روضة غنايم: أوجيني خليف، كلّ يوم صفحة جديدة من كتاب

مراسل حيفا نت | 04/02/2018

حيفا في ناعورة الزمان\حاراتٌ، بيوتٌ، وناس (24)
روضة غنايم مصوّرة، باحثة، وكاتبة في المجال التوثيقيّ – حيفا
روضة غنايم: أوجيني خليف، كلّ يوم صفحة جديدة من كتاب
مقدّمة:
أن تكون مصدرًا لفرح الآخرين وأن تستطيع إدخال الفرح في قلوب الناس ليس بالأمر المفهوم ضمنًا أو السهل. وعندما تقوم بإرادة محضة بتقديم المساعدة للآخرين فهذا العمل نبيل وشجاع. مساعدة دافعها الحبّ والرحمة، هدفها إبعاد الخوف والخطر عن الناس. وروعة تقديم المساعدة تكون في سرّيّتها وعدم التبجيل والبوح بها. ففي هذه المقالة سأستحضر شخصية نسائيّة قياديّة، شُجاعة ومميّزة كرّست الكثير من حياتها لمساعدة الناس والعمل الاجتماعي والجماهيري، عاشت في حيّ وادي النسناس في حيفا وتركت وراءها أثرًا قويًّا وبصمة. هي السيّدة أوجيني نعمة صبّاغ خليف (أمّ رمزي) التي عُرفت بمدام خليف.
لمحة عن والدَيْ أوجيني خليف
والدها هو المربّي والشاعر نعمة الصبّاغ من مواليد مدينة الناصرة عام 1886، عمل مديرًا في عدد من المدارس في البلاد وخارجها مثل: لبنان، الناصرة، عكّا، شفاعمرو، القدس، بيت لحم. كما عمل مديًرا لمدرسة راهبات الناصرة في مدينة حيفا (1945-1948). عام 1948 غادر البلاد مرّة أخرى إلى لبنان واستقرّ هناك مع عائلته بعد عدم تمكّنه من العودة إلى البلاد. عُيّن أستاذًا للأدب العربي في كلّية طرابلس الشام، وعمل هناك مدّة 12 عامًا. انتقل بعدها إلى بيروت مُتفرّغًا للشعر والكتابة حتّى توفّاه الله عام 1971. تزوّج بتلميذته أدمة شيخ العازار، وهي عائلة مرموقة من مدينة أميون، وأنجبا: أمندا، أوجيني، مري، ليندا، نجلاء، نجيبة، إلياس، وسليمان. جميع أبنائهم تربّوا وترعرعوا في لبنان وفي فلسطين: الناصرة وحيفا. والجدير ذكره، أيضًا، أنّ نعمة الصبّاغ تَعَلَّم مع الكاتب ميخائيل نعيمة في مدينة الناصرة، وكان من أصدقاء الكاتب جبران خليل جبران والمؤرّخ فليب حتّي.
في بداية الأربعينيّات حتّى عام 1948 عاشت العائلة في حيفا
في بداية سنوات الأربعين من القرن الماضي انتقلت العائلة إلى السكن في مدينة حيفا، وسكنت في بيت في حيّ الألمانية. وذلك لأنّ البنات كنّ يدرسن في مدرسة “إنـﭽـليش هاي سكول” في شارع “شـﭭـتاي ليـﭭـي”، حيث أُقيم اليوم في مبناها “متحف الفنون”. والأبناء كان أحدهم يعمل في شركة النفط العراقيّة، والآخر كان قائم مقام في وزارة الداخلية في حيفا. وكما ذكرت أعلاه، عمل الوالد نعمة الصبّاغ مديرًا في مدرسة راهبات الناصرة في حيّ عبّاس.

أوجيني خليف (مدام خليف)
أوجيني صباغ خليف
وُلدت أوجيني خليف في مدينة أميون في لبنان عام 1910، حيث كان يعمل والدها مديرًا في إحدى مدارسها. وبعد أربع سنوات من ولادتها عادت مع عائلتها إلى مدينة الناصرة.
أوجيني خليف كانت امرأة شُجاعة، مناضلة، وناشطة اجتماعيّة، سابقة عصرها. التربية التي تلقّتها على أيدي والديها، وخصوصًا والدها، صقلت شخصيّتها. فنشأت على مفاهيم الحرّيّة والشجاعة، العدل والعطاء والتواضع. أوجيني كانت امرأة نسويّة تؤمن بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في المجالات الفكرية، الثقافية، المهنية، وأيضًا في ممارسة الحياة اليوميّة. تعلّمت أوجيني الابتدائيّة في مدرسة “الفرندز” في مدينة رام الله، وأنهت تعليمها الثانويّ في مدرسة “إنـﭽـليش هاي سكول” في مدينة حيفا.
عملت مربّية سنوات عديدة في مدرسة “راهبات الناصرة” في مدينة الناصرة. وعام 1942 تزوّجت بجورج خليف من مدينة الناصرة، وذلك بعد قصّة حبّ جميلة. جورج عمل موظّفًا في قسم ماكينات الكهرباء في بلدية حيفا في فترة الانتداب. والجدير ذكره أنّ جورج كان يحبّ الموسيقى والقراءة والغناء وكان ذا صوت جميل، ويعزف على الكمان بالإضافة إلى أنّه كان يرسم.
اِنتقلا – بعد الزواج – للعيش والاستقرار في مدينة حيفا. سكنا – في البداية – في شارع عبّاس وبعد ذلك اشتريا بيتًا مستقلًّا مع حديقة في شارع الراهبات. في الحرب هُدم بيتهم في شارع الراهبات. فذهبت هي وزوجها وطفلاها إلى بيت عائلتها في حيّ الألمانية. لكن بعد فترة قصيرة أجبرها الاحتلال على إخلاء البيت. فوجدت بيتًا في عمارة صنبر في شارع حدّاد 1 – العمارة التي كتبت عنها قبل أسبوعين. سكنت فيه فترة حتّى وجدوا بيتًا في شارع قيساريّة 16 (يُسمّى، اليوم، شارع توفيق طوبي)، فعاشوا فيه. وتوفّي جورج عام 1998 وبقيت أوجيني في البيت حتّى توفّاه الله عام 2003. وبعد وفاتها سكنت البيت بعدها حفيدتها ماريا مع طفلها حبيب – رمزي.
أوجيني وجورج أنجبا بنتين وولدًا: رمزي (1943)، لمياء (1947)، ونوال (1951) . وفي الأعوام (1944-1978) عملت أوجيني مُعلّمة للأشغال اليدويّة واللغة العربيّة والتاريخ في مدرسة راهبات المحبّة. ومن زملائها المعلّمين في راهبات المحبّة كان طيّب الذّكر إميل توما، حيث درّس موضوع التاريخ؛ وطيّب الذكر حبيب قهوجي الذي درّس موضوع اللغة العربيّة. وكان المربّي حبيب قهوجي يدرّس الطلّاب أغانيَ وطنيّة مثل نشيد “موطني” و”بلادي”، وكانت تلك الأشعار والأناشيد ممنوعة من قبل السلطة في تلك الفترة، فكانت تأتي الشرطة إلى المدرسة لاعتقاله، فكانت أوجيني تدافع عنه وتمنع اعتقاله. وبعد أن أغلقت مدرسة راهبات المحبّة انتقلت أوجيني لتدرّس في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا. وبالإضافة إلى عملها في المدرسة كانت تعلّم دروسًا خصوصيّة وفي الصيف كانت تنظّم مخيّمات صيفيَة في ساحة بيتها في شارع قيساريّة، في حارة وادي النسناس. والجدير ذكره أنّ أوجيني كانت تجيد التطريز والحياكة وكانت تمارس الرسم وتحضير المأكولات اللبنانيّة – النصراويّة.

عام 1948
في فترة حرب عام 1948 غادر والدا أوجيني وجميع شقيقاتها وأشقّائها البلاد على أمل العودة بعد انتهاء الحرب. تركت العائلة بيتَها في حيّ الألمانية وفيه جميع محتوياته، من أغراض وأثاث ومكتبة الوالد. بقيت أوجيني مع زوجها وأطفالها في حيفا؛ هي وزوجها لم يريدا ترك الوطن والرحيل عنه. وفي فترة الحرب ذهبت مع زوجها وأطفالها للاحتماء في دير راهبات المحبّة، حيث تقع المدرسة. وفي هذه الفترة كانت تساعد الجرحى والعائلات المتضرّرة. والجدير ذكره أنّها في تلك الفترة استطاعت، أيضًا، إطلاق سراح المعتقلين الذين اعتقلوا من قبل الـ”هاغاناه” في الدير وإعادتهم إلى عائلاتهم، وذلك بعد مفاوضات مع ضبّاط الـ”هاغاناه”.
نشاط أوجيني السياسيّ والاجتماعيّ
كانت أوجني عضوًا فعّالة في المجتمع وهي من مؤسّسات “جمعية النساء المسيحيّات” في حيفا، وكانت رئيسة الكشّاف الكاثوليكي في حيفا ومن مؤسّسي “بيت الكرمة”. كانت أوجيني تؤمن بالحياة المشتركة بين اليهود والعرب. وكانت من مؤسّسات حركة “جسر السلام – نساء عربيّات يهوديّات”. كما حصلت على لقب عزيزة حيفا من قبل بلدية حيفا.
عندما خرجت أوجيني للتقاعد كرّست عملها مع الشؤون الاجتماعية كمرشدة، فكانت تذهب إلى البيوت لحلّ المشاكل: العائلات الفقيرة، العنف والاعتداءات الجنسية داخل البيوت، والمشاكل الزوجيّة. فمثلًا، كانت الأفران تحضّر لها الخبر والصفائح والمناقيش والكعك وتقوم أوجيني بتوزيعها على الفقراء. كانت تطرق الأبواب بدون مهابة أحد. كانت تجمع نقودًا من الناس لتوفّرها للعائلات المستورة. ولم تكن تفشي أسرار الناس. كانت تفعل كلّ ذلك بالسرّ وتحافظ على الخصوصيّات. وقد ساعدت أُناسًا من مناطق مختلفة، وليس من حيفا، فقط.
كانت أوجيني شخصيّتها قويّة، كان تعاملها مع الآخرين إنسانيًّا وضدّ الطبقية. وعن هذا الموضوع روت لي ابنتها لمياء التي زرتها، مؤخّرًا، في بيتها في شارع عبّاس، بحضور ابنتها ماريا وحفيدها حبيب – رمزي. فحدّثتني عن حادثة لوالدتها قائلةً: “كانت تعمل في بيت جدّي نعمة خادمة، وكانت والدتي ما تزال عزباء تعيش مع عائلتها. في إحدى الليالي طلبت والدتي من الخادمة أن تذهب إلى النوم، وذلك بعد أن ألقت عليها جدّتي مهامّ كثيرة في عمل البيت، إذ قامت والدتي بتنظيف البيت بدلًا من الخادمة. وفي هذه الليلة مسكتها جدّتي وعاقبتها ووبّخت الخادمة لدرجة أنّها أرادت ضربها، لكنّ والدتي وقفت أمام والدتها وقالت لها: “اِضربيني أنا مكانها نحن بشر سواسية”.
وعن حادثة أخرى روت لي لمياء قائلةً: “في راهبات الناصرة كانت المدرسة قسمين: قسم للأولاد الأغنياء وقسم للأولاد الفقراء. أذكر أنّني ذات يوم شكّلت عصابة في المدرسة وقرّرنا مضايقة الأولاد الفقراء، فقام أحد الطلاب بتقديم شكوى عنّي لوالدتي. أذكر حينها أنّ والدي عاقبني عقابًا شديدًا ووالدتي طلبت منّي الاعتذار عمّا فعلت. وفهّمتني أنّ جميع الناس سواسية، ومن يملك مالًا ليس أفضل من الفقير. وهذا الدرس لم أنسَه”.
يوم الاستقبال الأسبوعيّ\الشهريّ – حفلة شاي وأمسيّات شعريّة وفكريّة في البيت
كانت أوجيني تقيم في بيتها مرّة في الشهر حفلة شاي؛ وهو ما كان يسمّى بيوم الاستقبال الأسبوعي، حيث كان الاحتفال يقام كلّ مرّة في بيت إحدى النساء، فكانت تأتي إليها مدام خيّاط، مدام نقّارة، مدام جبّور، مدام كوسا، ومدام طوبي. وكانت هؤلاء النساء يُعتبرن من الطبقة البرجوازية في حيفا؛ كنّ يلبسن الفرو وأجمل ما لديهنّ في هذا اليوم.
تتذكّر لمياء كيف كانت العمّة الجارة أليس طوبي، أمّ توفيق، التي كانت تسكن في البيت المحاذي لبيتها، تحرص عليها وعلى أشقّائها عندما تخرج والدتها من البيت لقضاء حاجة ضرورية. وتقول: “كانت والدتي وجاراتها، أليس نقّارة وأليس طوبي وأخريات، يذهبن إلى البحر للسباحة والتنزّه، وكنّ يحضّرن طناجر ورق العنب والتبّولة. كان لدى والدتي، أيضًا، وقت للترفيه مع الصديقات. وقد استطاعت أن تجمع بين حياتها البرجوازية وحياتها كمدرّسة وحياتها في العمل الاجتماعي الخيري. ما زلت حتّى اليوم أشمّ وأشتاق لرائحة الكعكة أيّام الأحد، وأشتاق لطعامها من الصفيحة والقبّة والملوخية والكثير من المأكولات التي أتذوّقها اليوم من ابنتي ماريا، التي تعلّمت الطهو من جدّتها. كما أذكر صوت البريموس الذي كانت تسخّن عليه الماء من أجل الغسيل، ونيلة الغسيل الزرقاء”.
لقب مدام من أين حصلت عليه؟
في مدرسة راهبات المحبّة (راهبات فرنسيّات) كانوا يطلقون على السيّدة المتزوجة لقب “مدام”، وبهذه الطريقة حصلت أوجيني على هذا اللقب الذي تماشى مع شخصيّتها.
جنازة مدام خليف
توفّيت أوجيني خليف عن ثلاثة وتسعين عامًا. قبل وفاتها بشهر تعبت ولكنّها كانت تقاوم حتّى الرمق الأخير، ولم ترِد أن تذهب إلى المستشفى. لكن لسوء وضعها الصحّيّ في أيّام حياتها الأخيرة أقنعتها عائلتها بأن تذهب إلى المستشفى للعلاج. فخضعت لذلك لكنّها قبل خروجها لبست أجمل ملابسها وصفّفت شعرها. ونزلت عن الدرج محمولة على الكرسيّ وكانت سيّارة الإسعاف تنتظرها في ساحة البيت، حيث تجمهر الجيران. نزلت كالملكة ملوّحة بيدها إلى الناس مودّعة البيت والحارة.. خرجت ولم تعد..
الجنازة والوداع الأخير
كان يوم الجنازة في 8.3 حيث صادف يوم المرأة العالمي، وقد تكون تلك صدفة أو قدرًا مكتوبًا، لأنّ هذا اليوم له رمزيّة في حياة مدام خليف. روت لي لمياء عن حادثة غريبة يوم جنازتها قائلةً: “عندما كنّا في وداع والدتي الأخير قبل الدفن. وبالطبع كان يغمرنا الحزن العميق على فقدانها، وإذا بمجموعة نساء يدخلن معًا ويبدأن بالرثاء المغنّى والترتيل. فوجئنا بتصرّفهنّ واقتربت منهنّ وقلت لهنّ: “يبدو أنّكنّ أخطأتنّ العُنوان – هنا متوفّاة”. فأجبن: “نحن نعلم ذلك، ولكن وعدنا مدام خليف بأنّنا حين تُتوفّى سنأتي لنغنّي لها”. وفي أيّام الأجر كانت تأتينا الصبايا باكيات ويقلن: “من ستدفع لي قسط التعليم بعد اليوم”، وأخرى تقول: “من ستدفع لي أجار البيت”، والكثير من القصص المؤثّرة التي عرفنا عنها من أصحابها بعد رحيلها. لأنّها ساعدت وعملت الخير بهدوء وصمت وكتمان”.
وأخيرًا
أكملت لمياء: “طلبت منّا والدتي وصيّة أن نكتب على قبرها “لا تحزنوا على رحيلي، بل افرحوا لأنّني عشت بينكم” – وضعنا رخاميّة على شكل كتاب وكتبنا عليها الوصيّة. وهذه الوصيّة تدل على نمط حياتها الذي كان – كلّ يوم صفحة جديدة من كتاب”.
حقوق المادّة والصور في المقالة محفوظة حصريًّا للكاتبة. يُمنع استعمال هذه المادّة بدون إذن خطّيّ من الكاتبة.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *