أقرأ ُ يوميـّا تقريبا صحيفة الهيرالد تريبيون العالميّة (Herald-Tribune ) وأشعرُ نفسـي جزءا من هذا العالم، أو من هذه القرية العالميّة (The Global Village).كما أشعرُ أنني جزء من حركةٍ عالميّة ثقافيّة سياسيّة رَائعة وشاملة.
أبدأُ يومي وأنا أشربُ القهوةَ القويّة المحمّصة لتوّها في إحدى كافيتريات مـَعهد للتعليم العالي للتكنولوجيّا، بتصفّحِ الصفحات الأخيرة بالذات لجريدة التريبيون، وهي صـفحات التكنولوجيا وإدارة الأعمال. لأعرف ما يدورُ في خـلدِ الشركات التكنولوجيّة الكبيرة فأشعرُ أنني جزءٌ من مديري الشركات، أحلّل أساليب صناعة قرارتهم الأخيرة وأودّ لو أسدي نصائحا" عمليـّة من أجلِ تحسين عمليّة إنتاجهم, أو لكي أرفع أجور عمالهم ومهندسيهم بعد أن جنوا أرباحا طائلة من جهة, أو لكي أمنعُ فصل العمّال بعد أن خسرت الشركة في البورصة بسبب تبذير إداري طائل
وقرارات إداريّة خائبة من جهةٍ أخرى
وأنتقلُ بـَعدها سريعا إلى تصفُّح صفحات الجريدة الوسطى لأقرأ كلّ ما كتبَ فيها عن نقد كتب عالميّة تمّ نشرها حديثا, ولطالما أجد نفسي بعدها مسرعا في سيارتي الصغيرة والقديمة، بعد انتهاء عملي باتجاه أول مـَكتبة "ستيماتسـكي" أو أول مـَكتبة شبيهة، وأنا في طريقي إلى البيت لكي أشتريَ كتابا أثارني نقده في الصحيفة. وهكذا تتزايد نفقاتي ليس على رسوم اشتراك الصحيفة فحسب, بل على شراء كتب جديدة أيضا! إنّ نقد الكتب اليومي في الصحيفة رفيعة المستوى هو على مستو عال من الشرح والتنقيب والتمحيص, وسـَرْد الصورة العامّة عن الكتاب, سواء كان ذلك كتابا أدبيا أو اقتصاديا أو علميّا محضا. وأتساءل في قرارة نفسي, متى متى بالضبط سنرى حركة نقد كتب حقيقية ومثيرةٍ في بلادنا وفي العالم العربي؟ فتأتيني الإجابة فورا على تساؤلاتي: "عندما يبدأُ الجيلُ الصاعد, وحتى الأجيالُ المتقدمة, تقرأ الكتب والصحف بجديـّة, بشغف وبتواصل, عندها فقط تنشأ الحاجة الماديّة الموضوعيّة الحقيقية لنقـّاد كبار وكثيرين. هذا لا يقلّل طبعا من قدر النقاد الحاليين في وسطنا العربي, ولكنّ معظمهم لا يحترف هذه المهنة فحسب, بل غالبيّتهم تكتبُ الكتب الأدبية بنفسها أيضا".
وأكملُ احتساء قهوتي القويّة مع صفحات التريبيون السياسة الأولى. هكذا دائما, السياسة العالمية الهامّة في آخر مطافي! قد يقول هنا قائلٌ:" إنّ هذا نوع من أنواع الهروب (ال – Escapism) النـَفسيّ, إذ أنّ كاتب السطور يفضّـل أن يعيش أو يحلّق مع قهوته الصباحية القويّة المحمّصة لتوّها, داخل فقاعة أخبار الشركات الكبرى وفي نقدِ الكتب العالمية, كما ويظنّ أنه يستطيع إسداء النصائح لمدراء الشركات هذه, وهو بهذا يهربُ أو يتهرّب عمدا من المشاكل الحياتية اليوميّة التي يعيشها ويواجهها كل فلسطينيّ مواطن في هذه الدولة!". ربـّما؟ لا أعلم.
إذن أقرأُ في آخر المطاف تقريبا, الصفحات الأولى السياسيّة للأخبار العالميّة التي تتصدرها دائما تقريبا….. أخبارُ القضيّة الفلسطينيّة السياسية. وهنا إجابتي على التساؤل السابق. لا مهرب من قضيتنا العادلة حتى في الصحف العالمية!! إني أقرأ بالإنكليزية:
"اشتباكات عنيفة في الشرق الأوسط. شباب فلسطيني يقذفُ الشرطة الإسرئيلية يوم الثلاثاء بالحجارة في القدس الشرقيّة!" وأرى أمامي صورة كبيرة لشباب فلسطيني ملثـّمين يقذفون الحجارة وشباب آخرين يجمّعونها, وفي مقدمة قاذفي الحجارة شابٌ ملثّم بالكافية الفلسطينيّة ويرتدي بلوزة بيضاء مكتوب عليها بالإنكليزيّة بأحرف كبيرة:" تعالوا نلعب معا هذه اللعبة!" هل تسمي هذا هروبا يا أيـّها القائل السابق؟ قد تكون وقع الأخبار بالإنكليزيّة على النفس أقل منها بالعربيّة ولكن ماذا نفعل بالضبط مع وقع الصور الإخباريّة الكبيرة منها وحتى الصغيرة؟
وأكمل قراءة الأخبار:"ممثلو الدول العربيّة يوافقون على تأجيل البتّ بتقرير "جولدستاين عن حرب غزّة في مجلس حقوق الإنسان, حتى… آذار في العام القادم!" وهنا يعلو الغضبُ الجامح في قرارة نفسي: "كيف؟ لماذا؟ ومن ثمّ لماذا؟" كيف تتخذُ السلطة الفلسطينيّة قرارا سيـّئا للغاية من الناحية الإستراتيجية الحياتيّة كهذا؟ كيف توافق؟ مـَن ذاك المسؤول الفلسطيني الغبي أو حتى الجبان الذي صنع هذا القرار؟ مـَن؟ هل خاف رئيس السـُلطة الفلسطينية من تهديد نتانياهو الأجوف لأوباما بتوقيف مفاوضات السلام مع السـُلطة الفلسطينيّة, ونسيَ في ذات الوقت آلاف ضحايا شعبه في غزّة؟ وهل توجد مفاوضات جديّة أصلا لكي يوقفها نتانياهو؟ وحتى لو جرت هذه المفاوضات بضغط أمريكي فهل يوجد إدنى احتمال إلى الوصول إلى حلّ مع هذه الحكومة السوبر- يمينيّة. ألا يعلمُ أبو مازن, وعريقات أنّه من ناحية علم الإحتمالات على الأقل, أنّ احتمال اصطدام نيزك كبير بالكرة ألأرضيّة أو حتى هـُبوط مخلوقات فضائيّة على الكرة الأرضيّة هو أكبر علميّا من احتمال الوصول إلى حل عادل مع هذه الحكومة الإسرائيليّة؟ ذهب ال"إيسكيبيزيم" الذي كنتُ غارقٌ فيه بالإنكليزيّة, أدراجَ الرياح ولن يعـُد. وتعكّر صفوَ قهوتي الصباحيّة! أكملُ قراءة الأخبار عن الرئيس أوباما والمشاكل الجمّة التي تواجه مشروعه للتأمين الصحي القومي الشامل الذي قدّمه للكونجرس.
ومن ثمّ أرى صورة إخباريّة كبيرة أخرى بالألوان, ترتسمُ فيها عملية تحميل تابوت جنديّ أمريكي شاب قتل في أفغانستان داخل جييب عسكري! وأتساءلُ في نفسي: متى سيفهمُ أوباما أنّ الحرب الأميريكيّة في أفغانستان لا تختلف كثيرا عن حرب العراق, أو عن الحرب في …. فيتنام؟ متى؟ …. بعد أن يموت المزيد المزيد من الشباب الأمريكي على ما يبدو!
أنهي قهوتي, بعد أن تعكّر صفوها تماما وأنهي قراءة جريدتي في صفحات الأزياء لكي أعرفَ تماما ما لن أشتريـه من ملابس بتاتا!
لم يتبقّ من الاستراحة الصباحيّة شيئا من الوقت, لتناول صحيفة هآرتس بالإنكليزيّة الملحقّة بجريدة التريبويون.
أقرأُ الهيرالد تريبيون العالميّة عندما أزور مدنَ أوروبا أيضا, عن طريق شراءها من الأكشاك وليس برسوم اشتراكاتها طبعا.
أقرأُ يوميّا الهيرالد تريبيون العالميّة في حيفا وفي… باريس وأثينا, وأشعرُ نفسي أنني جزءٌ من هذا العالم, … كما أشعرُ أنني جزءٌ من هذه المنطقةِ أيضا!