حيفا في ناعورة الزمّان/ حاراتٌ بيوتٌ وناس (3)
وادي الصليب في حيفا بين الذاكرة والنسيان
روضة غنايم مصورة وباحثة – حيفا
تستحضر الشخصيات والعائلات في وادي الصليب
“الاِبن: إلى أين تأخذني يا أبي؟
الأب: إلى جهة الريح يا ولدي.
الابن: ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
الأب: سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي.
الابن: لماذا تركت الحصان وحيداً؟
الأب: لكي يؤنس البيت يا ولدي فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”
(من قصيدة: لماذا تركت الحصان وحيداً للشاعر محمود درويش)
***
وبيوت وادي الصليب تُركت دون الحصان وجزء كبير منها للأسف مات ودفن مع الأيام!. أنشر في هذا العدد الجزء الثالث والأخير عن وادي الصليب. سآخذكم لنتعرّف على بعض البيوت، وهناك، في بيت رقم 15 شارع البرج، ينتظرنا عبد اللطيف كنفاني ليحدثنا عن يوم الاستقبال الأسبوعيّ عند والدته أُم خليل، والذي كان يوم الأربعاء من كل أسبوع.
بعد نكبة عام 48 تحول اسم “شارع البرج 15” إلى اسم “معاليه هشحرور 15” وقد تم تغيير اسم الشارع وبقي يحمل نفس الرقم! منذ زيارتي الأولى لوادي الصليب وخلال السنوات الأخيرة، طرأ على الحيّ تغير جذري ملحوظ، مفاده تحويل بلدية حيفا الجزء الشرقي من الحي إلى متنزّه عام، على حساب عشرات البيوت والبنايات التي دمرتها ومسحتها كليا، حيث بنت تلك الحدائق من حجارة البيوت. كما نصبت في جميع أنحاء الحي يافطات كبيرة تسويقية لمشروع سكني جديد. وبهذا تنوي البلدية إفراغ وهدم ما تبقى من البيوت والعمارات التي دمر منها 70% حتى الآن. وهي ستقوم بالتالي ببيع المساحات لشركات استثمار إسرائيلية، بهدف بناء بيوت سكنية، مكاتب حكومية ومكاتب خاصة ومراكز سياحية. وذلك بعد فشل التخطيط الأول الذي كان هدفه تحويل الحي إلى قرية فنانين. وهذا يذكّرني بقرية عين حوض العربية، التي هُجّر أهلها وجعلوها قرية فنانين لليهود فقط! عندما سألتُ ذات يوم ناشطة يهودية يسارية عن وادي الصليب أجابتني قائلة: “لقد عاش اليهود والفلسطينيون على مدى عقود في حيفا بجوار أطلال وادي الصليب. كان المكان يبدو لي دائما وكأنه نصب تذكاري، نصبه التاريخ في المقام الأول للسكان اليهود لتذكيرهم بنكبة الفلسطينيين”.
بيت عائلة كنفاني شارع البرج 15
يعود بيت شارع البرج 15 لعائلة كنفاني العكيّة التي أتت للعيش والاستقرار في مدينة حيفا. سكنت العائلة البيت مع أبنائها، وكان أكبرهم خليل وأصغرهم عبد اللطيف. تمّ بيع البيت وأصبح اليوم مكاتب للمحامين. عندما زرته هذا الأسبوع سألت إحدى المحاميات إذا كانت تعرف مالك البيت الأصلي؟ أجابتني: “نعم أعرف، فقد سكنت هنا عائلة كنفاني، وقد عرفت ذلك أنا وزملائي من ملفات في بلدية حيفا”. تجولت في البناية والتقطت الصور، بعد موافقة أصحاب المكتب، وعندها قالت لي السكرتيرة: “اذهبي والتقطي الصور في الحمّامات، هناك جدار لم يرمّم بل بقي كما كان في الأصل”.
ولد عبد اللطيف كنفاني في حيفا عام 1926 وهُجّر مع ذويه إلى بيروت في عام 48 ليستقر هناك. هو أديب وحقوقيّ، له مؤلفات أدبية تصوّر الواقع بسرد فعلي للأحداث. أذكر منها: “15- شارع البرج حيفا”، “مشاهير على ألسنة الناس”، “مدرسة العذاب” و “رواية من عكا وإليها”.
في كتابه “15 شارع البرج- حيفا” يصف عبد اللطيف كنفاني بيت العائلة قائلاً: “15 شارع البرج، العنوان الأول. البيت المهد، الدار الكبيرة العريقة، صحن الدار ذو الأعمدة الرخامية. الليوان والكُواتَ العالية المستديرة، المزدانة بالزجاج الملونَ، تنفذ منها أشعة الشمس، فتملأ أركان البيت بقعاً من الضوء البرّاق المتحرك. دارنا هذه كانت وطني الأول، وطناً حقيقياً من تراب حقيقيّ التصقت به والتصق بي”.
ويسرد في كتابه أيضاً بشكل دقيق وواقعي أحداث يوم الاستقبال الأسبوعي عند والدته أم خليل قائلاً: “كانت سيدات المجتمع يتبادلن الزيارات بالتناوب، بموجب برنامج متفق عليه في كل مجموعة من الأسَر. الوالدة أم خليل كان يوم استقبالها هو الأربعاء من كل أسبوع، في فصل الشتاء كما في فصل الصيف وما بينهما، إلا عندما كانت تغيب عن حيفا في زيارة إلى لبنان أو بلد مجاور. تتوافد النسوة إلى الزيارة بعد الظهيرة بقليل، ويمكثنَ إلى ما بعد المغيب. إلا من كانت لبعضهن ضرورات تستدعى المغادرة المبكرة. بداية كانت تدار كؤوس الشراب المثلّج صيفا، تفوح منها رائحة ماء الورد وماء الزهر. وشتاءً تدار أقداح الشاي البلورية المزخرفة تملأ من سماور روسيّ الصنع. ختاماً يأتي دور القهوة التي لا بد ولا غنى عنها، إذ يليها قراءة الفنجان، تتولاها قارئات للطالع ذاع صيتهن في هذا “المضمار”. القهوة كانت تحمص وتطحن في المنازل ولا يؤتى بها جاهزة من السوق خصوصاً أيام الاستقبال. رائحة تحميص القهوة المنتشرة في أجواء البيت إيذان تقليدي بيوم الاستقبال الأسبوعي. ما أن يعجّ الصالو (هكذا كانت تَسمية غرفة الاستقبال) بالزائرات حتى تدور طواحين الأحاديث “الثنائية” و”المتعددة”. مجاملات وتودّد ودردشة وطق حنك بالمليان. أخبار الحبَل والمجيبة، وأسئلة عن الأبناء والمدارس وصحة الأبناء، واستفسارات عن الغيّاب والعائدين من السفر أو من الحجيج. وإذا كان ثمة وفد نسائي تشكّل لحضور مؤتمر ما، فممّن تشكّل ومتى يغادر. قال وقيل وطرائف وحكايات لها أول وليس لها آخر. هذه الست حنوف تروي تفاصيل البعثة النسائية الأخيرة، لست أدري إلى أين، وهذه امرأة الميرالاي وتلك زوجة صالح آغا، وبينهما الست أم عبد الرحمن (زوجة رشيد أفندي الحاج إبراهيم) تنقل للحاضرات أخبار الزوج المنفي في جزيرة سيشل. بعد كل ذلك يحين دور الغناء والطرب والرقص. عود ودربكة ودف ورقص وفقش عالتقيل. ما من واحدة إلا ويأتيها الدور، حتى اللواتي كن يدّعين عدم إجادة “الوحدة ونص”، ويترددن بكل غنج ودلال قبل أن يأخذن بالهزّ والتمايل، فإذا بهن من المبدعات، ونيالو أبو كمال ويا بختو أبو إبراهيم.. صيحات وتعليقات وقهقهة رنانة. ثم تتوالى على الرقص الصبايا العجايا اللواتي كانت أمهاتهن تصطحبهن إلى الزيارات، عندما كانت تبلغ الواحدة منهن السن التي تجعل منها مرشحة للزيجة. أيام طفولتنا كنا نتفرج على ما يدور في الاستقبال، نطلّ ونغيب، ونسرق قطع الحلوى أو الشكولاطة أو حبات الملبّس المعدّة للتقديم، في غفلة من الأخت الكبرى مدبّرة شؤون البيت بكل ما فيه. عندما كبرنا وطالت قامتنا لم يعد من الجائز لنا أن نبصّ على الشخلعة البالغة حدودها، فنزل الإبعاد بساحتنا وصرنا نرسَل بعيداً عن البيت أيام الاستقبال، ولا نعود إليه إلا بعد المغيب، فنسمع من الوالدة إلى جريدة المساء مثلها نشرات إخبارية في كل بيت.”
بيت عبد الرحمن الحاج شارع البرج 13
أشغل عبد الرحمن الحاج منصب رئيس بلدية حيفا بين السنوات 1920-1927. ولد في حيفا وتعلّم في مدرسة البرج الإسلامية، واشتغل موظفا في المحكمة الشرعية. في فترة رئاسته وضع نظام المجاري وأقيمت المحطّة الاولى لتوليد الكهرباء، وعبّدت وأنيرت الشوارع. كان عضوا بين السنوات 1934- 1936 في مجلس حيفا البلدي، وتوفي سنة 1946. يعدّ بيت الحاج جزءاً من حي البرج المجاور لوادي الصليب، البيت حجري يحمل معالم معمارية بحسب طراز البناء العربيّ في حيفا. عَلمتُ أن البيت قد اشتراه مستثمر عربيّ. آمل أن تفتح شبابيك البيت ليتنفس الهواء ويشاهد ميناء حيفا.
بيت مفتي حيفا الشيخ محمد مراد شارع البرج 11
في بيت شارع البرج رقم 11 سكنت هناك عائلة مفتي حيفا الشيخ محمد مراد، الذي ولد في حيفا ودرس في الأزهر الشريف، وكان مفتي حيفا في العهد العثماني. امتاز بنزعته الوطنية، وفاز في انتخابات الدورة الأولى للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى عام 1922، عن لواء حيفا وشمال فلسطين. بقي عضواً في المجلس إلى ما بعد 1930. كان مع أعضاء المؤتمر العربي الفلسطينيّ الثالث والرابع والخامس، وعضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطينيّ السابع 1928، وعضو المؤتمر الإسلامي 1928 للدفاع عن المسجد الأقصى. رأسَ في عام 1923 وفداً إلى الهند، لدعوة مسلميها للتبرع لمشروع عمارة المسجد الأقصى وتجديده، ورأسَ في السنة نفسها وفداً آخر إلى الحجاز. شارك رشيد الحاج إبراهيم بتأسيس الجمعية الإسلامية في حيفا عام 1920، وتوفي في حيفا.
(من كتاب: بيان نويهض الحوت: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1948-1917 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت، 1981) تحوّل البيت اليوم إلى مكتب محاماة.
بيت رشيد الحاج إبراهيم شارع البرج 9
ولد رشيد الحاج إبراهيم طاميش في حيفا عام 1889. تعود العائلة بأصلها إلى حَمولة (المحاجنة) في أم الفحم، وعمل رشيد في سكة حديد الحجاز بحيفا. بدأ نشاطه الوطنيّ منذ دخول الانجليز إلى البلاد، فاعتُقل سنة 1936 في سجن الصرفند، ثم نفي إلى جزيرة سيشل حتى انتهت الحرب العالمية الثانية. إنه من مؤسسي حزب الاستقلال، وكان مديرا للمصرف العربيّ في حيفا. هاجر إلى عمّان وتوفي هناك عام 1953 ودفن في دمشق.
(محمد محمد حسن شراب: حيفا جارة الكرمل وعروس فلسطين 2006). هُدم البيت بالكامل ولم يبقَ له أي أثر. أصبح مكان البيت حالياً مصفًا للسيارات.
ومضات
اجتهد عدد من الأفراد وجمعيات المجتمع المدني، واستطاعوا استرجاع أملاك في حيفا، رغم أنها قليلة ولكنها مشجعة. منها نجاح جمعية “مساواة”، بإدارة السيد جعفر فرح بالتعاون مع جمعية “التوجيه الدراسي”، بشراء مبنى كبير في شارع سانت لوكس في حي وادي النسناس وترميمه واستثماره. كما قامت جمعية “اتجاه” سابقاً بإدارة السيد أمير مخول أيضاً، بشراء بيتيين في وادي النسناس. المطلوب هو تشجيع وحثّ الأثرياء الفلسطينيين في البلاد والعالم، لشراء البنايات العربية وترميمها لصالح العرب. هكذا فعل الذين أتوا واحتلوا هذه البلاد، فقد نظّموا أنفسهم وتكاتفوا سويةً. رغم وجود مساعٍ من أفراد ومؤسسات للحفاظ على التراث المعماري الفلسطيني، فإن المجتمع العربي يفتقر إلى أي حراك اجتماعي كاف، متمكّن ومدروس، من أجل الحفاظ على تراث حضارتنا. وعلينا عدم وضع هذا النقص على شمّاعة البلدية والحكومة فقط. بل تقع علينا في هذا الشأن مسؤولية كبيرة كمجتمع عربي فلسطيني، وإنشاء مؤسسات مختصّة لتقديم اقتراحات للحفاظ على ثروتنا التراثية، فتكون بديلة للمشروع الذي يستهدف إقصاء العرب جغرافياً وحضارياً من هذه المدينة العريقة ومن سائر المدن.








