لقد سبحوا عكس التيار!
أيها الإخوة والأحبة!
في الستينات من القرن الماضي كان اللقاء الأول!
كنت طالبًا في الثانوية عندما عقدت جمعية الشبان المسيحية في الناصرة مهرجانًا شعريًا شارك فيه مجموعة من الشعراء الذين نهضوا من بين رماد النكبة.. فحملوا الراية.. وساروا في حقول مزروعة ألغامًا..
لقد نهضوا.. فامتشقوا أقلامهم.. وأشهروها في وجه الليل.. وعيونهم تصبو إلى مستقبل أشرف!
جلستْ على المنصة كوكبة من الشعراء أذكر منهم: توفيق زياد وشكيب جهشان وحنا أبو حنا وحبيب قهوجي وعيسى لوباني وجورج نجيب خليل وراشد حسين وجمال قعوار وحنا إبراهيم وآخرين غابوا عن الذاكرة..
وبرز من هذه الكوكبة شاعر طالما سمعنا به وتشوّقنا للتعرف عليه والاستماع إليه! كان له حضور لافت على المنصة.. لفت انتباه جيلنا..
وقف الشاعر وقفة فيها مسحة من كبرياء.. وتألق في فن الإلقاء.. فدغدغ مشاعر الجمهور الغفير الذي غصّت به القاعة الكبيرة من أقصاها إلى أقصاها!
كانت قصيدة غزلية خاطب فيها الشاعر علياء بطلة قصيدة "عليا وعصام" لقيصر معلوف.. فأعجبنا به وبها وصفقنا له طويلا..
كان هذا عصام العباسي!
// هذه أمانة!.. قالها ثم غاب! لقد عدت إلى الأرشيف الأدبي فنبشت في الدفاتر العتيقة وعثرت على أوراق كُتبت بخط مميز جمالا وبهاءً وأناقةً.. ولم تخلُ النصوص الشعرية والنثرية من خرابيش "ارتكبها" قلم الحبر السائل، قبل أن يهلّ علينا الحاسوب وشبابيكه وشرفاته التي تطل على فضاءات صافية وطاهرة لا أثر فيها لآثام "الخرابيش"! فهذه تنتمي إلى عصر الريشة والمسكة والمحبرة والنشافة وقلم الحبر السائل، وكلها رموز تنتمي إلى عصر ما قبل الحاسوب.. وتشرف على مساحات شاسعة يعجز الخيال عن تخيّلها والإمساك بها ..
– هذه أمانة!
قالها بلهجة تنمّ عن حزن عميق!
وضعها بين يديّ.. ثم ابتلعته غابة الغياب!
ونهضت غابة أخرى كثيفة من علامات التعجب وعلامات السؤال! ووضعت يدي على قلبي! فوراء الأكمة ما وراءها!
لقد تركها الشاعر عندي "وثيقة أدبية".. ما زلت أصونها برمش العين.. وأحرص عليها حرصًا استثنائيًا.. وأخشى عليها أن تفلت من يدي أو أفلت من يدها في غفلة من دهر خؤون!
في هذه الأمسية الاحتفالية.. سأقطف من هذه "الحديقة العباسية" بعضًا من البرقيات السريعة.. وهي برقيات يعرفها البعض.. ولا يعرفها الكثيرون.. وأعترف أنني كنت واحدًا من هؤلاء الكثيرين!
***
برقيات من "الحديقة العباسية"!
فلعلّي أثبت ذات يوم عكس النظرية السائدة!
الزمان: الخامس من حزيران عام ألف وتسع مائة وأربعة وعشرين.
ألمكان: عاصمة الأرز.. بيروت.
هنا، زمانًا ومكانًا، كان ميلاد الشاعر.
ألوالد نور الدين العباسي من مدينة صفد.. في شمال الشمال من فلسطين.. كان بعيدًا عن اللغة العربية.. وعلّم الرياضيات في المعاهد العليا في دمشق وبيروت والقدس.. ثم عمل مفتشًا في دائرة المعارف الفلسطينية..
يقول عصام: ألوالدة تركية. وجدتي لوالدتي تركية. لغتي الأولى التركية. وقلما كنت أسمع الناس من حولي يتكلمون العربية. أللغة الثانية التي سمعتها بكثرة كانت اللغة الفرنسية. هذا الحالة الشاذة خلقت لديّ عقدة الشعور بالنقص..
وهنا جاء دور أبي.. فأخذ يعلمني بعض قصار السور من القرآن الكريم.. وشيئًا من الشعر..
أول أبيات تعلمتها:
نفس عصام سوّرت عصاما وعلمته الكرّ والإقداما..
وجعلته ملكا هٌماما.. إلخ..
كان والدي يقول لي: يا عصام.. كن عصاميًا ولا تكن عظاميًا..
ولقنني قصيدة قيصر المعلوف التي مطلعها:
رلى عرب قصورهم الخيام ومنزلهم حماة والشآم
فأعجبتُ بها ولا سيما الأبيات التي يتكرر فيها اسم "عصام". **
//راهبة عربية.. علمتني عشق اللغة العربية!
معلمتي الأولى للغة العربية كانت راهبة عربية. كنا نناديها: السورا ليرانس. لقد علمتني في الصف الأول.. وكانت لديها طريقة رائعة للتدريس.. وأكثرت من أشعار الأطفال.. وهي التي علمتني عشق اللغة العربية.. ولها عليّ فضل كبير لا أنساه ما حييت..
وأنا أنصح المربّين أن يهتموا بتعويد الأطفال.. منذ الصفوف الأولى.. على سماع اللغة العربية الفصحى والنطق بها.. ويجب الإكثار من المحفوظات الشعرية الجميلة والجذابة التي تناسب جيلهم..
ولن أنسى ما حفظته منها عن "العصفور والقفص":
ألحبس ليس مذهبي وليس فيه أربي
ولست أرضى قفصًا وإن يكن من ذهب
**
//خربش وحركش وتعربش!
أنا لست من دعاة العامية.. ولكن لماذا لا نستعمل مثلا كلمة خربش وحركش وتعربش وجعلك وكسدر.. وغيرها من الكلمات التي لا تجد لها في الفصحى ما يقوم مقامها؟!
أجيد أربع لغات: العربية والعبرية والتركية والفرنسية..
وأحب الرياضيات كثيرًا.. وفي امتحانات "لندن ماتريكوليشن" حصلت على شهادة امتياز..
من المواضيع التي تشغل بالي تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية بالمسطرة والفرجار.. وهذا أمر مستحيل كما تقول كتب الهندسة المتداولة.. ولكنني عثرت على كتاب قديم يشكك في هذه النظرية.. وأنا أفكر كثيرًا في هذه المسألة التي ما فتئت تشغل بالي.. فلعلّي أثبت ذات يوم عكس النظرية السائدة!
في تلك الأيام.. أراد لي والدي أن أدخل معهد التخنيون.. وأن أكون مهندسًا!
وأرادت والدتي أن أكون طبيبًا!
وأراد عمّي أن أكون محاميًا!
ثم تركوني وشأني.. فاخترت مهنة المتاعب.. ودخلت عالم الصحافة من أوسع أبوابه..
في عهد الانتداب عملت في الصحف التالية: المهماز والشعب وفلسطين.. وبعد قيام الدولة عملت في "الاتحاد" و"الجديد"..
أحب الموسيقى والغناء.. أفضّل الموسيقى الصامتة.. وأستمتع بالموسيقى الكلاسيكية..
أحب عبد الوهاب وأم كلثوم.. "تبع" أيام زمان.. هنالك موسيقيون كبار لعلّي أفضّلهم على عبد الوهاب.. من هؤلاء أذكر حليم الرومي ابن حيفا..
