ذكريات من سنوات الستين: مع محمود درويش تحت خيمة واحدة-عباس زين الدين – حيفا

مراسل حيفا نت | 29/03/2010

 

  حي وادي النسناس في حيفا أشهر من نار على علم. فهو الحي الذي  ارتبط  به عنوان صحيفة "الاتحاد"، حيّ عامر بأهله رغم  النكبة.  كما كانت سوقه ومتاجره عامرة  بعد أن لملم جراحه وتحول إلى مجمّع سكاني لعرب حيفا وللنازحين من قرى طيرة حيفا "طيرة اللوز"  وإجزم وعين غزال والقائمة طويلة.وفي عام النكبة دخل الكثير من العائلات اليهودية التي جاءت للاستيطان في الحي، فمنهم من جاء بقصد طرد العائلات العربية من بيوتها والسكن مكانها ومن أجل فرض عملية تهجير جديدة، ومنهم من نجح  في "السلبطة" على بيوت العرب  و"مشاركتهم" عنوة في مساكنهم بما فيه "المنافع"! لا بد من الإشارة إلى أن يقظة أعضاء الحزب الشيوعي يهودًا وعربًا وأصدقائهم حالت دون تنفيذ رغبة العنصريين اليهود لعملية احتلال جديدة للحي.

*********************************************

** كرنفال "عيد الأعياد" وفي الأيام هذه، يأتي الزوار  من كل حدب وصوب للاحتفال بـ (كرنفال المساخر) المسمى "عيد الأعياد"!  يسيل لعابهم لأكل الفلافل والكبة العربية والمناقيش واللبنة والزيت والزعتر.. التي سوّقوها فيما بعد على أنها "أوخل يسرئيلي" أي أطعمة إسرائيلية. كما سوّقوا الثياب الفلسطينية التراثية على أنها من صناعات "الفولكلور الإسرائيلي".

إن هذا الأمر يهمنا جدًا. غير أن ما  يهمنا الآن، هو الميزانيات التي تهدر على حساب دافع الضرائب. فبلدية حيفا تخصص ميزانية كبيرة وعن طريق بيت هجيفن، لدعم كرنفال المساخر، ويذهب القسط الأكبر منها إلى سراديب مظلمة 

************************************************

**  وادي النسناس وطن محمود درويش!لماذا بدأت مقالي بالإشارة إلى هذا الحيّ؟ والجواب على ذلك..أنه أعرق الأحياء في مدينة حيفا. ولأنه كان شاهدًا على تخريج فوج من الشعراء والكتاب  ورجال الفكر والثقافة والسياسة. ولا بد لي هنا أن أذكر الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور ابن حيفا الذي قبّل أرض الوادي واختلطت دموعه بترابها في أول زيارة له إلى حيفا قبل عشرين سنة تقريبًا.

ولنعد إلى الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه في هذا المقال.. لنستعرض بعض الذكريات عن شاعرنا الكبير محمود درويش الذي جاء إلى حيفا محررًا في صحيفة "الاتحاد"، وبعد مدة وجيزة أصبح  ركنًا قويًا من أركان "هيئة التحرير" التي كانت تضم في عضويتها آنذاك طيّبي الذكر إميل توما وصليبا خميس وعلي عاشور ومحمد خاص وجبرا نقولا  ومحمود درويش وسميح القاسم أطال في عمره

**************************************************

** محمود درويش يطلق أشعاره من منصة "بستان الشيوعيةعنوان المكاتب: "بستان الشيوعية"(سابقًا) في بناية نادي الأرمن (سابقًا) المُقامة  في  شارع الخوري23  ص.ب 104

وأما رقم الهاتف فلا يزيد على 3 أرقام!!

والمكان:  بناية قديمة  ذات 3 غرف قُسمت على النحو التالي: ألغرفة الأولى لهيئة التحرير والثانية للإدارة والثالثة غرفة تحرير صحيفة "الغد".

كانت مكاتب "الاتحاد" ملتقى الأدباء والشعراء والمثقفين.  ومن هذا الموقع انتشرت الكلمة الطيبة عبر صحافة ثورية مكافحة ضد الحكم العسكري الجائر الذي كان سيفه مُصْلتًا على رقاب الجماهير العربية الباقية في وطنها.

غير أن ظروف العمل السياسي والمسؤولية تجاه شعبنا  تتطلب التصدي للاعتداءات اليومية التي مارستها سلطات الحكم العسكري. وقد تمثل الرد  بتوزيع المناشير وعقد الاجتماعات الشعبية ورفع الشعارات والمظاهرات. فعندما قُتل الشباب الثلاثة في حيفا  بتاريخ 17-9-1961  انطلق صوت محمود درويش مجلجلا "سجل أنا عربي"، وتدفقت من حنجرته عشرات القصائد الثورية الهادفة التي ألهبت حماس الجماهير.

لقد زادت معرفتي بمحمود بعد أن عملت في إدارة صحيفة "الاتحاد" في أواسط العام 1966. فقد كنت أكنّ له عميق الاحترام كباقي العاملين في الصحيفة. لم تكن ثقافتي العلمية المتواضعة تساوي شيئًا بالنسبة لثقافته الواسعة، بل كان الهمّ المشترك في الحياة والانتماء الحزبي ووحدة الحال الفكرية هو القاعدة الصلبة  التي انطلقنا منها وكانت تجمعنا معًا تحت مظلة واحدة.

وذات مرة دعوته لزيارتنا في البيت، فلبّى الدعوة مسرورًا. واستمرت الزيارات التي تحولت إلى سهرات ثقافية واجتماعية بحضور الأصدقاء والجيران في بيتنا المتواضع في شارع  قيسارية.

***************************************************

** رغم الزلزال الحزيراني كان القرار حاسمًا: أن تصدر "الاتحاد" في موعدها المحدد

في العام 1967 وفي شهر حزيران وقعت الحرب العدوانية على الدول العربية، وقد كانت مصر عبد الناصر الجبهة الأولى  التي استهدفتها  هذه الحرب. ففي يوم الإثنين 5 حزيران وفي ساعات الصباح جاء رجال المخابرات واعتقلوا أعضاء هيئة التحرير جميعًا ولم يبق في المكتب سوى ثلاثة عاملين.

وكان قرارنا أن تصدر الصحيفة كالمعتاد، ورغم كل شيء، صباح اليوم التالي (الثلاثاء 6 حزيران 1967) لاندلاع الحرب. فطلبنا المساعدة من طيب الذكر المرحوم عصام العباسي لعمل ما يجب عمله من أجل إنجاز طباعة "الاتحاد" في موعدها المحدد. فصدرت الجريدة تحمل أخبار الحرب العدوانية وأخبار الاعتقالات التعسفية. وقد عملنا على إيصالها إلى جميع الفروع كالمعتاد.

**************************************************** 

** ألسباعي لمحمود درويش: "دا انت محمود درويش؟ فكرتك سمين وصاحب شنب!!".

وفي عام 1968 اشتركنا ضمن وفد الشبيبة في مهرجان الشبيبة الدمقراطية العالمي في صوفيا عاصمة بلغاريا. وفي إحدى الأمسيات، التقينا مع الأديب المصري يوسف السباعي. وبعد التعارف، نظر الأديب السباعي إلى محمود درويش وقال له "دا انت محمود درويش؟ فكرتك سمين وصاحب شنب!!".

وفي أواخر  عام 1970 سافر محمود   إلى موسكو للدراسة في المعهد اللينيني الدولي، وبعد انتهاء المدة علمنا بقرب عودته إلى البلاد. وذات يوم،  وعندما فتحنا المذياع على محطة "صوت العرب" من القاهرة فوجئنا بالمؤتمر الصحفي الذي  عُقد احتفاء  بالشاعر الكبير محمود درويش.

******************************************************

** غيرت موقعي ولم أغير موقفي قال الشاعر: "لقد غيرت موقعي ولم أغير موقفي. إن شعرة معاوية بيني وبين حكام إسرائيل قد انقطعت".

أصابتنا الدهشة الممزوجة بالعتاب، فقد أردنا أن يظل محمود بيننا ومعنا في خندق النضال الذي تعودنا عليه معًا. وتذكرنا أيامًا جميلة عندما  امتزج الهزل بالسياسة، فلم تخل الأجواء في مكاتب "الاتحاد" من النكتة والمداعبات الكلامية التي كان يتناقلها المحررون،  وخصوصًا عندما يحضر المحامي حنا نقارة الذي كان المستشار القانوني للصحيفة والمحرر المسؤول لمجلة "الجديد". ولم يسلم أحد من الزملاء من "تنقيرات ودمدمات" علي عاشور الذي نشر قصائده التي وقعها باسم مستعار"أبو الهول دمدم".

هذه الذكريات وغيرها لن يمحوها الزمن ما دام نهر الحياة يهدر في عروقنا.

فمحمود غاب جسدًا..ولكنه باق بيننا..نذكره كل يوم..

إنه عصيٌّ على النسيان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *