التضحية- بقلم: الكاهن ديمتريوس سمرا-الأب الروحي لرعية الروم الارثوذكس-حيفا

مراسل حيفا نت | 27/11/2009

لهذينِ الخطّينِ واحدٌ، ومسارُهُما التاريخيُّ لن يختلفَ. فمِن اللهِ تلكَ الرسالةُ السماويّةُ، قد بُعِثَت لمكارمِ الأخلاقِ، تهدي الأمّةَ، وتنقذُها من الجهالةِ والظلمِ.
فكانت رسالةُ السيّدِ المسيح، وكانت رسالةُ محمّد، رسالتين هزّتا ضميرَ العالمِ، وأجّجَتا فيه كلَّ مشاعلِ الأملِ، وأثْرَتَا فيه العطاءَ، لما فيهما من قواسمَ مشتركةٍ، ما كانت لتتجانسَ لو كانَ في طبيعةِ الحقِّ الإلهيِّ اختلافٌ أو تغييرٌ.
وإنّ الحوارَ بين أتباعِ الدياناتِ السماويّةِ، هو غايةُ ما تصبو إليه الشعوبُ المؤمنةُ في هذا الطَّوْرِ من الزمنِ، وفي هذه الظروفِ العصيبةِ، التي شَمَّرَتْ فيها قوى الإلحادِ عن سواعدِها تبغي التخريبَ وإعمالَ معاولِ الهدمِ في صروحِ الأديانِ، آملةً في وقوعِها أخيرًا تحتَ ضرباتِها.
كلُّ كلمةٍ تُقالُ أو تُكتبُ، وكلُّ حرفٍ يسطعُ بنورِ الحقيقةِ، سيضيفُ بُعْدًا ذا أثرٍ على قضايا الحقِّ الأوّلِ، الحقِّ الإلهيّ الذي ما جاءَتِ الدياناتُ السماويّةُ الثلاثُ إلاّ لتوكيدِه وترسيخِه في أعماقِ النفوسِ، للأخذِ بيدِ البشرِ إلى حيثُ الصراط المستقيم، والحقّ المبين الذي يُنَظِّمُ علاقةَ الفردِ بِرَبِّهِ، بأخيهِ في الإنسانيّةِ.

فإذا نظرنا إلى إنجيل متّى {22:38-41} هناك وصيّتا السيّد المسيح:
 (أحبِبِ الربَّ إلهَكَ، بكلِّ قلبِكَ، وكلِّ نفسِكَ، وكلِّ ذهنِكَ)
 (أحبِبْ قريبَكَ كنفسِكَ)
بهاتينِ الوصيّتينِ يتعلّقُ الناموسُ كلُّهُ. إنَّ ضميرَ الأديانِ هو محبّةُ للهِ، تَحَابٌّ بينَ العبادِ، كما يُفهمُ من عبارةِ السيّدِ المسيح.
فكيفَ يُفهمُ ضميرُ الأديانِ من عبارةِ القرآن؟
آياتُ المحبّةِ في القرآنِ تُؤكّدُ ضميرَ الأديانِ هذا، فضميرُ الأديانِ محبّةٌ وتَحَابٌّ. ومن صيغةِ التعبيرِ عن هذه الحقيقةِ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا مَنْ يرتدَّ منكُمْ عن دينِهِ فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهُم ويحبّونَهُ أَذِلَّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيلِ اللهِ ولا يخافون لَوْمَةَ لائمٍ ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيهِ من يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ).. قومُ اللهِ يُحبّونَهُ، وهو لذلك يحبُّهُم، فدينُهُ المحبةُ.
ولمّا كانت هذه هي الحالُ، المحبّةُ هي الأساسُ ولبُّ لبابِ الأديانِ، فلا غروّ إذن أن ترافقَ التّضحيةُ المحبّةَ؛ فالمحبّةُ تضحيةٌ، أوّلاً وآخرًا، وإيثارُ الآخر على النّفس، إيثارُ المحبوبِ محبوبَهُ على نفسِهِ، دليلُ الإخلاصِ والوفاءِ والمحبّةِ.
لَكَمْ هي حكمةُ اللهِ تعالى أعلى من المنطقِ البشريِّ.. تكادُ الأعيادُ بِمُجْمَلِها تتزامنُ كلَّ سنةٍ، حتّى باختلافِ المناسبةِ والمعنى، بيدَ أنَّ فرحَ العيدِ، وتجديدَ الإيمانِ باللهِ الواحدِ الأحدِ، المحبِّ الأكبرِ والأسمى، والعاطي الأجود الجوّاد، السّاعي أبدًا إلى خلاصِ الإنسانِ وعَتْقِهِ مِنْ رَبَقَةِ الخطيئَةِ، هوَ التّزامنُ الحقُّ للإعلانِ عن تساوي البشرِ المؤمنينَ أمامِ عرشِهِ السّماويِّ.
تحتفلُ الأمّةُ الإسلاميّةُ هذا الأسبوعِ بعيدِ الأضحى المبارك، وبعدَ تمامِ الشهرِ يحتفلُ المسيحيّونَ بعيدِ الميلادِ المجيدِ، وفي كلا العيدينِ تتجلّى رحمةُ اللهُ تعالى على عبادِهِ أجمعينَ. هيَ رحمةٌ وحبّةٌ من لدنِهِ، تثبتُ لنا أجمعينَ أنّا أخوةٌ، وأنَّ اللهَ يكيلُ بذاتِ المكيالِ، فلا فرقَ بينَ عربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتّقوى.
التّضحيةُ في الدّياناتِ السّماويّة، تكادُ تتقاربُ معنًى وأسلوبًا، منذُ فجر التاريخ: دعونا نرجعُ بكم للتاريخِ، قبلَ بدايةِ ظهورِ أيِّ دينٍ، لقصّةِ تقديمِ هابيلَ وأخيهِ قايينَ ذبيحةً للهِ تباركَ اسمُهُ. فالكتابُ المقدّسُ يذكرُ في سفرِ التكوينِ أنَّ هابيلَ قدّمَ للهِ قربانًا أو تَقْدِمَةً مِنْ أبكارِ غَنَمِهِ، أي من أفضلِ الغَنَمِ. فنظرَ الربُّ وقَبِلَ تقدمتَهُ، وهي التقدمة التي فيها ذبح ودم، وأمّا قايينُ فقدّمَ للهِ قربانَهُ من ثمارِ الأرضِ، لكنَّ اللهَ لم يقبلْ تقدمةَ قايين. فالاثنين أرادا أن يرضيا المولى القديرَ، وأن يقدّموا له تقدمةً، لكنّه تعالى قبلَ الذبيحةَ وأبكارَ الغنمِ ورفضَ ثمارَ الأرضِ – ولهذا تفسيرٌ يضيقُ المقامُ عن ذكره الآن-. أمّا بالنسبةِ للدياناتِ الثلاثِ، فاليهوديّةُ والمسيحيّةُ والإسلامُ جاءَ فيها ذكرُ الفداءِ وموتُ الكبشِ أو الخروفِ نيابةً عن الإنسانِ. وقد ذُكرَ في الدياناتِ الثلاثِ قصّةَ نبيِّ اللهِ إبراهيمَ، فقد قيلَ عن إبراهيمَ إنّه بعدَ أن همَّ بقتلِ ابنِهِ ناداهُ صوتٌ من خلفِهِ أنْ يرفعَ عَنِ الغلامِ. وهناكَ في اليهوديّةِ عيد الفصحِ، وعيد القيامة أي موتِ السيّدِ المسيح وقيامته عند المسيحيّين، وعيد الأضحى لدى المسلمين، أعادَهُ اللهُ بالخيرِ واليُمنِ على جميعِكم، الذي قيلَ فيه "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ"، ممّا يعني أنَّ الأديانَ السّماويّةَ كلَّها جاءَ فيها ذكرُ للفداءِ.
فسلامٌ على أبي بكرٍ الصّدّيق، الّذي ضحّى بالمالِ وبالنفسِ من أجلِ طاعةِ اللهِ، والهجرةِ معَ رسولِهِ واحتمالاتِ تعرّضِهِ لكلِّ أنواعِ الأذى والمخاطرِ، في نفسِهِ، وفي أهلِهِ، وفي أولادِهِ.
وسلامٌ على عليٍّ بنِ أبى طالب، إذ رضيَ أن ينامَ فى فراشِ النبيِّ، وتعرّضِهِ للموتِ من أعداءِ الدّينِ.
وسلامٌ على مسيحِنا يسوعَ، ذلكَ الّذي افتدانا بدمِهِ القدّوسِ، لِيَخُطَّ لنا الدّربَ، دربَ النّورِ والحقِّ والهدايةِ، الّذي ما كانَ ليكتملَ لولا اكتمال محبّةِ اللهِ لبنيهِ.
هيَ تحيّةُ أخٍ لكم، بمناسبة عيد الأضحى المبارك، أعاده الله تعالى على جميعكم، وأنتم ترفلون وذويكم وعائلاتكم وبنيكم، بثوب الصحّة والعافية، وكلّ عام وأنتم بألف خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *