قراءاتُ راعٍ لاحتفالات الجمعةِ العظيمة -الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى-رئيس رعيَّة الروم الملكيّين الكاثوليك في حيفا

مراسل حيفا نت | 09/04/2010

 

أيُّها الأبناءُ المحبوبون، تحيّة طيِّبة وعَطِرَة بالمخلِّص يسوع المسيح وبعد…

          في كلمةٍ سابقة، تكلَّمتُ فيها عن خبرتي الشخصيّة بما جرى في مسيرةِ أحد الشعانين، كنتُ قد وَصَفتُ حدثًا صار بقوَّةِ حضورِه إعلانًا تاريخيًّا مُوَقَّعًا بحروفٍ لم تَصنَعها يدٌ في كتابِ التاريخ المُشرِّف لكنيسةِ حيفا ومجتمعِها بكلِّ تعدُّداتِه الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. في السّابق، لم نكنْ نشعرُ بانتمائنا جميعًا إلى المسيح بقدر ما كنّا مقتنعينَ بأنّ انتماءنا هو تَبَعِيٌّ لطائفتِنا وكنّا جميعًا أسرى لهذه الطائفيَّة العقيمةِ والضيّقة، وذلك لأنّ كلَّ رعيَّةٍ كانت تحتفلُ بأسبوعِ الآلام على طريقتِها وباستقلاليَّتِها التّامة عن بقيّة الرعايا وكأنّنا كنّا قابعينَ في قوقعتِنا الطّائفيّة على ذواتِنا غير راجينَ شيئًا من الآخر غير المختلف عني دينيًّا، بالرغم من أنّه كانت هناك أعوامٌ كبيسة للاحتفالِ معًا من أجلِ هدفٍ مشترك وأوحد هو مسيحُنا وليس مسيحَ الطّائفيّة العقيمة.

 

 

 

 خبراتٌ عدّة، في هذا الأسبوع العظيم، جعلَتني أشعرُ بحضورِ المسيح الإنسانيّ والإلهيّ ليس فقط في كنيسته بل، والأهمُ من ذلك كلِّه، حضوره البرَّاق في قلبِ كلِّ واحدٍ منّا:

† الخبرة الأولى قامت على شعار "السيّدُ المسيح له المجد والإكرام هو الطّريقُ نحو الآخر"

          على هذا الإيمان، قامت الرعيّةُ ومركزُ العائلة بإشراف ابنَي الرعيّة المحبوبَين ناصر وأميرة شقور بمبادرةٍ، بسيطةٍ بمكوّناتِها، عظيمةٍ بمحبَّتِها والتفاتتِها المسيحيّة المحض للآخرين المحزونين، هي توزيعُ كعك العيد على العائلات المحزونة. فحملتْ هذه المبادرةُ بعدَين هامَّين هما:

1.    مشاركةُ العائلات المحزونة ألمَها وحزنَها وإعطاؤها، في الوقتِ نفسِه، إشراقةَ رجاءٍ بقيامة المسيح من بين الأموات؛

2.    التأكُّد من أنّ الرعيَّةَ هي "العائلةُ الكبرى" من خلال عواملَ عدّة أهمّها أنّ العملَ تمّ في قاعة الرعيّة المحاذية للكنيسة؛ اشتراك الأخويات والشبيبة ونساء أخريات في العمل، مما أضفى على عملِنا بُعدًا عائليًّا مؤثِّرًا جدًّا. فلقد كانت أجواءً مُفعَمةً بروحِ المحبّة والخدمةِ والانفتاح وتمجيد الله وتسبيحه من خلال الترانيم ولم تخلو هذه الأجواءُ من الغناء والرقص في بعض الأحيان تعبيرًا عن فرحتنا التي لا توصف ولا تُحَدّ.

 

† الخبرة الثانية حَمَلَتْ شعارَ "المواهب الفنيّة طريقًا إلى الصّلاة وتمجيدِ الله"

          فقد شاركني ابنُ رعيَّتِنا الفنان زهير فرنسيس بأداءٍ رائع ومتميِّزٍ لترنيمة "اليوم عُلِّقَ على خشبة" في الكاتدرائيّة وكنيسة السيّدة وكم كان شعورًا مؤثِّرًا ما قُمنا بأدائه أمام المسيح المصلوب، شعورًا باعِثًا الخشوعَ والرهبةَ والعَظَمةَ في نفوسِ السَّامعين والحاضرين. لذلك، ومن هنا، فإنّي أدعو جميعَ الفنانين إلى إبرازِ الطّابعِ الروحيّ لموهبتِهم الصوتيّة التي لم ينالوها كوراثةٍ عائليَّة أو هم مَن قام بإنتاجها، بل هي نِعمةٌ من الله تعالى الذي خصَّهم بهذه الوزنة ليُتاجِروا بها لتمجيده وتسبيحه.

 

† الخبرة الثالثة اتّخذَتْ شعارَ "المسيحَ الميتَ قبرًا لإنسانِنا العتيق وقيامةً لصورةِ الله في حياتِنا"

          إنّها مسيرةُ الجمعةِ العظيمةِ المقدّسة التي طافت حيَّ الكنائس الجديد في حيفا. يا لَلعجبِ العُجاب! هل أرى مسيحًا راقِدًا في نعشٍ وكأنّي بالمسيحيّين في حيفا يسيرونَ خلفَه لمواراتِه الثرى؟ أم أرى حدثًا آخر أودّ أن أقرأَه بطريقةٍ أعمق، وكأنّي أرى المسيحيّين يدفنونَ تَشَرذُمَهم وطائفيَّتَهم وصغائرَهم مع المسيح في نعشِه وقبرِه، إيمانًا منهم بأنّهم سيقومونَ معه بعد ثلاثة أيّامٍ منتصرين على ما دفنوا وفاتحينَ الصفحةَ الجديدةَ الناصعةَ البياض في كتاب تاريخِهم الجديد الذي سيكتبونَه لا بأقلامٍ يَجِفُّ حِبرُها بمرور الزمن، بل بدمِ المسيح الذي افتداهم وخلَّصَهم مما دفنوا معه. مسيرةٌ تخطَّتْ بأبعادِها كلَّ المفاهيم والأعرافِ المتّبَعة في كلِّ مسيرةٍ اعتياديّة. إنّها مسيرةٌ شاركتْ فيها الكنيسةُ الأرضيّة والكنيسةُ السَّماويّة، أورشليمُ الأرضيّة وأورشليمُ السَّماويّة. فالمسيحُ الكلمةُ الإلهيَّة لَبِسَ بشريَّتَنا الفاسدة وشاركَنا في كلّ شيءٍ ما خلا الخطيئة: إنّه الشخصُ الذي جَمَعَ الإلهيَّاتِ بالأرضيّات، فنتجَ عن هذا التفاعل لطبيعتَيه الإلهيّة والإنسانيّة، إنسانًا جديدًا مدعوًّا إلى التألُّه وإلى الحياة الجديدة المُفعَمة بالروح والأمل والرجاء والقيامة. ماذا أقولُ وفي جُعبتي الكثير والكثير لأقول. أسبوعُ الآلام هذا لم يكن في نظري أسبوعًا للآلام: إنّه أسبوعُ القيامةِ الحقيقيّة، أسبوعُ الانتصار على قوى الظلمة الذي حقَّقَه المسيحُ المنتصر على معاقيلَ الجحيم وأبوابِها، فأعتقَ الأسرى والمسجونين من عبوديّتِها وعَبَرَ بهم إلى أرضِ الميعاد السّماويّة، أرضِ الحريّة؛ إنّه الانتصارُ على "الأنا" بكبريائِها وأنانيَّتِها وتقَوقُعِها على ذاتِها. أرجوكم وأناشدُكم باسم مسيحِنا القائم من بين الأموات أن لا تَرجِعوا إلى الوراء، بل سيروا دومًا إلى الأمام في مسيرةٍ تصاعُديَّةٍ نحو هدفِنا المنشود يسوع المسيح. فالمسيحيّةُ ليست ديانةَ الشرائع والنواميس والقوانين فحسب، بل هي ديانةُ اللقاءِ الشخصيّ بالمسيح والاختبار الإيمانيّ الملموس والمُعاش للمسيح "ذوقوا وانظروا ما أطيبَ الرّبّ".

 

† الخبرة الرابعة حَمَلَتْ في مضامينِها وأبعادِها الدينيّة والاجتماعيّة رسالةَ "فيضِ النّور وفرحةِ القيامة"

          عددٌ لا بأسَ به من المسيحيّين الحيفاويّين لا يَعرِفونَ شيئًا عن مسيرة النور المقدّس القادمِ من كنيسةِ القيامة ليُضاءَ في كنائسِنا باحتفالٍ مَهيب. فهذه العادةُ توارثَتْها الكنيسةُ الأرثوذكسيّة منذ أجيالٍ قديمة تُعرَفُ اليوم بعادة "استقبال النور" حيث كان يجري احتفالٌ شعبيٌّ ودينيٌّ بالمناسبة وكان هذا النورُ المقدّس يُستَقبَلُ في القرى بأهازيجِ النساء وبالرقصِ طربًا أمام نورِ المسيح كما رَقَصَ داود طربًا أمام تابوتِ العهد في العهد القديم. أردنا من وراءِ المشاركة في هذا الاستقبالِ البهيّ والسنيّ للنور المقدَّس أن نُعطِيَ رسالةً لكلّ الناس بأنّ نورَ المسيح يجب أن يُضيءَ طريقَنا وسُبُلَنا وحياتَنا وقلوبَنا وكنائسَنا. هذه هي رغبةُ مسيحِنا التي أعلنَها مرارًا وتكرارًا في الإنجيل الشريف المقدّس بقوله: "أنتم نورُ العالم… لا يُوقَدُ سِراجٌ ويُوضَعُ تحت المِكيال، بل على المنارة، فيُضيءَ لجميعِ الذين في البيت. هكذا فليُضِئْ نورُكم قدَّامَ النّاس، ليَرَوا أعمالَكُمُ الصّالحة، فيُمجِّدوا أباكُمُ الذي في السّماوات" (متى 5: 14-16). هل من رسالةٍ أوضح من الرسالةِ التي أَودَعناها في قلبِ جميعِ أبنائنا المسيحيّين الحيفاويّين في السَّيرِ معًا كتلةً واحدة وراء نورِ المسيح الذي دخلَ كنائسَنا باحتفالٍ مَهيب؟! لأوّلِ مرةٍ في تاريخِ حياتِنا نتذوَّقُ، شبابًا كنّا أم كِبارًا، فرحةَ العيدِ وروحانيَّتَه المقدّسة وكم طَرِبَتْ أُذُنايَ واهتزَّ قلبي فرحًا بالخبراتِ المؤثِّرة التي اختبرَها مسيحيُّو حيفا لأوّلِ مرةٍ في حياتِهم. فهل نستطيعُ أن نَرجِعَ إلى الوراء بعد هكذا احتفالاتٍ تاقَتْ لها النّفوسُ وارتَعَشَتْ لها القلوب؟ حاشى وكلا. فمسيرتُنا بإذنِ الله تعالى ستبقى دومًا متَّجهة للأمام ما دامَ نورُ المسيح يَجمعُنا ويُوحِّدنا.

          أودُّ قبل أن أختِمَ خبرتي هذه أن أُوجِّهَ كلمةَ شكرٍ واعتزازٍ وافتخارٍ بسرايا الكشّاف التي شاركتنا فرحتَنا وأَضفَتْ على احتفالاتِنا رونقًا وبهاءً وجمالاً: سريّة كشافة الكاثوليك الأولى؛ سرية كشافة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة؛ سرية كشافة الكرمل وسرية كشافة البراعم الخضراء. أَحبَبتُ فيكم تعاونَكم فيما بينَكم للخير العام والتفافِكم حول بعضكم البعض دون النظرِ إلى الطائفيّة العقيمة: أنتم الكنيسةَ الحيّة؛ أنتم أبناءَ البلد فحافِظوا على وِحدتِكم وتعاونِكم وانفتاحِكم لِما فيه مصلحة الكنيسة والمجتمع ولا تتوقَّفوا عن السَّيرِ والعمل معًا في نطاق المحبّة والاحترام والخدمة والعطاء.

          أخيرًا، أودّ أن أقولَ لكم جميعًا بأنّ المسيراتِ التي قُمنا بها لم تكن مجرَّدَ مهرجاناتٍ احتفاليّة كشفيّة وشعبيّة وحتى شعائر دينيّة سطحيّة، لقد كانت، في الدرجةِ الأولى، مسيراتِ اكتشاف الذات، مسيراتِ الخروج من الذات وإدراكِ حضورِ الله تعالى: إنّها مسيراتُ اكتشافِ الله في الآخرين. باركَكُمُ اللهُ جميعًا وكافئكم بإنعاماتِه الوافرة السّماويّة، وعوَّضَكم بالسّماويّات عن الأرضيّات، وبالأبديّات عن الوقتيّات، وبالباقيات عن الفانيات. آمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *