حيفا في ناعورة الزمّان/حاراتٌ بيوتٌ وناس (4)
روضة غنايم مصورة وباحثة – حيفا
شارع عباس في حيفا عطرٌ لا يُنسى
أنشر في هذا العدد الجزء الأول عن شارع – حيّ عباس وسأكشف لكم قصة بيت (عباس 36) وفي الأعداد القادمة سنزور بيوتا أخرى لأطلعكم على تاريخها وقصص سكانها.سآخذكم اليوم معي لنشرب القهوة سويةً في بيت المحامي على رافع (أبا المهند)، لنتعرّف على قصة بيته(عباس36) ثم نقوم بجولة قصيرة في الحيّ، وثم نعرّج إلى بيت الشاعرعصام العباسيّ لأطلعكم على حقيبة مذكراته الشخصيّة.
تاريخ الحيَ
يمتد شارع عباس من حي الهدار إلى سفوح جبل الكرمل، ويتشعب منه شارعا”المتنبي”و”المطران حجار”هذه الشوارع الثلاثة تشكّل حي عباس.أطلق على الشارع اسم عباس في عام (1940) وسُميَ بهذا الاسم تيمّنًا بعباس أفندي بن بهاء الله مؤسس الديانة البهائية، التي اتخذت حيفا مقراً دينيا وإداريا لها،وفي فترة زمنية معينه تركزت الطائفة البهائية هذا الحيّ.والمعروف أن عباس أفندي توفي في حيفا عام(1921)، ودفن في معبد البهائيين على جبل الكرمل، وفوقه أقيمت قبة تحمل اسمه.
يُعتبر حيّ عباس من الأحياءالعربية العريقة في مدينة حيفا، وقد حافظ على طابعه المعماريّ التقليديً الخاص، واستخدام الحجر المدقوق في بناياته، وبنيت فيه في سنوات الخمسينّات والستينّات من القرن الماضي عدة عمارات بالطراز الحديث لمساكن جماعية، وقد سكنت الحيّ قبل عام 48عائلات ثريّة.
زرت الحيّ مراراً وتنقلت بين البيوت لأوثق وأكتب قصصها. سِرتُ بين أزقة الحي، نظرتُ إلى الجمال والعراقة، إلى بيوتٍ بنيت من الحجر المدقوق بطابع عربيّ، وشبابيك خشبية مصبوغة بالأزرق والأخضر، إلى سناسل تعود لقرن من الزمّان، أشجار ليمون وبرتقال ولوز تزين حواكير البيوت، رائحة القهوة والطعام تفوح من الشبابيك وتنتشر بين الأزقة،حبال غسيل تتدلى من أعلى الشرفات، نساء تصحو في الصباح وترتشف القهوة في شُرف بيوتهن المطلّة على البحر. ثلاثة رجال مجتمعون على عتبة محل جميل الحلاق،يلعبون النرد والشطرنج، وألاحظ أطفالا ًيخرجون مع الحلوى من دكان الحي، أسمع ضحكات وتحيّات يتبادلها المارة هناك،أجراس مدارس الحي تملأ الأجواء، يصعدون درّج عصام العباسيّ باتجاه شارع المتنبي، وآخرون ينزلون إلى شارع (عبدالله) بن المقفع. صور، مخطوطات، يوميات، روايات، ذكريات وتاريخ، كل ذلك وأكثر محفوظ في بنايات الحيّ، في خزائن البيوت وصناديق الذاكرة، في المخيّلة وفي القصص الشفويّة.
بيت عباس 36 الشقة الأولى
“أعطيته المفتاح وقلت له هذا البيت بيتك”
التقيت المحامي علي رافع (أبومهند) في شقته الواقعة في الطابق الثالث في عمارة (عباس 36).ولد عام (1941) في قرية ديرالأسد. أنهى دراسته الجامعية في موضوع الحقوق في الجامعة العبرية في مدينة القدس عام (1966). تزوج عام(1969) من سارة. أنجبا خمسة أولاد وهم: المهند، مصطفى، نضال، آية وياسر،وهو ناشط اجتماعيّ. وما يميز بيته أنه حافظ على معالمه الأصليّة من أبواب وشبابيك وبلاط، وهذا يدل على اهتمام وإدراك ساكني البيت بالحفاظ على هذا الموروث الثقافي والعمرانيّ الثمين.حدثني أبا المهند قائلاً: “شارع عباس كان شارع الأغنياء، في سنوات الثلاثينات.جاء السكان من وادي النسناس وأقاموا في الحيّ وأحياء أخرى في حيفا، مكثوا في عباس حتى عام 48، بعدها شُرد من شُرد في داخل الوطن والمنفى”.
أما عن تاريخ البيت فيقول: “هذا البيت (عباس 36) بنته عائلة أحمد أبو غيداء في عام (1936) والتي هُجرت عام النكبة. لصاحبه أحمد وأولاده ومنهم فؤاد أبو غيداء الذي يعيش في لندن، عندما عرفنا أن البيت بناه أبو غيداء قلت وزوجتي سارة، للأولاد إن هذا البيت بناه رجل فلسطينيّ اسمه أحمد أبو غيداء، في عام (2008) سافرت ابنتي نضال إلى لندن وتعرفت على فؤاد أبو غيداء، الذي نشأ في البيت حتى سن التاسعة. كان اللقاء مثيرًا جداً عندما التقت معه نضال قالت له: “أنا من حيفا”.فسألها: “من أين في حيفا؟” أجابته: “شارع (عباس رقم 36 )” عندها هبط الرجل على مقعده وقال لها: “أنت تسكنين في بيتي أنا” قالت له: “نعم من أجل ذلك أتيت لرؤيتك وأسمع منك”. كانت النتيجة أننا دعوناه إلينا، فجاء عام (2010) وأقمنا له احتفالا كبيرا في الحيّ. وعندما استقبلت فؤاد عند مدخل البيت أعطيته مفتاح البيت وقلت له هذا البيت بيتك”.
بعد الانتهاء من الحديث طلبت من “أبا المهند” أن يرافقني بجولة في شارع عباس.نزلنا إلى الشارع والتقينا بعدد من الجيران، ومنهم السيدة تريز دعيم،وقد اتفقت معها أن أزورها بعد إتمام الجولة.
أكملنا السير واستوقفنا بيت المفكر د.إميل توما فقال أبا المهند: “سكنت في عمارة إميل توما (عباس45) في غرفة مؤجرة مع الشاعرمحمود درويش، عند بنات “المشعلاني” وهن الأخوات وداد ونهى”.
واستطرد في حديثة:”أنا ومحمود درسنا سويةً في الابتدائية في ديرالأسد، وبعدها في المدرسة الثانوية في كفر ياسيف.لاحقاً انتقلت لدراسة الحقوق في الجامعة، وأما محمود فكان يعمل في تلك الفترة محرراً في صحيفة “الاتحاد”.وعند انتهائي من الدراسة تدرّبت عند المحامي حنا نقارة، وبهذه الطريقة التقينا أنا ومحمود من جديد واستأجرنا الغرفة”.
تابعنا سيرنا ووصلنا بيت المحامي إلياس كوسا (عباس 51)، والذي سكن في إحدى شققها المناضل لأديب بولس فرح، واليوم البيت بملكية الأستاذ وجيه عوض(في العدد القادم سأتحدث عن هذا البيت وسكانه) ثم صعدنا درّج عصام العباسيّ والذي أطلق اسم الشاعرعليه ودُشن في عام (2009)، وعلى الجهة اليمنى التقينا المربي فتحي فوراني عند مدخل بيته(المتنبي رقم 5) ألقينا عليه التحيّة ودعانا للدخول، وهنا في مكتبه الذي يعجّ بالكتب والذكريات، تبادلنا أطراف الحديث.وتطرقنا إلى رفاقه ومنهم الشاعر محمود درويش،فأشار المربي فتحي إلى النافذة في بيت (المتنبي 7) الواقع مقابل بيته.وقال:”هنا سكن الشاعر محمود درويش عدة سنوات،ومن حين لأخر كان ينادينني من هذه النافذة”.ولد المربي والكاتب فتحي فوراني عام (1941) في وادي الصليب في مدينة حيفا، ويعود أصل عائلته إلى مدينة صفد الجليليّة. وبعد عام النكبة انتقلت العائلة للسكن في مدينة الناصرة واستقرت هناك. تعلّم الابتدائية والثانوية في الناصرة. درس اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وحصل على اللقب الثاني في اللغة العربية من الجامعة العبرية في القدس. عمل مُدرساً في الكليّة الأرثوذكسيّة ومحاضراً للغة العربية في الكلية الأكاديمية للتربية “أورانيم” وله العديد من الإصدارات،آخرها “بين مدينتين – سيرة ذاتية”(2014) و”حكاية عشق وجداريات نصراوية”(2016)، متزوج من ناهدة ولهما نزار، رنا ونضال. واليوم هو رئيس (اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين).
ودّعنا الأستاذ فتحي وتابعنا سيرنا صعوداً إلى شارع المتنبي. ومن أعالي المتنبي بدأنا نسير نزولاً باتجاه شارع المطران حجار، فوصلنا إلى الدوار الذي يربط شارع عباس بشارع حجار حيث يسكن في إحدى بناياته الحديثة الشاعر والأديب حنا أبو حنا. ومن الدوار انحدرنا إلى شارع عباس، في مطلعه يواجهنا بيت عائلة واكد. ونكمل مسارنا حتى نصل بيت (عباس37). وقد شُيّد عام (1934) وعليه ألصقت بلاطة تدل على تاريخ البناء، وهنا انتظرتنا السيدة تريز دعيم التي قدّمت لنا ورق العنب والتبولة والقهوة. وحدثتني عن رحلة حياتها.
بيت عباس 36 الشقة الثانية- حقيبة الشاعر عصام العباسيّ
وفي اليوم التالي زرت عائلة إياد العباسيّ، شقيق الشاعرعصام العباسيّ في بيته (عباس36)،وهذا البيت يعود لوالده نورالدين العباسيّ،والتقيت بزوجة شقيقه إياد (عبلة- أم عباس) وابنتيهما (مي ومنال)، وقد قضيت معهن عدة ساعات نتصفح البومات العائلة، ومخطوطات من الفترة العثمانيّة، وشجرة العائلة تركها الجد نورالدين.وبين هذه الكنوز أحضرن حقيبة الشاعرعصام، التي جمع فيها يومياته الخاصة التي كتبها بخط يده.
وشاهدت على جدران البيت لوحات معلقة رسمتها والدة الشاعر عصام العباسي، زهية العباسيّ، وهي تركية الأصل، وإلى جانب لوحاتها أرى لوحات أخرى لابنتها عصمت العباسيّ.تاريخ وذكريات في هذا البيت تعود إلى الزمّان الجميل،وروت لي عبلة كيف كان يجتمع الشعراء والكتاب في هذا البيت، يناقشون القضايا السياسية والثقافية وكانوا يلتقون مرّة من كل شهر لمناقشة كتاب.
اقتباس من مذكرات عصام نور الدين العباسيّ التي لم تكتمل:
“ولدت في بيروت في 5.6.1924 لوالدين عربي وتركية، وانتقلت إلى عكا حيث كان والدي يعمل مفتش معارف. لغتي الأولى التي نطقت بها التركية. فالحديث في المنزل كان يجري بالتركية، والدي بالإضافة إلى تخصصه بالرياضيات، وأيضاً بجامعة إسطنبول، تخصص باللغة التركية وآدابها ودرّسها في بيروت. والدته كانت تركية. جميع من أحاط بي كانوا يحدثونني بالتركية وقلما كنت استمع العربية. في سن مبكرة جداً ذهبت إلى مدرسة الراهبات مار يوسف في نابلس، وتولت العناية بي راهبة فرنسية، وهكذا كانت اللغة الثانية التي أسمعها بكثرة الفرنسية.وكان من الصعب علي أن أتحدث بالعربية الدارجة وكنت مثار ضحك لذاتي في المدرسة والشارع عندما كنت أحاول النطق بالعربية، ولعل والدي اكتشف هذه العقدة لاحقاً”.
انتقل عصام مع عائلته إلى مدينة حيفا سنة (1945)، وبدأ يعمل بالصحافة وكتابة الشعر والمقالات السياسيّة والاجتماعيّة، فعمل في جريدة “فلسطين” و “المهماز” و “الاتحاد” و “الجديد” و “الغد”، فنشر فيها عدة قصائد شعريّة ومقالات. كان نشيطاً في الحزب الشيوعيّ طيلة أيام حياته. كان مُدَرِساً للغَة العربيّة في مدرسة “الفرير” ومدرسة ” ماريوحنا” في حيفا. ثم إنتقل عام (1977) إلى مدينة القدس فعمل في عدد من المجلات والصحف العربية حتى انتقل للعمل في “جمعية الدراسات العربية”، وفيها تابع نشاطه الأدبيّ والثقافيّ، في القدس وحيفا والناصرة والضفة الغربية ويافا والمثلث وعكا. توفي إثر مرض عضال لم يمهله طويلا في مدينة حيفا في(14.06.1989) دون أن يحقّق حلمه بإصدار ديوانه الذي أطلق عليه اسم “لهب القصيد”،وأيضاً كتاب مذكراته الذي بدأ في كتابته.
(يتبع)