دخول السيّد المسيح إلى الهيكل

مراسل حيفا نت | 04/02/2017

الثاني من شباط من كلّ عام
فرضت الشريعة في العهد القديم وصيتين: الأولى أنّ المرأة التي تلد، ذكرًا أو أنثى، لا تكون شرعًا طاهرة حتى تكمِّـل أربعـين يومًا على ولادة الذكر وثمـانين يومًا على ولادة الأنثى. وعندما تكمل أيام تطهيرها تأتي إلى الكاهن وتقدِّم عن طفلها حمَلاً ابن سنـة أو زوجي يمام أو فرخي حمام (لاويين 12 : 2 – 8). الوصية الثانية تفرض أن يُقدِّم كلّ ابنٍ بكر ليكون مقدِّسًا للـه (خـروج 13). وتُقرأ هذه النصوص في صلاة الغروب للعيد.
لذلك يقول الإنجيلي لوقا: “صعد بالطفل يسوع أبواه إلى أورشليم ليُقدِّماه للرب، على حسب ما هو مكتوب في ناموس الرب أنّ كلّ ذكر فاتح رحم يدعى قدوسًا للرب وليُقرِّبا ذبيحة حسب ما قيل في ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام.”
تمَّم يسوع كلّ ما تفرضه الشريعـة: الختانـة، الدخول إلى الهيكل، الاحتفال بالأعياد لأنّه لم يأتِ لينقض الشريعـة بـل ليجعلها كاملـة به.
إستقبل يسوع في الهيكل شيخٌ تقيٌّ قدّيس وعرف أنّـه المخلِّص المنتظَر، فحملـه على ذراعيه وقال: “الآن تطلق عبدك أيها السيد على حسب قولك بسلام، فإنّ عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه جميع الشعوب نورًا ينجلي للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل.” سمعان مستعد للموت لأنّه نظر خلاص كلّ شعوب العالم. الفكرة التي تسود هذا اللقاء بين يسوع وسمعان الشيخ هـو أنّ هيكل أورشليم قد زالت شرعيته بمجيء المخلّص وصار المسيح هيكلاً حسب قول الإنجيلي: “إنّي أقدر أن أنقـض هيكـل الله وأبنيه في ثلاثة أيام”(متى 26 :61). وكان يسوع يتكلم عـن هيكل جسده فمن حيث إنّ الابن قد صار هـو الهيكل الحقيقي بالتجسُّد بَطُلَت وظيفة الهيكـل الحجري القديم. وفي كنيستنا البيزنطيّة نقول نشيد سمعان الشيخ كلّ مساء في آخر صلاة الغروب تعبيرًا عن استعدادنا للقاء الرب.

كلمات في عيد التقدمة
في عيد التقدمة (40 يومًا بعد الميلاد) يقف المؤمنون بإجلال عند باب الهيكل، يستقبلون، مع التقيَّين سمعان الشيخ وحنة النبية يوسف البار ومريم العذراء يحملان الطفل يسوع، ويقدّمانه لله في الهيكل. ويقدّمان عنه، شأن الفقراء فرخي حمام… لا يملكان أن يقدّما، كما الأغنياء، حملاً… والحمل هو المحمول على أكفهم: أنظر يا سمعان بعينيك اللتين أضناهما السهر والانتظار… لا قدر لنا أن نشتري حملاً: هوذا حمل الله… عيد التقدمة هو عيد التكريس. شباب وشابات أقدموا على مغامرة “ترك الشِباك”… مُصْغِين إلى صوت المعلم: إتبعني… إلى أين؟ إلى الأعماق… تريدون أن تكونوا صيّادين ماهرين، إليكم السرّ… أَرسُوا شباككم في العمق تجدوا صيدًا وفيرًا. وهكذا تبعه الملايين. قدَّموا له نفوسهم وأجسادهم… هو مثالهم. فقد قدّم نفسه وجسده قبلهم. ومريم مثالهم ويوسف كذلك… في عطائهما غير المحدود بحسابات البشر.
تطلق الكنيسة على يوم التقدمة، اسم يوم التكريس… وتطلب الصلاة: صلاة المكرّسين أنفسهم طالبين معونة السماء ليعيشوا القداسة في عالم اليوم الذي انسحبوا منه لكي يدعوا له أيضًا بالقداسة. وصلاة المؤمنين الصادقين من أجل رعاة نفوسهم، لكي يكونوا النور المشع في دياجير هذا العالم. ولكي يجدوا في المكرّسين والمكرّسات ما يحثُّهم هم أيضًا على تقديم ذواتهم… كلّ في مكانه وزمانه. ما أجملكِ أيّتها الكنيسة. في كلّ مناسبة، تحدٍّ… وفي كلّ عيد، دعوة من جديد…
كلُّنا نعلم أنَّ يسوع المسيح أراد أن يخضع، رغم كونه إلهًا، لهذه الشريعة الدينية، لكي يجعلَنا دائمًا قريبين من الله وفي حضرتِهِ تعالى الذي هوَ مصدرُ كلِّ شيءٍ وإليهِ كلُّ شيءٍ يعود.
يُدعى هذا العيد باليونانية “اللقاء”، ففيه تتمُّ لقاءاتٌ مختلفة. أوَّلُها لقاء سمعان الشيخ مع الطفل الإلهي، حسب وعد الروح لسمعان؛ وهو أيضًا لقاءُ الأجيال، الطفل، ومريم وحنة الطاعنة في السِّن ويوسف وسمعان؛ وهو أيضًا لقاءُ العهدين: القديم والجديد؛ وهو لقاء الشريعة والنعمة. وهو أولاً وأخيرًا وقبل كلّ شيءٍ لقاء الله بالإنسان، أي: لقاء البشرية بخالقها وإلهها، الطفل الجديد، وهو الإله الكائن قبل الدهور.
إنّ إنجيل التقدمة يروي لنا كيف صعد مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، لكي يُقرِّبا يسوع لله. ولكن يخطر على بالنا هذا السؤال وهو: “ألم يكن يسوع هو نفسُهُ الربّ؟” فالجواب بالطبع هو نعم، ولكنَّه أيضًا في نفس الوقت طفلٌ كسائر الأطفال. صار شبيهًا بنا في كلّ شيءٍ ما عدا الخطيئة، وقد قرَّبَهُ والدَاهُ لله في الهيكل: “فمع أنَّهُ في صورة الله، لم يَعُدَّ مساواتَهُ لله غنيمة، بل تجرَّد من ذاته مُتَّخِذًا صورةَ العبد وأطاع…”. قَبِلَ يسوع ذلك من باب الطاعة وليكون مثالنا الأعلى.
وبعد ذلك نرى كيف أنَّ الروح دفع سمعان فأتى إلى الهيكل، وحمل الطفل على ذراعيه وبارك الله وقال: “الآنَ تُطلِقُ، يا سيِّد، عبدَكَ بسلام، وفقًا لقولِك. فقد رأت عينايَ خلاصكَ، الذي أعدَدتَهُ في سبيل الشعوب كلِّها. نورًا ينجلي للأمم، ومجدًا لشعبِكَ”. فمن خلال حملِهِ للطفل يسوع بين يديه، رأت عيناهُ خلاصَ الربّ، وهذا الخلاص هو مجد الشعب ونور العالم بأجمع الذي يخلِّصُ جميع الناس بالألم والأوجاع للوصول إلى سرّ القيامة المجيدة. وكان هناك أيضًا حنّة النبية التي كانت تصوم وتصلِّي ليل نهار في الهيكل. بعد أن رأتِ الطفل خرجت من الهيكل تحمد الله وتحدِّثُ بأمر الطفل جميع الذين كانوا ينتظرون خلاصَهُم.
قُرِّبَ يسوع في هذا اليوم لله في الهيكل استباقًا لأمرٍ آخر. فعندما كان صغيرًا قدَّمَهُ والِدَاهُ لله، ولكنَّهُ على الصليب قَرَّبَ نفسَهُ هو ذبيحةً وقربانًا لا عيب فيهما وذبيحة مساءٍ في سبيل أحبائه، فهو بذلك عَمِلَ مشيئةَ الله في حياته، لا مشيئَتَهُ. إنَّ عيد اليوم هو عيدُ كلِّ واحدٍ فينا، لأنَّنا عندما كُنَّا صغارًا قُرِّبنا لله بواسطة والِدَينا في الكنيسة، لكي ندخل في علاقةٍ قويةٍ مع الله أبينا الذي يُحِبُّنا ويفعل كلّ شيءٍ لأجلنا ولمصلحتنا. وعيد اليوم هو أيضًا عيد الأطفال جميعًا لأنَّهُم قُّرِّبُوا لله في الكنيسة بواسطة والِدِيهم، فهم أمل الكنيسة وهم الذين سوف يشهدون ليسوع المسيح في حياتهم عندما يكبرونَ قولاً وفعلاً. نحنُ كُلُّنا مدعوون لعيش هذا العيد بمحبةٍ وتقوىً، على مثال سمعانَ وحنَّة، ومريمَ ويوسف، ويسوعَ الذي قُرِّبَ لله، وهو بذلك يملأُ قلوبنا بالسلام الذي نحتاجُ إليه لأنَّهُ هو سلامُنا وصُلحُنا وخلاصُنا.
إنَّ تقدمة يسوع المسيح هي تقدمةُ كلِّ واحدٍ فينا، لأنَّنا مدعوون دائمًا لأن نُقدِّم لله كلَّ شيءٍ في حياتنا. كُلُّ يومٍ في حياتنا هو بمثابة تقدمةٍ لله، لأنَّنا كلَّ يومٍ نصلِّي إلى الله ونطلبُ رحمتَهُ ومساعدَتَهُ لنا في هذا اليوم، لأنَّنا بمعزلٍ عنه لا نستطيع شيئًا. فكلُّ يومٍ هو بمثابة إتِّباع يسوع المسيح الذي أحبَّ خاصتَهُ الذين في العالم، وأحبَّهم إلى أقصى الحدود: حتى الموت على الصليب لكي يُخلِّصَنا من خطايانا ويُعيدَنا إلى حضرة الله وإلى العلاقة القوية الثابتة معه. فكلُّ يومٍ هو بمثابة السير للتمثُّل بيسوع المسيح الذي عَمِلَ مشيئة الآب في حياته وليس مشيئَتَهُ. فالتقدمة لله هي بمثابة الوجود دائمًا في حضرة الله الذي يستقبِلُنا ويُسرِعُ لملاقاتنا. وعلينا بدورنا نحن أن ننطلق بسلامٍ لملاقاة الربّ.
4أبونا أغابيوس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *