ما بين الثّامن من آذار والثّامن من تشرين الأوّل ثمانية أشهرٍ من أشهر السّنة الميلاديّة، وما بين تاريخ ميلاد الإنسان وتاريخ وفاته أيّام أو شهور أو سنون من ناحية عدديّة لاستغراق هذه الفترة أو تلك وإذا كانت وحدة قياس الزّمن لحياة الإنسان مرتبطة بعطاء الفرد وتضحيته ووفائه فتكون فترة حياته إمّا حافلة بالمنجزات والتّضحيات الجسام حيث تذكره الأجيال جيلاً وراء جيل، خالدًا في فكرهم وفي وعيهم وحتّى تُحكى عنه الأساطير والحكايات ويتناقلها النّاس فيما بينهم، وإمّا تكون حياته شحيحة العطاء وقصيرة الباع لا يذكره أحد ولا يحمل في طيّ آخرته شيئًا وإن كانت سنوات حياته كثيرة..
الشاعر الراحل المناضل داود تركي
فالميلاد يُحضِر الجسد إلى الحياة بعد أن ينفخ فيه الرّوح ويخرج من رحم الأمّ الصُّغرى هديّة ثمينة مباركة للأرض حيث يكون ﴿الإنسان في أحسن تكوين﴾، بينما يُغيِّبُ الموتُ الجسدَ عن وجه الأرض ويُدفنَ في رحمها، رحم الأم الكُبرى، وإن بغضت الأمّ رؤية وليدها ميِّتًا مع أنّه حقٌّ يُدرك كلّ حيّ ولو كان في برج مُشيَّد، فهو المكروه الذي نحمد الله عليه..
وعندما تكون أعمال ذلك الإنسان بطولةً وفداءً وكبرياءً ووفاءً وحبًّا يبقى خالدًا وحيًّا في ذكرى مؤبّدة، حتّى لو دُفن الجسم في باطن الأرض وأحكموا الأقفال عليه بالحجارة والتّراب لسدّ الماء والهواء عنه وزيَّنوه بأكاليل الورود ذات الألوان الزّاهية.
يقول الشّاعر والمناضل داود تركي، أبو عائدة، والذي نحتفل بعيد ميلاده الثّاني والثّمانين في الثّامن من تشرين الأوّل، قصيدته "يا أخت أحمد":
مَا مَاتَ مَنْ خَلَدَتْ مَآثِرُهُ
بَلْ مَاتَ منَْ سَفِلَتْ بِهِ الشِّيَمُ
سَيَظَلُّ لِلأَحْرَارِ مَفْخَرَةً
وَمَنَارَةً في الفِكْرِ تَنْتَظِمُ
فالمَجْدُ لِلشُّهَدَاءِ يَهْتِفُهَا
رَجُلٌ بِدُنْيَا الظُّلْمِ يَصْطَدِمُ
تبشَّر شرقنا العربي وجبال جليله في الثّامن من شهر تشرين الأوّل من العام ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعةٍ وعشرين، بميلاد داود سمعان تركي داود، أبي عائدة، دون أن يظهر الملاك لوالدته في ليلة البدر، ودون أن تظهر نجمة الصّبح فوق قرية المغار الواقعة على سفح جبل حزّور المشرف على سهل حطّين وبحيرة طبريا وجبال الجولان السّوريّة.
د.خالد تركي يرثي عمه داود تركي بعد دفنه
وُلِدَ مُحبًّا للحياة التي بادلته الحبَّ على أحسن وجه بل ودافعت عنه وبسخاءٍ مرّات عدّة حين منعت الإله آغنور (أحبُّ الأرباب إلى الشَّرِّ) من أخذه حال ولادته بعد أن انقطع حبل الصّرّة من موضعه، وحين أصابته الحُمّى الفتّاكة وشُفِيَ منها، ومرّة حين دهسته سيّارة مهندس يعمل مسؤولاً في دائرة الأعمال العامّة عندما كان عائدًا من المدرسة وسيّارة أخرى دهسته في قبرص عندما سافر إليها لملاقاة ابنته عائدة وأولادها القاطنين في فيحاء الشّام، دمشق، بعد أن خرج من السّجن حيث لم يرها منذ أن دخله، وحادثة أخرى حين نزل القطار عن سكّته عندما كان مسافرًا مع والدته إلى الحِمَّى في منطقة طبريّا للاستجمام وأخرى في عام النّكبة عندما قام بحراسة الحيّ في المنطقة الواقعة بين شارع ياقوت ومار يوحنّا، حيث كان يحمل مسدَّسًا ألمانيًّا من نوع بارَابِلّو، كان قد اشتراه بأربعين ليرة فلسطينيّة، أي ما يُقارب معاشه الشّهريّ ويزيد ليحرسها ويمنع دخول المحتلّين للحيّ، فأتاه مقاتلان لبنانيّان متطوّعان من مدينة بعلبك، نايف كحيل وابن عمّه محمّد كحيل، ليُبدّلاه، فعندما أخلى موقعه لهما، وإذْ برصاص من جنود الجيش البريطاني يأتيهما من الخلفِ من بارودة جُنديٍّ إنجليزيٍّ كان قد ترجّل من مُصَفّحتِهِ لقتلهما غَدْرًا فسقطا شهيدين من أجل حيفا، سقطا في شارع مار يوحنّا رقم 15، وكذلك لا ننسى انتصاره على الموت حين بُترت ساقاه بعد أن خرج منها منتصب القامة مرفوع الهامة وذلك بسبب معاناته وتعذيبه وحرمانه من أبسط الأمور الحياتيّة والعلاجيّة..
داود تركي خلال محاكمته
ومسك ختام انتصار الحياة على ربِّ الأشرار، في حياة أبي عائدة، خروجه من السّجن منتصرًا، فحين خرج من السّجن قال: "ليس المهم أن تُسجن من أجل قضيّة عادلة بل الأهمّ أن تخرج منه شريفًا، عزيزًا، نظيفًا، مستقيمًا وبنفس الرّوح التي دخلته فيها محافظًا على ما سعيتَ من أجله وفي حالتي أخوّة الشّعوب والعدالة الاجتماعيّة وحريّة شعوب الأرض في العيش المستقل والحرّ والسّعيد" وما بدّل أبو عائدة تبديلا..
وُلد أبو عائدة في قرية المغار، لعائلة عاشت على فلاحة الأرض وزراعتها لضمان رزقها ولتأمين رغيف الخبز لأبنائها. لكنّ شظف العيش ومرور عدّة سنوات متتاليات من القحط والمحل وقلّة الموارد أجبرت والده، أبو داود، على النّزوح والهجرة إلى مدينة حيفا ليعمل في قسم الصّيانة والحفريّات بحثًا عن رزقه وعن الرّغيف والعيش بكرامة وعزّة نفس حيث لحقت به العائلة لاحقًا في العام ألفٍ وتسعمائةٍ وإثنين وثلاثين.
بدأ أبو عايدة دراسته الابتدائيّة في الكُلِّيَّة الأسقفيّة الكاثوليكيّة حيث كانت تقع في كنيسة السّيّدة في حارة الكنائس، بيت النّعمة الآن، وانتقلت المدرسة بعدها إلى المنطقة الواقعة بين شارع مار يوحنّا المقدّس، نزلة الكلداوي وبين طريق أللنبي وكان معه في الصّفّ طلاب من المسلمين والمسيحيّين واليهود وجميعهم يتكلّمون العربيّة وينتمون إلى قوميّة واحدة، العربيّة..عاشوا في انسجام تامّ.
أصيب والده في العام ألفٍ وتسعِمائة وثمانية وثلاثين برصاصة في فخذه، بعد عملية تفجير قامت بها عصابات الهجناة، الأمر الذي أعاقه تمامًا بعد أن لازم فراش المرض حتّى أن تماثل للعلاج بعد ثلاثة أشهرٍ ممّا اضطرّ الشّاب داود تركي ترك المدرسة إلى العمل، خصوصًا بعد أن توفّى والده، أبو داود، بعد هذه الحادثة الأليمة بسنتين ودُفِن في حيفا.
أحبَّ والده البلشفيك وحين سأله عنهم قال له: إنّهم يعملون ويناضلون من أجل خير العمّال والفلاحين والكادحين..
كذلك أحبّ والده الرّجال الذين يحاربون ويناضلون من أجل حقوقهم ولا يخضعون أو يُذلّون، فمن شابه أباه ما ظلم وهكذا ترعرع أبو عائدة على حبّ الوطن وحبِّ الشّعب والأرض والإنسان وحبّ البلاشفة حيث انضمّ بعدها إلى عصبة التّحرّر الوطني.
لقد حمل أبو عائدة همّ العائلة على كتفيه منذ صغره فكان الأب الرّؤوم والأخ الحنون والسّخيّ المعطاء حيث سعى بكلّ طاقاته من أجل رفاه عائلته.
وفي عام النّكبة قرّر الرّفيق داود (أبو عايدة) البقاء ورفاقه للدّفاع عن حيفا، على
أن يرسل والدته وأخويْه الصّغيرين، خارج المدينة، ربّما ليجدوا قسطًا من الرّاحة
والأمان. لكنّ والدته أصرّت على البقاء مع فلذة كبدها مُفَضِّلةً إلقاء نفسها في البحر على تركه لوحده، في حيفا. فوجدوا ملجأهم كباقي سكّان المدينة في كنائس وأديرة ومساجد وجوامع حيفا.
كان أبو عائدة يعملُ في قسم الجمارك في الميناء في ورديّة ليليّة حتّى الثّامنة صباحًا لينتقل بعدها للعمل في مكتب الجمارك الرئيسي الواقع في ساحة بالمار باب رقم خمسة، حيث كان يعمل بوظيفة كاملة ودائمة. لقد كانت حيفا مركز جمارك فلسطين، ومنفذها الوحيد للبحر، ميناء حيفا وهو ثاني أهم ميناء في شرق البحر الأبيض بعد الإسكندرية، ومركزها البرّيّ من خلال سكّة الحديد الحجازيّة، وفيها مركز لشركات كُبرى مثل "آي بي سي"، وشركة "الشيل" وشركة "ستيل" ومصفاة البترول وشركات البواخر، وهذه المراكز فتحت وفسحت المجال لسكان حيفا العرب واليهود للعمل سويّة إذ ارتبطت أواصر الصّداقة والمودّة بين جميع السّكان في حيفا، من عرب ويهود. لقد كانت حيفا وما زالت مدينة ذا خصوصيّات مميَّزة بتعايُشِها فلم يسُدها التطرّف ولا التّوتّرات إلى أن وضعت الحركة الصّهيونيّة والإنكليز كامل ثِقلهم فيها لإحداث سياسة التّفرقة لتنفيذ مآربهم. فقد كان سُكّانها يتعاونون ويتعاملون مع بعضهم البعض يوميًّا في أماكن عمل واحدة وتحت سقف واحد، في المصانع والموانئ والمكاتب والمدارس والمتاجر والدّوائر الرّسميّة، الحكوميّة والبلديّة والقضائيّة.
لقد رأى أبو عايدة الحقيقة واضِحة كقرص الشّمس في قُبّة السّماء، فحين طُلِب
منه التّوقيع والموافقة على قرار التّقسيم رفض. لأنّه وجد بالتّوقيع نقضًا لمواقفه.. ووجد نفسه لاحِقًا مطرودًا ومفصولاً من العمل ممّا زاد من عزمه وإيمانه بصدق طريقه وحتميّة انتصاره.
داود تركي خلال تشييع جثمانه
وحين سقطت حيفا رأى أبو عايدة تهجير سكّان حيفا العرب عن طريق الميناء بآلافهم ورأى كيف يُسهّل لهم رجال الأمن البريطاني المرور عبر نقطة الحدود البحريّة، فاتحين أبواب الميناء للنّازحين العرب من جهة محطّة الكرمل وشرق حيفا وجنوب المدينة حيث وجدوا بساحات الميناء ملجأً وبالانتظار للبواخر البريطانيّة مهربًا، فهذه البواخر انتظمت بإيعاز من السّلطة الإنكليزيّة وتحت حراستها ورقابتها لنقْلِ النّازحين الفلسطينيّين بحرًا إلى مدينة عكّا، أو برًّا بسيّارات انكليزيّة أو صهيونيّة إلى الحدود اللبنانيّة وبدون مُقابل، المهم النّزوح عن حيفا وتطهيرها من العِرْق العربي، ومنها إلى مخيّمات اللاجئين خارج إطار الوطن.
افتتح أوّل مكتبة لبيع الكتب الوطنيّة والثّوريّة التّثقيفيّة والمدرسيّة والقرطاسيّة في حيفا ومنطقتها عام ألفٍ وتسعمائةٍ وواحد وستّين، في زاوية شارعيْ صهيون والخوري وقد كانت مكتبته محجًّا ومزارًا للمثقَّفين العطاش لقراءة هذه الكتب ولَم تكن المكتبة مجرّد مكتبة لبيع الكتب فقط بل كانت منتدى يجتمع فيه المثقّفون الثّوريّون ويتناقشون ويتحاورون في مستجدّات الوضع وتاريخ الصّراع العربي الصّهيوني، زد على ذلك أنّه كانت تدور في المكتبة نقاشات جوهريّة في علم الفلسفة العامّة والماركسيّة تحديدًا، ولا غرابة في أنّ اسم المكتبة كان، مكتبة النّور، حتّى يرى النّاس النّور من خلال المطالعة، فشعب مطالع ومثقّف وقارئ هو شعب منتصر حتمًا. وأذكر أنّ أبا عائدة قد كافأني مرّةً، وقد تكرّرت مكافآته لي، كتاب "الأم" للكاتب الرّوسي مكسيم غوركي، وحين أرى هذا الكتاب أذكر أبا عائدة حالاً، فهذا الكتاب كان أوّل هديّة أتلقّاه منه، تُرى متى تصبح هدايانا التّقديريّة كتبًا!
حين استشهد النّاصر صلاح الدّين الأيّوبي كتب في وصيّته أن يُدفن في القبر مع
سيفهِ الذي جاهد به ليكون خير شاهد وشفيع أمام ربّه يوم تقوم السّاعة وتأتي
الآخرة ويُحاسب..
وعندما غاب عنّا أبو عائدة في الثّامن من آذار من هذا العام إلى جوار سيّده صلاح الدّين، وُضِع في جعبته كتابان، الأوّل سيرته الذّاتيّة "ثائر من الشّرق العربيّ" والثّاني ديوان "ريح الجهاد" ليكونا مستندًا ووثيقة يُطلع على القائد صلاح الدّين عليها إذا اقتضت الحاجة، ربّما نسي أحفاده أو غفل عنهم، فالنّاس مهما بلغوا في غيّهم وكمالهم غير معصومين عن الخطأ أو النِّسيان أو التّناسي، فهذان الكتابان هما التّحصيل المكتوب لحياته والشّاهد الأمين لعمل ونضال وتضحية وجهاد هذا المناضل والمكافح والكادح، أبي عائدة، لعلّهما يفتحان بعض العيون العمياء وبعض الآذان الصّمّاء.
أذكركَ في الثّامن من تشرين الأوّل في كلّ سنة..
أذكركَ حين أرى كتاب "الأم" وفي كلّ كتاب جديد أقرأه..
أذكركَ كلّما صدح صوت فيروز العذب خصوصًا حين تغنّي للشام وبيروت وفلسطين..
أذكركَ حين تُغنِّي فيروز "سائليني يا شآم":
سَائِلِينِي حِينَ عَطَّرْتُ السَّلام
كَيْفَ غَارَ الوَرْدُ وَاعْتَلَّ الخُزَام
وَأَنَا لَوْ رُحْتُ اسْتَرْضِي الشَّذَا
لانْثَنَى لُبْنَانُ عِطْرًا يَا شَآم!
أذكركَ في نشيديْ "الأمميّة" و"يا شعوب الشّرق" و"موطني"..
أذكركَ كلّ يوم ثلاثاء وسبت حين كنّا نتسامر على صوت الشّعب من بيروت صوت الحزب الشّيوعي اللبناني..
أذكركَ في غربتي لأنّ "فقد الأحبّة غربة"..
أذكركَ كلّما قالوا على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة فإنّك كنتَ تقول دائمًا:
"يأتي الإنسان إلى هذه الدّنيا وفي يمينه الحقُّ في العيش العزيز والحياة الحُرّة الكريمة،
سواء وَضُعَ أهلُه أو شُرِّفوا، ومن لا يُدافع عن هذا الحقِّ إذا تعرّضَ لاعتداء
المعتدين الغاشمين لا يستحقّ الحياة وعيشها.
أذكركَ في بيتِ الشّعر: شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيْرَ فِيهِم وَبُورِكَ في الشَّبَابِ الطَّامِحِينَ..
أذكركَ في معنويّاتك التي كانت تمدّنا بالأمل في تحريرك حين كنّا نزورك في السّجن..
وتذكركَ ابنتي رُبى بكلماتك حين قلتَ لها: لكلّ مشكلة حلّ، ولكلّ ظلم نهاية ولكلّ احتلال جلاء ربّما يكون بعيدًا لكنّ النّصر آتٍ لا محالة وسنصل الهدف..
في الثّامن من تشرين الأوّل سنضيء شموع عيد ميلادك وننشد لكَ ما أحببتَ من الأناشيد وما طربت مسامعك من الأغاني الفيروزيّة الشّادية..
ونذكركَ دومًا أيّها الباقي بيننا..
ونهديك قصيدة الشّاعر والمناضل توفيق زيّاد:
يا جَذْرَ جَذْرِي!! إِنِّي سَأَعُودُ حَتْمًا
فَانْتَظِرْنِي، إِنْتَظِرْنِي في شُقُوقِ الصَّخْرِ
وَالأشْوَاكِ، في نُوَّارَةِ الزَّيْتُونِ
في لَوْنِ الفَرَاشِ، في الصَّدَى وَالظِّلِّ
في طِينِ الشِّتَاءِ وَفي غُبَارِ الصَّيْفِ
في خَطْوِ الغَزَالِ، وَفي قَوَادِمِ كُلِّ طَائر..
شَوْقُ العَوَاصِفِ في خُطَاي ،
وَفي شَرَاييني ..
نِدَاءُ الأرْضِ .. قَاهِر
أَنَا رَاجِعٌ فَاحْفَظْنَ لي
صَوْتي .. وَرَائِحَتي .. وَشَكْلِي
يَا أَزَاهِر