بعد تأخير طويل نسبيًا، وفي خضم انشغالاتي العديدة، تَسنّى لي أن أشاهدَ فيلم "عجمي". لست محللاً فنيًّا ولا ناقدًا سينمائيًا إلاّ أنّي وجدت حاجةً إلى كتابة هذه السطور.
بتوقيع المخرجين، يارون شاني واسكندر قبطي، اللذين أبدَعا وتميّزا بالقدرة الإخراجيّة للقصص المتشابكة والمحبوكة جيّدًا، إضافةً إلى المونتاج الرائع؛ تجد أنّ فيلم "عجمي" يُسحرك؛ ويُبهرك؛ ويُحلّق بك عاليًا؛ ليعود ويرميك أرضًا؛ ويأخذك إلى واقعٍ أليم، يعيشه فلسطينيو الداخل عمومًا، وفلسطينيو يافا، واللد والرملة بشكل خاص.
استطاع المخرجان، بإتقان وذكاء، أن يمزجا بين الدراما والواقع. فالفيلم مبني من قصص واقعية أو شبه واقعية عديدة، يعيشها أبطال حقيقيّون أو شبه حقيقيين؛ يمثّلون؛ يعيشون؛ ويوثّقون في آنٍ واحد أدوارًا أقرب ما تكون إلى حياتهم اليوميّة. لا شك بأن هذا هو طرح جريء لواقع مرير، بأسلوب شبابيّ مميز.
لا أنكر بأن الفيلم عرض الواقع الأليم دون تلوين أو تلطيف للبيئة القاسية التي يعيشها الشباب في منطقة يافا. إلاّ أنّ "عجمي" سلّط الأضواء على صورة الشاب الفلسطيني البائس، المجرم، تاجر المخدرات، الهمجيّ، العنيف، المتخبّط، المنصهر، الخائن، المتعاون، صاحب الهوية الفلسطينية الضائعة، غير المثقّف؛ متجاهلاً، وضاربًا عرض الحائط شريحةً من المثقفين، والأطباء، والمهندسين، والمعلمين، والمحاضرين والباحثين الذين يقطنون المنطقة ذاتها.
لا يتناول الفيلم الوضع الحياتي: الاقتصاديّ، والاجتماعيّ والسياسيّ البائس والصعب الذي يعيشه عرب يافا والجنوب، نتيجة سياسة القمع والإهمال والتهميش ومحاولة التهويد على مر السنين التي اتبعتها حكومات إسرائيل المتعاقبة؛ بل يُظهر لنا العربي الضائع، المجرم المتخلّف مقابل اليهودي الإنساني المُسالِم – فهذه هي المعادلة الرابحة دائمًا لدى المجتمع الإسرائيلي.
اليهودي في "عجمي" يختلف عن العربي الذي يقطن الحي ذاته!! نعم "يختلف"!! فهو متحدّر من جذور أخرى، يتحلّى بقيم ومبادئ وأخلاق إنسانيّة من الدرجة الأولى، مُفعم بالدفء العائلي والترابط الأُسري، يقدّس الروح البشرية ويثمّن حياة الإنسان على عكس الجار العربي.
فالجار اليهودي هو ضحية شجار مع جاره العربي؛ والجندي الإسرائيلي هو ضحية اختطاف وقتل من قبل جاره الفلسطيني؛ و"المجتمع" الإسرائيلي، "المحافظ" على القوانين والمتمثّل بالشرطة، التي هدفها الحفاظ على الاستقرار و"تنقية" الأحياء من الشوائب، هي ضحية للكراهية المتفشية بين العرب تجاهها خاصةً، وتجاه المؤسسات الحاكمة عامةً؛ وتل أبيب كذلك "ضحيّةّ" جارتها يافا: باقتحام نواديها الليلية من قبل شبابها العرب المنصهرين، والمسمَّمين، والمتخبّطين!
لا شك بأن العربي في "عجمي"، والذي يظهر فقط بشكل سلبي صارخ جدًا، مع تغييب مستهدف وواضح للعربي "الإيجابي"، هو ضحية لسياسات حكومات متعاقبة ساعدت على تهميشه وإلى وصوله، في حالات عديدة، إلى ما آل إليه بسبب انعدام الأطر والفعاليات والمؤسسات الملائمة والداعمة؛ كل ذلك بدل النهوض بيافا واحتضان شبابها وتطوير أحيائها مع الحفاظ على طابعها، أسوةً بجارتها تل أبيب!
فمن هو الضحية إذًا في "عجمي"؟!