بنايات في اتجاه دار البستاني في شارع الأزرق نسجت أحاديث عن بيت مسكون بالعفاريت كانت إحدى شجرات الزيتون الرومية شاهدة عليه. كل هذه الأحداث حفظتها أوراقي وأخذتها معها إلى ذلك العالم المجهول.
هل ستحكم الطبيعة حكمها العادل وتعيدها إلي؟ هل سترغم صاحب البستان المزعوم بقرارها؟ هل ساستمر في المحاولة أنا وجاراتي للعودة إلى ارض حارة الزيتون؟
اخبرينا يا حيفا وآتينا بالخبر اليقين.




