تمهيد وبداية:
بعيدا عن أضواء الصحافة العالميّة في عتمةِ أنفاق عميقة وملتوية, للمؤسّسة العلميّة الأوروبيّة – سيرن في سويسرا, التي تمتدّ بين حدود سويسرا وفرنسا, تجري في هذه الأيّام دراما إنسانيّة علميّة ستكون أروع تجربة علمية خاضتها مجموعة من علماء الفيزياء في التاريخ البشري كله! إنها أكبر وأطول تجربة تحطيم الجسيمات التي تـُجريها مـَجموعة عالميّة من العلماء ابتداء من علماء الولايات المتحدّة وروسيا, وانتهاء بعلماء من فلسطين وإسرائيل!
وفي خضم هذه التجربة, التي ستسغرق مدّة عامين أو أكثر, قد يكون الجنس البشري موجودٌ الآن على عتبةِ اكتشاف أسرار كون دفينة, من وجود أو عدم وجود مادّة معتمة (Dark Matter), وجـُسيم مفترض, اسمه كاسم عالم تنبأ به (العالم هيجس) هيجس-بوسون Higgs-boson, وحتى وجود أبْعـاد جديدة مخفيّة داخل الكون!
النفـَـق العلمي ومؤسسة سيرن :-
في الثلاثين من آذار من العام الحاليّ 2010 (نعم في يوم الأرض بالذات, كنتُ قد سمعتُ أخبار مسيرة يوم الأرض في بلادنا من قناة الجزيرة, ومن بعدها مباشرة أخبار مؤسسة سيرن المفرحة, وأنا في صالة فندق ممتاز في مصر!) نجحت أوّل تجربة علمية أجرتها المؤسسة العلمية لبحث الجزيئات في سويسرا (سـيرن) من عمليّة تصادُم شعاعين من جسيمات البروتونات (التي تشكّل كل واحدة منها نواة ذرّة الهيدروجين) بسرعة تقارب سرعة الضوء المذهلة, وبطاقة عظيمة جدا! وبهذا تاريخ 30 آذار العامّ 2010 يكون قد دخلَ تاريخ البحث العـِلمي العالمي, (كما دخل من قبله 30 آذار 1976 تاريخ نضالات الشعب الفلسطيني!)
إنّ أهميّة هذه التجربة – الأكبر في التاريخ العلميّ وأكثرها نفقات (عشرة بلايين من اليوروهات!)- هو محاولة عظيمة لمـُحاكاة الظروف الأولى من نشوءِ الكـَون (وتحديدا محاكاة أوّل ثلاث ُ دقائق من الانفجار الكبير Big-Bang الذي من بعده نشأ الكون الواسع والرحيب الذي نعيشُ فيه ونراه أمامنا الآن).
إن هذه التجربة الكبرى تدور كلها في أعماق نفق كبير محيطه أكثر من 27 كم على شكل بيضوي مـُغلق, وعمقه 100 متر تحت سطح الأرض السويسرية والفرنسية!
تقفُ أمام العلماء منذ مدّة طويلة, عدّة أسئلة علميّة يجب الإجابة عليها في هذا الصدد, سأحاول قدر المستطاع تبسيطها للقارئ غير العلميّ.
1. إنّ الأسئلة التي من المفترض والمتوقّع أن تـُجيبُ عليها التجربة في مؤسسة سيرن العلمية:
أ. وجود الجسيم المفترض : هيجس – بوسون:-
كل جسم في الكوْن مبني من ذرَّات مـُتناهية الصغر, تتكوّن بدورها من ثلاثة جسيمات أساسيّة هي: البروتون (الموجود في نواة الذرّة متناهية الصغر), النيوترون (الموجود هو أيضا في نواة الذرّة), والإلكترون (الموجود في قشرة الذرّة الخارجيّة).
إنّ الفرق الأساسيّ بين جسيم البروتون وجسيم الإلكترون (عدا عن أنّ الأول شحنته الكهربائيّة موجبة, والثاني سالبة) هو أنّ كتلة البروتون أثقل بملياردات الـَمرّات من كتلة الإلكترون!
التجربة, تبحث عن وجود جسيم جديد, تؤكّد وتتنبّأ كل المُـعادلات الرياضيّة الفيزيائيّة الحاليّة, عن وجوده ألا وهو جسيم: بوسون-هيجس.
توجد جسيمات صغيرة تمنح كل من الإلكترون والبروتون شحنتهما فلماذا لا يوجد جـسيم يمنح مركبّات الذرّة كتلتها ووزنها؟؟ أي أنّ جسيم هيجس-بوسون المـُفترض وجوده, والذي يعمل العلماء على اكتشافه, هو الجسيم الذي يعطي الجسم – أي جسم كان– كتلته ووزنه!
ب. وجود المادّة المعتمة:
المُـعادلات الرياضيّة الفيزيائيّة الحاليّة التي تصف نموذج الكون العلميّ, تقرّر وجود مادّة أخرى غير تلك التي نعرفها من العالم, هي المادة المعتمة (Dark Matter). هذه المادّة المقدرة موجودة في الكون الواسع ولكنها لم تـُكتشف بعد بالتجربة. ولكن هذا لم يمنع كاتب الخيال العلمي الشهير دان براون من أن يصف بدقّة "خصائص" المادة المعتمة, في كتابه الرائع (الذي صـٌوّر فيما بعد فيلما رائعا أيضا) : قصّة "ملائكة وشياطين" ليعتمد عليها في حبكة القصّة ومجرياتها المثيرة!
ج. وجود أبعادٌ أضافية مخفيّة في الكون
المُـعادلات الرياضيّة الفيزيائيّة تصف وجود أبعاد أخرى إضافيّة غير الأبعاد الأربعة المعروفة لدينا (ثلاثة أبعاد الفراغ, والبعد الرابع البُـعد الزمن). التجربة التي تقوم بها مؤسسة سيرن قد تلقي الضوء أخيرا على هذه الأبعاد المخفيّة حتى الآن.
2. طريقة البحث العلميّ في التجربة ذاتها:-
لنفرض جدلا أن علماء من كوكب بعيد في الفضاء زاروا الأرض من أعماق الفضاء الخارجي ليجدوا أمامهم على الأرض سيارات عديدة لا يفهمون ولا يفقهون من أية مركبات أساسيّة مصنوعة كل سيارة صنعها الإنسان (محرّك السيارة, البطارية, إلخ)؟؟ كما لا تتوفر أمام العلماء من الفضاء الخارجي أيّة معدّات بتاتا (كالمفكّات أو المطارق), التي تستطيع أن تفكّك السيارة إلى جزائها المختلفة والمتنوّعة. ولكن العلماء الفضائيين استطاعوا أن يكتشفوا كيفيّة تشغّيل محرك السيارة فقط! فما الطريقة الوحيدة المتاحة إذن أمامهم في هذه الحالة لكي يستطيعوا تفكيك السيارة إلى أجزائها؟؟
نعم إنهم سيخطّطون جيدا لعملية تصادم سيارتين, عن بعد أمامهم وبسرعة هائلة جدا!
عندها على الأغلب سيتطاير محرّك السيارة عاليا في الهواء, , وبطارية المحرّك في الأرض, ومبرّد المحرّك في الجهة الأخرى, وهكذا إلخ! وسيلتقط العلماء الفضائيين الأجزاء واحدة تلو الأخرى ليكتشفوا مكوّنات السيارة. وعندما نتحدّث عن جسيمات متناهية الصغر كجُسيم الكتلة هيجس-بوسون (بعض العلماء يطلقون عليه "جسيم الله", لأنه تكون لحظة نشوء الكون) والذي ظهر فقط في الدقائق الأولى من نشوء الكون, لا يمكن اكتشافه إلا بوسطه مـُسارع ضخم جدا كالمـُسارع الأوروبي في سويسرا.
وقد يسأل القارئ: ولكن منذ سنوات الثلاثينات من القرن الماضي توجد مـُسارعات في الولايات المتحّدة وفي الإتحاد السوفييتي وفي غيره من الدول المتطوّرة فما بال هذا المـُسارع الأخير هو هو بالذات الذي سيكشف أخيرا عن أسرار الكون الدفينة؟! هنا بالذات تتجلّى عبقريّة وذكاء من خطّط لهذا لمسارع الضخم:- كل المسارعات السابقة كانت تجعل عادة شـُعاعين من الإلكترونات تتصادم فيما بينها, لتكشف عن جسيمات جديدة! ولكن جسيم البروتون مقارنة بالإلكترون من ناحية الوزن والكتلة (وليس من ناحية الحجم!) هو كالديناصور الضخم مقارنة بالذبابة الصغيرة! إنّ اصطدام ذبابتين (حتى بسرعة كبيرة جدا) قد يـُبيّن على الأكثر أجنحة صغيرة, ولكن اصطدام ديناصورين بسرعة كبيرة سيكشف حتما عن أعضاء داخليّة (كالمعدة والقلب) لا يمكن اكتشافها بتاتا باصطدام ذبابتين فحسب!
3. أجزاء كاشفات الجسيمات في النفق الأساسيّة في مؤسسة سيرن:
1. داخل الأراضي الفرنسية يوجد كاشف الجسيمات المسمّى ب- كاشف الميون الصغير (Compact Meun Detector)
2. وداخل الأراضي السويسريّة يوجد كاشف الجسيمات المسمّى "أطلس". ATlAS
سير التجربة بشكل عام
يـُطلق شعاعان من البروتونات بسرعة تقارب سرعة الضوء الواحدة تلو الأخرى
في مسار تصادمي بحيث تتم عملية الاصطدام الضخمة في إحدى كاشفات الجسيمات أعلاه بطاقة
أنظر أيضا الارتباط التوضيحي, للتجربة الكبرى:
http://www.nytimes.com/ref/science/20070514_CERN_GRAPHIC.html)
عالية جدا تقارب السبعة تريليون إلكترون فولت (إنّ أكبر مسارع حتى الآن كان بعيدا عن هذه الطاقة)
بعد عملية التصادم يتم تحليل النتائج من داخل الكاشفات بواسطة طاقم علماء يـُعدّ بالآلاف من مختلف الدول, بمساعدة سوبر-حواسيب (حواسيب ضخمة) تستطيع تنفيذ عمليات حسابية بسرعة ضخمة جدا.
إنّ عملية تحليل كل نتائج التصادمات المخطّط لها (في الكاشفات) بين أشعة البروتونات قد تستغرق عامين أو أكثر!
مما لا شكّ فيه أيضا أن جهدا علميا خارقا مثل تجربة الإنفجار الضخم في سويسرا لا يمكن أن يحدث إلا بجهد عالمي متعدّد الجنسيات, من الهند وباكستان والصين, والولايات والمتحدة وروسيا, وكل دول أوروبا تقريبا وحتى دول من الشرق الأوسط! شعار الأمميّة التي حلم بها العبقريّ كارل ماركس تنطبق أمامنا اليوم في شعار جديد: "يا علماء العالم اتحدّوا!"
خاتمة:-
يقول عالم الفيزياء الأمريكي (الذي يأس من الكونغرس الأمريكي بأن يصادق على إنشاء مسارع مماثل ضخم في صحراء ولاية تكساس الأمريكيّة, فانضمّ بحماس إلى المشروع الأوروبي في سيرن) في حديث صحفي له ما يلي: " نحن موجودون على كوكب الأرض وفي الكون فترة قصيرة من الزمن!
إنّ الأحلام التي واكبت البشريّة منذ مهدها, بمعرفة أسرار الكون تنتظر بفارغ الصبر!
كلي أمل أن لا ينتظر تحقيق تلك الأحلام طويلا مدّة أكثر!" ففي حالة فشل التجربة الكبري في سيرن من اكتشاف أية من الجسيمات المفترض وجودها علميا وفق النماذج العلمية (Scientific Models) الحاليّة عندها سيضطرّ علماء الفيزياء النظريين العودة إلى غرف البحث والدراسة للبحث عن نموذج ثان صحيح للكون, وسيقذفون النموذج العلميّ الحالي الذي بحوزتهم في أول سلة القمامة العلميّة التاريخيّة!! أمّا في حالة اكتشاف أحدى الجسيمات السابقة, من هيجس بوسون ("جسيم الله") أو المادّة المعتمة أو حتى اكتشاف أبعاد مخفيّة, ستنفرجُ أزمة طويلة الأمد عايشها كل علماء الفيزياء النظريين والتجريبيين منذ الثلاثينات من القرن الماضي, وستنتهي عقود عديدة من الإحباط, ليتأكد العلماء بواسطة التجربة في سيرن, أنّ كل النماذج الرياضيّة الفيزيائية المعقّدة للغاية التي استطاعوا بناءها عبر العصور, هي نماذج صحيحة ودقيقة تصوّر الكون في حقيقيته الأساسيّة كم هو بالفعل. وبهذا سيحدث تفوّق أوروبي علمي على الولايات المتّحدة الأميريكيّة لأول مرّة منذ عقود من الزمنّ
وسوف يستطيع العلماء أن يقولوا لنا "ها قد أجبنا على سؤال الكيف؟ (؟How) كيف نشأ الكون؟ ما هاي مركّباته الأساسيّة. وفي طريقهم بالإجابة على سؤال "الكيف", يأمل العلماء أن يصلوا أيضا بطريق غير مباشرة إلى الإجابة عن السؤال الأهمّ: "لماذا"؟ (Why?)
لماذا نحن موجودون هنا؟؟ ولماذا الكون موجود أصلا؟ وفي الإجابة على السؤال الأخير "لماذا؟" يقول لنا العالم الشهير ستيفن هوكينج:"يكون العقل البشري الفذ قد احتلّ أخيرا, آخر موقع له من مواقع ألغاز الكون!"