روضة غنايم: صورمن شرفة بيت الفنان ميخائيل توما حياته وذكرياته من شارع عباس 45

مراسل حيفا نت | 06/10/2017

حيفا في ناعورة الزمان/حاراتٌ بيوتٌ وناس (8)
روضة غنايم مصورة وباحثة – حيفا

روضة غنايم: صورمن شرفة بيت الفنان ميخائيل توما حياته وذكرياته من شارع عباس 45

“إنني أسير في مسقط رأسي، مدينة حيفا. تغيّر “المشهد البشري” في المدينة، وأدرك أن قسمات وجه أبي وأسارير أبناء جيله على وشك الاختفاء، تلك الوجوه التي جبلتها الريح والأمطار والشمس، ذلك النوع من الناس الذي تميّز بحراثة الحقول وصعود الجبال.الآن يحوي المكان أخلاطاً من الوجوه الجديدة، ويزخر بقصّص أخرى.” تأملات، (ميخائيل توما).
في سلسلة كتاباتي عن شارع عباس،أصف بشغف تلك التفاصيل اليومية التي من خلالها أقترب من البيوت، ومن حياة سكانها وأكشف عن سراديب داخلية. وفي هذا المقال ارتأيت استحضار شخصية عاشت سنوات في الحيّ، وهو الفنان البصريّ ميخائيل توما من مواليد عام 1956، نجل د.إميل توما وفنانة السراميك حايا غربير توما. وقد عاش ميخائيل مع عائلته في شارع عباس 45 حتى مغادرة البلاد في عام 1987، ليقيم في مدينة لايبزيغ- ألمانيا. وهناك درس الفنون البصريّة في معهد الفنون، وبعد إنهاء دراسته عمل مُحاضراً لعدة سنوات في المعهد نفسه وتفرغ لاحقاً للعمل الإبداعي في حقل الرسم والكتابة.
عندما تعرفتُ على ميخائيل قبل عدة أعوام، اعتقدت أن اختيار اسمه جاء كاسمٍ متداول عند العرب واليهود، لكونه ابناً لأب عربيّ ولأم يهودية. بعدها أعلمني أنه يحمل اسم شقيق جدّه جبرائيل وهو ميخائيل الذي كان عضواً لسنوات عديدة في بلدية حيفا في فترة الانتداب. فإسم الجد مُنح لابن عمّه الأكبر حنا.نشأ وترعرع ميخائيل في رحاب ثلاث حضارات، هي العربية واليهودية والروسية. تعلم الكثير عن حياة تاريخ عائلته من جدّته لأبيه ماري التي عادت من لبنان في عام (1965)عن طريق قانون لمّ الشمل، بعد أن رحلت مع الذين رحلوا عام (1948).
عندما بدأ ميخائيل يروي لي ذكرياته من البيت والشارع اختار أن يرويها من خلال رسوماته التي رسمها في بداية السبعينات، من وحي البيت وسكّانه، وهم الجدّة ماري والأب إميل والأم حايا. وعدّة رسومات تُظهر مشاهد من شُرفة البيت. سألته:”هل كانت للشرفة مكانة خاصة في حياة العائلة؟”أجابني: “نعم،خاصةً في أيام الصيف.أتذكّر شرب القهوة وتناول البطيخ البارد بعد الظهر مع والديّ وجدتي فيها. وكنا نجلس على الشُرفة معاً لأقارب والأصدقاء، وأحياناً مع الصحافيين الذين أتوا لإجراء مقابلات مع والدي.وبما أن الشرفة تطلّ على البحر كنا نشاهد البواخر الكبيرة التي كانت تدخل إلى الميناء، ونشاهد كيف كانت تغادر الميناء. وفي يوم صاف كنا نشاهد جبال لبنان.
وخلال حديثنا أخرج ميخائيل من رزمة رسوماته الورقية من الحجم الصغير رسمة تظهر امرأة من الخلف، جالسة على كرسي هزاز،وحذاؤها ساقط من قدميها، وهي تتأمل المنظر على مد البصّر. حدّثني ميخائيل كيف بدأ يرسم في سن الرابعة عشر قائلاً: “في البداية كنت أرسم من خيالي، ومع الوقت بدأت أرسم أيضاً مناظر واقعية، استوحيت قسما منها من أجواء البيت. مثلاً رسمت جدّتي، ورسمت أبي وهو يكتب وراء مكتبه، ورسمت زوايا البيت”. وأشار إلى الرسمة التي أخرجها مستطردًا: “هذه الرسمة تحمل عنوان “جدّتي”رسمتها بقلم جرافيت وقلم رصاص في عام 1972، وجدّتي ماري كانت تسكن معنا. في الصباح كنا نجتمع ونتناول الفطور معاً. وبعد الطعام كنا نغادر البيت، فوالدي كان يذهب إلى عمله في مجلة “الجديد” أو”الاتحاد” ووالدتي إلى حانوت الكتب”ستيماتسكي” الذي كانت مديرته، والذي كان يقع في شارع الاستقلال (شارع الملوك سابقاً).وأما أنا فكنت أذهب إلى المدرسة. وتبقى جدّتي في البيت تعدّ طعام الغداء.وجدّتي امرأة هادئة وهي من نوع الناس الذين يصغون للآخرين باهتمام كبير.وعندما لم تكن مشغولة بأعمال البيت أو قراءة الجريدة أو نسج وغزل الصوف، كانت تجلس في الشرفة وتتأمل المدينة بصمت. وكان جلوس جدّتي وتأملها يلفت انتباهي، وهذه الرسمة رسمتها من الذاكرة.
وأكملنا تصفح الرسومات وانتبهت إلى رسمة يظهر فيها رجل جالس على كرسيّ من القش، وإلى جانبه امرأة واقفة وظهرها لنا، وكلاهما يراقبان طائرة الهليكوبتر في السماء.
حدثني ميخائيل عن الرسمة قائلاً: “هذه واحدة من ثلاث رسمات بقلم الرصاص،بعد مضي سنوات عديدة من مشاهدتي هذا المنظر. وقد كانت الحرب الأهلية في لبنان في أوجها، وكانوا يأتون من جنوب لبنان بالمصابين في طائرات هليكوبتر إلى مستشفى”رمبام”.كنت أرتبك وأنزعج عندما أشاهد هذا المشهد من الشرفة. وتساءلت في نفسي، كيف يمكن هنا في حيفا، حيث يسود الهدوء والسكينة، وفي مكان ليس بعيدا عني، ثمة أناس يعانون من الحرب والدمار! وعندي ذكرى خاصة مع والدي في الشُرفة، فوالدي كان أحياناً يجلس ويتأمّل المنظر من شُرفة البيت. وذات يوم جلستُ إلى جانبه وسألته عن الأوضاع السياسية المحبطة التي سادت وقتئذ البلاد، وأجابني بصوته الهادئ تحليله للأوضاع السياسية، وأما أنا فكنت أكثر إلحاحاً وقلت له: “الأمور سيئة ولا أرى ضوء الانفراج”. فنظر إلى الأفق وقال: “يا إبني لازم نشوف الأمور في أبعادها التاريخية”. أذكر إلى اليوم تلك النظرة، وربما شعرت بحزن ولكن أدركت أيضا حكمة والدي”.
وثمة لوحة شباك، وعلى يد الشباك علّقت وردة منحنية. اللوحة مرسومة على ورق كرتون بألوان زيتية. ألوانها زاهية،من ناحية تُعبّر عن أمل وقوة، ومن ناحية أخرى تعبّرعن حزن. سألته عن معنى اللوحة أجابني:”إن للشباك في حياتي معنى خاص، فمن الشُباك أطل إلى الحياة، وفي المدرسة كنت أحب الجلوس في المقعد الأخير وأتأمل حركات الغيوم، وتقافز العصافير والأشجار.وأما لوحة الشُباك التي نراها رسمتها سنة 1973 وهي شباك غرفتي في البيت في عباس45 وتعبّر عن شعوري وقتئذ بالحزن والأمل وعنوانها “الشباك الأخضر،ألم وأمل”.
وسألته عن لوحاته من السنوات الأخيرة، إذ للمرأة حضور بارز، أجابني: “إن المرأة في فني تمثل الحياة، وهي تمنح العالم الاستمرارية بولادات جديدة، والمرأة ترمز إلى قوة الطبيعة مثل نور الشمس، صلابة الجبل وثبات الشجر وجذوره”.
حدثني ميخائيل عن صراع الهويات في حياته، وعن قصة السجادة التي عادت من بيروت إلى حيفا وعن أحداث أخرى:
“روت لي جدتي عن بيت العائلة القائم في شارع الأنبياء “هنفئيم 3″، والذي كانت بنايته واحدة من عدة بنايات أقيمت على نفس الطراز، بناها الإخوة جبرائيل وميخائيل توما. والساحة التي تربط بين البنايات كانت تسمى (ساحة توما). وتعتبر هذه البنايات من أهم ما تبقى من التراث العربي المعماريّ في حيفا. في نكبة عام(1948) اضطر الأهل إلى ترك البيت والرحيل قسراً إلى لبنان، حينها لم يكن لديهم الوقت الكافي لأخذ أغراضهم معهم، لكن في اللحظة الأخيرة استطاعت جدّتي ماري أخذ بعض السجاجيد الفارسية.وعندما عادت إلى حيفا أحضرت معها سجّادتين لأبنائها، واحدة ما زالت موجودة في بيتي في حيفا”.
كما حدّثته جدته عن الحياة في المنفى، وكيف تخلى جدّه بحسرة وألم عن مفتاح الدار، بعد أن قضى عليه المرض وفقد الأمل بالعودة.ومن هذه الظروف ربما نفهم تأمّلات الجدّة الشاردة في أبعاد الفضاء..
وقبل عدة أعوام قام ميخائيل بتكريم جدّه جبرائيل بطريقة خاصة، وهي عمل كولاج فني يجمع صورة الجدّ وأفراد العائلة في حيفا والشتات.
أما عن جدّه اليهودي “بوريس” وجدّته”دفورا”،حدثني كيف كانت العائلة تجتمع في المناسبات والأعياد التي شملت أيضا الخالة رينا وعائلتها، وكيف كان جدّه يقرأ في عيد الفصح أسطورة خروج اليهود من مصر.. وقد توطدت صلة ميخائيل مع جدّه “بوريس” بعد أن بدأ جدّه بنحت التماثيل من الخشب. ويحتفظ ميخائيل بعدّة تماثيل في بيته.عرض قسما منها في معرض نظّمه في مدينة لايبزيغ في ألمانيا تكريماً لجدّه، وشمل المعرض أعمال سراميك لأمّه حايا ولوحات له. وأطلق على المعرض اسم “ثلاثة أجيال”. ثم حدّثني عن حبه للغة الإيديش التي كان الجدّ والجدّة يتحدثان بها أحيانا، والتي تشعره بحنين إلى الماضي حين يسمعها اليوم من عابري السبيل.

وعن الحضارة الروسية قال:” كان لهذه الحضارة تأثير عميق على حياتي وثقافتي، فمثلاً أول الكتب التي قرأتها كانت قصص “لأنطون تشيخوف” وروايات “لإيفان تورجينيف” و”ليوتولستوي” وآخرين. ففي عام 1965سافرت مع والديّ إلى موسكو، وامتدت إقامتنا هُناك ثلاثة أعوام، حيث عمل والدي على إنهاء رسالة الدكتوراه في التاريخ”.
والحياة في موسكو أثّرت بشكل ملموس على نهج حياة ونمط تفكير ميخائيل.فخلال تلك السنوات ترسّخ وعيه الثقافي، واندمج بالحضارة الروسية والأوروبية بشكل كبير.تعلم في مدارسها الداخلية، وعاشر المجتمع الروسي بشكل قوي، مما أضعف وقتئذ من لغتيه العبرية والعربية.وعاد إلى البلاد عام (1968) فواجهته صعوبة اللغة والتعبير بواسطتها، فاتجه ليعبّر عن نفسه بطريق الرسم.
عاش ميخائيل الصراع اليهودي العربي، مما ترك أثره عليه حتى اليوم. ففي المدرسة اليهودية التي تعلم فيها حتى الصف الثاني كولد تعرّض للضرب والشتم وقالوا له “عربي نتن”، وعندما دَرّس موضوع الفنون في القرى العربية وجّهت له أحيانا تساؤلات عن سبب لهجته ولكنته، وأما في روسيا فتعرّض في المدرسة مراراً لمضايقات عنصرية من الأولاد.
يقول ميخائيل: “اللغة مهمة جدا في تكوين هوية الإنسان، ووجودي في موسكو أثّرعلى وعيي وثقافتي من ناحية وعلى الرابطة بيني وبين المكان من ناحية أخرى”.
وفي ألمانيا، بدأ يعيش في ثنائيّة صراع جديد، ما بين الغربة الاختيارية والحنين إلى الوطن. والصراع الداخلي لم ينته ولا يزال يرافقه حتى اليوم. صحيح أنه يعيش ويبدع في ألمانيا، لكن جذوره تشدّه بين حين وآخر لاستنشاق هواء الوطن.
وأخيرا عند درجات البيت عادت به عجلة الزمان إلى الوراء، وكأنه أبو جميل الرجل السبعينيّ، الذي كان يجلس عند شباك داره، وينظر نحو البحر والناس والأطفال الذين يلهون في الحارة، ويحلم أبو جميل أن ينطلق إلى العالم، فعبء الحياة في البلاد أتعبه. وفي أحد الأيام قرر أن يركب سفينة راسية في الميناء ويترك وراءه المدينة البحرية حيفا.. ويبدأ مشواراً جديداً في حياته. وشخصية أبو جميل هي قصة وهميّة عبّر عنها ميخائيل في قصة كتبها وربما كان هو بطل هذه الشخصية.
E- [email protected]
tuoma 1

tuoma 2

tuoma 6

tuoma3

tuoma4

tuoma5

tuoma7

صورة شخصية ميخائيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *