قضيّة علاء حليحل وسفره الى بيروت عبر موافقة العليا الإسرائيليّة هي نموذج صارخ للحالة السياسيّة المعقّدة التي يعيشها الفلسطيني داخل دولة إسرائيل رُغماً عنه.
علاء حليحل ليس الضحيّة الأولى لهذه الإزدواجيّات وهذه التناقضات التي لا مناص في التعامل معها في حياتنا اليوميّة داخل إسرائيل.
النقاش يدور الآن حول هذه المسألة، ويختلط فيه الحابل بالنابل، والشخصيّ بالعام، والمبدئي بالإغراضيّ، ولكن لننظر الى المسألة بكلّ تعقيداتها كما هي وبنظرة موضوعيّة قدر الإمكان.
هناك بُعدين في هذه المسألة يجعلانها مُعقّدة ويُعمقان من حدّة المعاناة التي يضطر العربي الفلسطيني داخل إسرائيل الى معايشتها ومكابدتها والتعامل معها بإبداع أحياناً وبإنطواءٍ ويأسٍ أحيانا أخرى كثيرة:
البُعد الأول هو إزدواجيّة إسرائيل وتركيبيّة علاقتها بنا، نحن الفلسطينيين، وعلاقتنا نحن بها بالمقابل. والبُعد الثاني هو إزدواجيّة العالم العربي في التعامل مع وجودنا ومُكوّناته المعقّدة.
ولنبدأ في الجانب الأول الإسرائيلي وباختصار شديد يصعب فيه إختزال تعقيدات هذه العلاقة وتاريخها لمن يجهلها.
التناقض بين المَعيشيّ والإجرائيّ والقانونيّ من جهة وبين الوُجدانيّ والأخلاقيّ والتاريخيّ من جهةٍ ثانية، في علاقتنا مع الوجود الإسرائيليّ المُركّب، فإسرائيل دولة مؤسّساتيّة مركّبة لا دولة رَعَويّة مركزيّة كما هو الحال في كثير من الدول العربية ودول العالم الثالث عموماً، وهذا يمنحها مساحةً لتقديم المهني والقانوني والأخلاقي على السياسيّ بكلّ أبعاده اللامهنيّة واللاقانونيّة واللاأخلاقيّة في كثير من المواقف العينيّة والأحداث والإجراءات.
نحن الفلسطينيّين نعيش في هذا الهامش الذي يمكننا من البقاء على قيد الحياة وجوديّاً وكيانيّاً بكل ما تحملانه هاتين الكلمتين من معاني وأبعاد. وإلى أن يأتي "صلاح الدين المُنتظر"، على الإنسان الفرد بحكم أبسط قوانين الطبيعة والغريزة وعلم النفس والإجتماع أن يُصارع لأجل بقائه وحسب. ومفهوم البقاء يتدرّج بحسب الموقف العينيّ بدءاً بالصّراع على البقاء الجسدي ووصولاً الى الصّراع على البقاء الثقافي والروحي والجمالي الخ..
في طريق هذا الصّراع الكثير من المطبّات والمكائد واللعب السياسية القذرة، لا يسلم منها الكثيرون منا بوعيٍ وإرادة منهم أو بدونهما. وفي طريق هذا الصّراع لا بدّ أحياناً، كما حدث في كثير من محطات نضالنا هنا، أن نلجأ الى هذا "الهامش" القانوني والأخلاقي والمهني داخل نفس الدولة التي لا تراعي هذا كلّه في سلوكها السياسي الطاغي؛ هذه البراغماتيّة أو الواقعيّة العمليّة ضرورة لا يفهمها من يجلس خارج الحلبة ولا يتلقّى الضربات في وجهه بنفسه.
علاء حليحل بوصفه كاتباً يرغب في التواصل مع بيروت والعالم العربي، وهذا حقّه وحقّنا جميعاً. وحين اختار أن يفعل ذلك لا بالسرّ بل بالقانون، والقانون الإسرائيلي عينيّاً (بوصفه مواطناً إسرائيليّاً بحكم الظروف) يستغرب البعض ويستهجن ويُخوّن حليحل وكأن النضال القانوني بدأ مع علاء وسينتهي معه. عجبي! ويقول البعض (كما يحدث الآن في النقاشات) أن حليحل "يعتاش" على هذه التناقضات والإزدواجيّات و"يلعبها" لصالحه! ربما.. لا أعرف، ولكن لماذا، وإن صحّ ذلك، نخلط الحابل بالنابل ونضيّع القضيّة الأساس في هذه القضيّة العينيّة الهامة وأبعادها القانونيّة وتداعياتها المحتملة على مستقبل علاقتنا بإخوتنا في العالم العربي؟! ولماذا يتحول هذا الموقف الى محاكمة شخصيّة لحليحل أو غيره؟ على كل حال، هذه ليست المرة الأولى التي نضيّع فيها الفرص والإنجازات. صحيح أن هذا "الإنتصار" (المرحليّ الهام بنظري) هو إنتصار للمؤسسة القضائية الإسرائيليّة على المؤسسة السياسيّة، ولو في ظاهر الحال. ولكن هذا ما كان ليتم لولا مبادرة القانونيين وجهدهم المهني في هذه القضية العينيّة، وهو جهدٌ مبارك، كما هو حصول حليحل وعدنيّة على الجائزة وفرصة التواصل مع منتديات بيروت أيضاً مُبارك وهام لهما شخصيّاً ولنا جميعاً في المستقبل.
البعد الثاني، وهو الأغرب، المتعلق بإزدواجيّة المعايير في الدول العربية وصناديقها المانحة ومؤسساتها إن وُجدت أصلاً خارج غطاء الدولة الرسميّة وإملاءاتها.
مرّةً أخرى مباركةٌ هي الجائزة الممنوحة لحليحل مهما اختلفنا في شأن نصوصه أو موهبته الكتابية، ومهما اختلفنا في مِصداقيّة الجوائز والمنح ودورها في صناعة الكاتب الجيد أو العكس، فالنقاش الآن ليس هنا مع أهميّته. فحصول أحد على جائزة يعني الكثير إن كان يستحقها ولا يعني شيء إن لم يستحقّها، وحصول أحد على جائزة لا يتناقض مع فاعلية آخرين وقدراتهم ومواهبهم. لكن، يبقى السؤال حول إختلاط معايير الجهات العربية في منح أشخاصٍ المنحَ دون آخرين لأسباب تتوفر في الطرف الممنوح والغير ممنوح على حدٍّ سواء، يبقى سؤالاً منطقياً وشرعياً. فكما أنني لا أشكّ للحظة في وطنيّة علاء حليحل وانتمائه النظيف لشعبه وقضيته رغم "تعامله" مع إسرائيل وتموُّلِه منها أو حصوله على منح وجوائز وعطايا وفرص عمل وغير ذلك مما لا يُعيبه في شيء بنظري، وهذا ينطبق على كل فلسطيني يعيش داخل إسرائيل، يعمل ويتقاضى الأجر والمنح والمحفزات كما يدفع الضرائب وغيرها من المستحقات للدولة، كذلك الأمر في أنني لا أشكّ في وطنيّتي أنا أو غيري ممن سُحبت منهم "جوائز" عربيّة بحجة "التعامل" مع إسرائيل!
أخيراً، ورغم سِعة الموضوع، قضيّة حليحل ليست شخصيّة، بل هي قضيّة خلق معايير جديدة في ذهنيّة العقل السياسي الإسرائيلي وهذه المعركة هامة وهي في بدايتها فقط. لكنّ الفارق بين إنتصار القضاء الإسرائيلي للحقّ المنطقي والقانوني والأخلاقي في وجه الدولة ورئيس وزرائها، وبين هزيمة "الصندوق العربي للثقافة والفنون" أمام مؤسسة النميمة والفساد الأخلاقي هو الفرق المؤسف بين إسرائيل والعرب.
وكما أن المعركة، بأدوات إسرائيليّة، ضد إسرائيل السياسيّة مستمرة من خلال قضيّة حليحل وغيرها، فإنّ المعركة ضدّ سياسات الأفاعي التي تنتهجها الصناديق العربيّة ضَدّنا وتساهم في خلق معايير خاطئة ومُلتبسة في الذهنية العربية مستمرّة كذلك. فقضيّتي مع الصندوق العربي للثقافة والفنون هي كذلك ليست شخصيّة بل هي مُحاكمة سخيفة لنا جميعاً علينا التصدّي لها، وهذا ما يجري حدوثه الآن.
جميعنا ضحايا هذه التناقضات الإسرائيليّة العربيّة، ومن واجبنا جميعا ولأجلنا جميعاً مقاومتها كلٌّ بوسائله المُتاحة