أليوم أفضّل سماع الرحابنة.. تسحرني فيروز بصوتها المخملي..
أكتب الشعر القديم ولي محاولات في الحديث..
شعر بخط يده
//كيف أصبحت "عبقريا" في التوراة!؟
كان بعض الطلاب اليهود يترددون إليّ لأدرسهم اللغة العربية أو الإنجليزية وحتى العبرية.. وأحيانًا الرياضيات..
علّمت أحد الطلاب اليهود درسًا في التوراة استعدادًا للامتحان.. فنجح وفاز بعلامة عالية.. وإذا بشائعة تنتشر في حيفا بأنني "عبقري" أجيد التوراة.. وبيني وبين التوراة "بيدٌ دونها بيدُ".. فذاع صيتي.. فخبأت رأسي!
علّمت اللغة العربية في مدرسة الفرير ومدرسة مار يوحنا الإنجيلية في حيفا..
آمنت بالإنسان إنسانًا.. عربيًا كان أو غير عربي.. ألمهم أن تكون إنسانًا إنسانًا!
وهكذا وجد عصام الإنسان طريقه إلى الفكر الاشتراكي والأممي.. وآمن بالإنسان.. وآمن أن ظلام الليل زائل.. وأن شمس الحق لا بد أن تشرق.. ولا بد أن تنتصر على الباطل! ***
في عام 1975 تأسست لجنة "المبادرة" للدفاع عن الأوقاف والمقدسات العربية الإسلامية والمسيحية والتراث الحضاري الفلسطيني. كان عصام من مؤسسيها.. أنتخب سكرتيرًا للّجنة وكان "الدينامو".. المحرك وراء العمل التنظيمي والشعبي للجنة.. ثم أُوكلت لي هذه المَهمّة.. وكانت مليئة بالتحديات.. غير أنها كانت ممتعة. وقد آمنت بها رسالة وطنية من الطراز الأول..
في عام 1977 عقد المؤتمر الإسلامي القطري الأول في مدينة الناصرة، وحضره حشد غفير من جميع أنحاء البلاد. وطالب المؤتمر حكومة إسرائيل بتحرير الأوقاف الإسلامية المصادرة وتسليمها إلى هيئات منتخبة انتخابًا ديمقراطيًا.. تدير شؤون الأوقاف بأمانة واستقامة ولما فيه المصلحة الحقيقية لأبناء المسلمين.
وقف عصام في طليعة المبادرين لعقد هذا المؤتمر التاريخي.
**
//رحل وفي نفسه حلم!
وفي السنوات الأخيرة.. قبل رحيله.. عمل في "جمعية الدراسات الفلسطينية" في زهرة المدائن، والتي رئسها فيصل الحسيني.. وفي الآن ذاته تابع نشاطه الأدبي والثقافي في القدس وحيفا ويافا وعكا والناصرة والضفة الغربية والمثلث.
وفي الرابع عشر من حزيران 1989 أي قبل عشرين عامًا.. في الشهر الذي وُلد فيه.. رحل فيه. رحل عنّا وفي نفسه حلم.. أن يصدر ديوانه الذي أطلق عليه اسم "لهب القصيد".. تحية منه لصديقه الشاعر الراحل أبي سلمى. صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها:
أنشر على لهب القصيدِ شكوى العبيد إلى العبيدِ
فالنقاد والدارسون مدعوون إلى وقفة مسؤولة وجادّة أمام ركن من أركان الشعر الفلسطيني.. وواحد من طليعة الشعراء الذين حملوا الرسالة بعد النكبة.
**
في بيتنا "واحة ثقافية" صغيرة تحوي كنوزًا من التراث الأدبي والثقافي.. هذه "الواحة" ترتدي زيّ غرفة صغيرة متواضعة تطلّ على درجات يتيمة أضاعت هُويتها.. فبقيت بلا اسم ولا عنوان.. غير أنها تتمتع بذاكرة استثنائية! ويبدو أن بُناتها اقتُـلعوا من وطنهم في ليل النكبة، وهم اليوم يحترفون السهر في المنافي العربية.. يجلسون على حقائب العودة.. وعيونهم وقلوبهم ومفاتيح بيوتهم على الزناد.. تتوثب متلهفة للانطلاق إلى ينابيع الصبا.. ويقتلها الشوق والحنين لمعانقة الكرمل وشموخه وغاباته وزرقة بحره.. ودرجاته والأعشاب الخضراء المطلة من بين حجارة السناسل التي تنتصب شواهد على جانبي الدرج!
كانت الغرفة وما زالت مجمع الخلان من شعراء وأدباء ومثقفين ومفكرين..
من لم يؤمَّ هذه الغرفة الصغيرة من صنّاع الخارطة الأدبية في هذا الوطن؟.. مِن هؤلاء مَن وصل إلى آفاق لا حدودها لها!
كان عصام واحدًا من روّادها وخلانها.. وما زالت بصماته مطبوعة على كنوزها الأدبية.. وما زال خط يده وخرابيشه وأوراقه التي تغصّ نصوصًا شعرية ونثرية وبيانات سياسية.. ماثلة أمامي عصيّةً على الغياب!
//عين ساهرة.. وحارسة للذاكرة!
هذه الغرفة الصغيرة والمتواضعة.. ستكون، منذ الآن، عينًا ساهرة.. على درجات جارها.. وحارسة للذاكرة!
وسوف تنهض حيفا من نومها كل صباح، فتفتح عينيها.. وتلتفت يمينًا فتلقي التحية على جبل الكرمل الأخضر.. وتلتفت يسارًا فتلقي عليه تحية الصباح:
– صباح الخير يا عصام.. وليبقَ هذا الدرج صاعدًا أبدًا.. وأبدًا إلى أعلى!
**
/اللغة العربية.. لغة أدب وحضارة!
نحن نؤمن أن تسمية شوارعنا بأسماء رموزنا الثقافية والتاريخية هو حق لنا.. نحصل عليه بشقّ النفس.. وبالسير على حدّ السيف..
إنه حق لنا.. نتمسك به ونصونه برمش العين.. ولا منّة لأحد علينا!
وما كان لهذا الحق أن يُنجَز لولا طموح شعبي جارف ومثابر للمحافظة على الوجه الثقافي العربي لهذه المدينة والذي يسعى البعض لطمس معالمه وتغييبه عن الخارطة..
إنه حق لنا في أرض آبائنا وأجدادنا.. رغم الأصوات النشاز التي تُسمع في الآونة الأخيرة.. والتي تصدر عن بعض "المخلوقات" التي امتهنت تزوير التاريخ والجغرافيا واللغة العربية!
ومن واجبنا أن نعمل على احتضان "مسيرة الأسماء" ودفعها إلى أمام.. فخارطة الذين صنعوا الحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية.. تغصّ بالأسماء والرموز..
والأماكن التي تحترف انتظار أسمائها كثيرة..
أخيرًا..
لا بد من وقفة نطل عبرها على اللغة العربية في اليافطات المنصوبة في شوارع المدينة وعلى المشارف وفي الطرق الموصلة بين البلدات والمدن..
فعلى المؤسسات البلدية والرسمية وغيرها أن تحترم اللغة العربية ترجمةً وإملاءً وخطًا وجمالا..
وعليها أن تتعامل مع رموز ثقافتنا بطريقة أخرى.. إن اللغة العربية لغة أدب وثقافة وحضارة وليست لغة أعداء!
**
شكرًا لكل من ساهم في إحراز هذا الإنجاز وأخصّ بالذكر الأخ والصديق أيمن عودة والأخت العزيزة أفنان اغبارية.. ومن قبلهما الراحل الحاضر هشام العباسي (أبو عنان)..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
**
نص الكلمة التي ألقيت في حفل تدشين "درج عصام العباسي"