بروﭬـا حيّة في الكنيست

مراسل حيفا نت | 29/01/2018

بروﭬـا حيّة في الكنيست
جواد بولس
قرار نوّاب القائمة المشتركة، ضرورة التشويش على خطاب نائب الرئيس الأمريكي، بينس، أمام هيئة الكنيست كان صائبًا، وذلك رغم ما استجلبه من مواقف منتقدة أو متحفّظة أو ساخرة أو ناصحة، فلقد أوصل المشهد – على قصره وما صاحبه من فوضى – الرسالة وتحوّل إلى حدث “معطّل”، فخلق توازنًا إيجابيًّا في جيوب هامّة في الإعلام العالمي وعكّر حميمية الأجواء كما أرادوا أن يشاهدها العالم، وترك في مخيّلات المشاهدين تذكارًا على تعقيد الواقع في بلادنا وعلى وجود سرديّات تتناقض مع ما عبّر عنه بينس وتحمّس له المصفّقون.
في المقابل لا يمكن طيّ ما شاهدناه واحتسابه حدثًا عاديًّا أو عابرًا، فقرار رئيس الكنيست، طرد جميع نوّاب القائمة المشتركة إلى خارج القاعة هو قرار غير مسبوق في حياة هذه المؤسّسة، وسرعة انقضاض حرس الكنيست على النوّاب مجتمعين بهمجية وكراهية فيّاضتين عرّت كمّية الحقد الدفين في نفوس ذلك الحرس الذي أنهى مهمّته بثوانٍ معدودات، وفي فضاءات عدائية ومسعورة رافقها صمت أحزاب المعارضة بمن فيها النوّاب من حزب “ميرتس”.
لقد شاهدنا ما هو قريب لعملية عسكرية، كان ميدانها هذه المرّة قاعة الكنيست، وتجلّت فيها، بمجاز شفيف، جميع العناصر لما قد يواجهه المواطنون العرب باسم الديمقراطية وأمام أعين كلّ العالم وعلى إيقاع تصفيق معظم قادته وفي طليعتهم قادة أمريكا وحلفائها.
يمكننا اعتبار ما رأيناه “البروﭬـا” الناجحة لعمليات مستقبلية يتمّ فيها طرد مواطنين عرب في ظروف مختمرة و”مؤاتية” تستوجبها ضرورة دفاع “الديمقراطية الإسرائيلية” عن نفسها من أعدائها الذين في الداخل.
منذ سنوات ومؤسّسات كثيرة ترصد وتائر انهيار “الأسوار الواقية” لسلطة قانون حمت ولو بشكل نسبي ومنقوص حقوق المواطنين العرب الأساسية، وتعايشت بهشاشة مع شرعية نشاطهم السياسي والاجتماعي الجمعي والمؤسّساتي، ونحن نشهد منذ سنوات تحوّلًا جذريًّا في علاقة الدولة ومؤسّساتها مع الجماهير العربية، ونواجه تبعات نشوء نظام تستعدي منظومات حكمه خُمس مواطنيه بشكل مؤدلج وممنهج، وتتصرّف هذه المنظمات بما ينتجه ذلك الاستعداء وأهمّه مسح شرعية وجود الأقلية بقسماتها الجمعية المكتسبة في العقود الماضية، وإلغاء الشرعية عن المؤسّسات القيادية الناشطة بين صفوف هذه الأقلية.
نحن اليوم نخضع لعملية إذابة وجودية تدريجية ولمحاولات صهر الهُويّة الجمعية وتفتيتها من خلال استيعاب أفراد ومؤسّسات وقيادات محلّية جديدة وقبول هؤلاء للعيش تحت سقف يهودية الدولة وصِهيونيتها؛ كما يعبّر عن ذلك معظم مركّبات الحكومة الحالية والأكثرية اليهودية.
إنّها مرحلة جديدة في حياة الجماهير العربية وفي حياة الدولة وفيها تنحسر جميع الهوامش ويلاحق بدون هوادة كلّ صوت لا يتناغم مع نهج السرب المهيمن، وقد نجد في قرار وزير الأمن، أفيـﭽـدور ليبرمان، بحقّ الشاعر والكاتب يوناتان ﭼـيفن دلالة رمزية جديدة عمّا وصلت إليه غطرسة النظام وما هي حدود انتقامه وقمعه.
فمجرّد أن تجرّأ هذا الشاعر الصِّهيوني وكتب قصيدة قصيرة في الأسيرة عهد التميمي وقارنها ببعض أسماء المناضلات من أجل حرّية الإنسان، أصدر الوزير تعليماته لإذاعة الجيش مطالبًا بحظر نشر أيّ قصيدة له أو إجراء مقابلات معه، لأنّه يصف “مخرّبة” بأنّها “فتاة جميلة عمرها 17 ربيعًا، أقدمت على فعل “فظيع”، فعندما دَهم ضابط إسرائيلي فخور بيتها، صفعته، لقد ولدت الفتاة في هذا الواقع، وفي هذه الصفعة جمعت خمسين سنة من الاحتلال والإذلال، في اليوم الذي سيقصّون قصّة النضال، أنت، عهد التميمي، حمراء الشعر، ستكونين مثل داود الذي صفع جوليات، وستكونين في الصف نفسه، مع جان دارك، وحانا سينش وآنا فرانك.”
أعرف أنّه حدث صغير مقارنة بالملاحقات السياسية للقادة والحركات والمؤسّسات العربية، وأنّه خربشة خفيفة بالمقارنة مع رزمة القوانين التنّينيّة التي شرّعتها الكنيست ضدّ العرب ومواطنتهم العرجاء، لكنّه يبقى – كما قلنا – مؤشّرًا على فداحة ما وصلت إليه حالة الحكم ونهم قادته ويعكس – في الوقت ذاته – صورة “المعسكرات” البشرية القائمة في الدولة، فإلى جانب الضحايا العرب قد نجد فئات صغيرة تختلف مع سياسة القمع والحقد والطمس الرائجة، ومن المنطق والضرورة أن نسعى لاستمالتم وموضعتهم في خنادقنا، فبدونهم نحن أضعف، ومهمّة ابتلاعنا الناجزة ستصير أسهل وأقرب.
لا يمكن فصل السيرورات السياسية والاجتماعية المتفاعلة في كلا المجتمعين، اليهودي والعربي فقط، لأنّ الأكثرية اليهودية مرّت بعملية كيّ قيميّة وسياسية خطيرة تحوّل – من جرّائها – الأفراد إلى مجرّد كائنات صنميّة فقدت قدرتها على التفكير والاختيار، فصاروا جيشًا محرّضًا على العرب لكونهم عربًا فحسب؛ فرغم هذا الواقع ما زالت هناك تناقضات واضحة داخل المجموعات السكّانية اليهودية المختلفة وإلى جانبها قد نجد، في الهوامش، بعض المصالح المشتركة مع قسم منهم، ونتوصّل إلى مواقف وقيم متشابهة لأنّها تستشرف المستقبل المنشود ذاته عندنا وعندهم، على حدّ السواء.
لن ننجو من سوء ما ينتظرنا، وذلك إذا تخلّينا عن واجبنا في إيجاد هؤلاء الحلفاء، ففي الماضي نصحنا ببذل كلّ المحاولات للوصول إلى تلك الجيوب التي تتعارض قيمها ومواقفها ومصالحها مع السياسات السائدة في أوساط الأحزاب السياسية، التي تتّبعها أكثرية المجتمع اليهودي، ومهما كانت تلك الأصوات خافتة أو شاذّة أو نادرة فعلينا جذبها إلينا والتحالف معها، فيونتان ﭼـيفن كتب ما كتب رغم تاريخه الصِّهيوني ومثله فعل – في الماضي – عديدون من الأدباء والشعراء والفنّانين والأكاديميين، ومعهم وقف بعض السياسيين الذين خرجوا من قوالبهم، لكنّنا لم نبحث عنهم وعن كيف من الممكن “التجبهن” معهم، بل تركناهم على أرصفة الوحدة والعثار، فسكتوا وضعفنا.
لقد حرم قرار رفع نسبة الحسم في الانتخابات السابقة معظم الأحزاب والحركات العربية من ممارسة حرّيّاتها الفكرية، وأجبرها – في لحظة اندهاش سياسية – على إقامة القائمة المشتركة، التي ولدت، عمليًّا، في ظروف غير مختمرة وبقيت – حتّى ساعتنا – تتصرّف كـ”ابنة السبعة”؛ غير مكتملة البلوغ والنضوج.
كانت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة أوّل الأحزاب التي جمّدت مشاريعها السياسية الكبرى من أجل إنجاح إقامة القائمة المشتركة، وقد رافق ذلك تنازلها عن مبادرات متقدّمة لإقامة تحالفات واسعة مع فئات وشخصيات يهودية وصِهيونية عبّرت – في حينه – عن استعدادها للالتحاق بصفوف الجبهة لهدف إقامة جسم عربي يهودي مختلط سيحاول الوقوف في وجه قوى اليمين المستوحشة والمتنامية.
كان موقف الجبهة مبرَّرًا؛ فالسياسة أولويّات، والوحدة المفروضة – كما أتاحتها تداعيات المرحلة بين مركبات المشتركة – كانت مطلب الساعة وضرورة وجودية، على الأقلّ لبعض تلك المركّبات، فحتّمت على الجميع تبنّي التجربة وخوضها والعدول عن بدائل حزبية فردية.
ما زالت تجربة القائمة المشتركة فجّة، وهي تواجه – في هذه الأيام – أزمة كشفتها مشكلة التناوب والمحاصصات، لكنّها بنظري أعمق من هذه الجزئية وأخطر، وبما أنّنا لا نعرف كيف ستنتهي هذه الأزمة وما سيكون في الانتخابات القادمة، وبما أنّ الاتفاق بين مركّبات القائمة على مبدأ التحالف مع القوى اليهودية والصِّهيونية حول مسائل عينيّة سيبقى موضوعًا مبدئيًّا خلافيًّا، وبما أنّ الجبهة ما زالت مقيّدة بتصرّفها منفردة في هذه المسألة، وبما أنّ هناك خلافات جوهرية وعوائق بُنيوية تمنع مجابهة قضايا مصيرية أخرى يعاني منها مجتمعنا، مثل العنف المستشري ومكانة المرأة، والاعتداءات على الحيّزات العامّة، وطريقة التعامل مع مؤسّسات الدولة وغيرها، لا يمكننا أن نستبشر بتغيير أحوالنا ولا بوجود أمل جِدّي بالتصدّي لما يحدق في مصائرنا من مخاطر حقيقية وجودية.
هناك من يفترض أنّ بقاء القائمة المشتركة هو خِيار حتمي ومصيري، والبعض يقترح تطوير التجربة عن طريق إسنادها بتوافقات سياسية فكرية تساهم في تمتينها وتسهيل عملها المثمر في المستقبل، أمّا أنا فلا أتصّور أنّ هذا الأمر ممكن، لأنّ الاختلافات العَقَدِيّة بين مركّباتها جذرية وأساسية، ولا يمكن التجسير بينها أو إلغاؤها.
على جميع الأحوال ستُبدي لنا الأيام ما نجهله، وإلى أن يتمّ ذلك أذكّر بفكرة تشكيل مجلس طوارئ قطري، يتابع – بالتوازي وليس كبديل لأيّ مؤسّسة قائمة – بعض هذه القضايا التي لم تنل عناية جوهرية مؤثّرة.
ترمي الفكرة إلى إقامة جسم من خمسين شخصية اعتبارية تمثّل قطاعات واسعة من الشعب (العدد مجرّد اقتراح يمكن تغييره حسَب الحاجة والاتفاق) ولا يعتمد الانتماءات الحزبية الرسمية شرطًا للعضوية.
يتمتّع هذا المجلس بحرّية العمل من غير روابط حزبية مقيّدة أو مصالح شخصية ضيّقة، ما سيتيح لأعضائه إمكانية ابتكار وسائل عمل جديدة وأساليب مستحدثة، وطرق أبواب لم تُطرق، وتُعدّ كلّها مقترحات تُعرض أوّلًا على المؤسّسات القيادية ثمّ على الناس.
إنّها مجرّد فكرة أوّليّة ما زالت بحاجة إلى تفكيك ودراسة وإعداد، وأعرف أنّها قد تروق للبعض وقد يعترض عليها آخرون، لكنّنا في زمن المخاطر الكبرى، ولأنّنا فيه فنحن بحاجة إلى خوض غمار المستحيل وتجريب ما قد يساهم ويفيد، فطوبى لمن يسعى ويحاول وفي قناديلنا ما زال بعض من زيت.
03(5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *