حين أتذكر الانتفاضة الثانية، وخاصة أحداث أكتوبر 2000 الكئيبة، أرى نفسي جالسًا على سريري وأنا أستمع إلى المذياع وأحاول أن أستوعب، هل هذا حلم أم واقع؟ ثم يداهمني اليقين أنه بالفعل واقع مُقرف وفظيع لدرجة الجنون. ومع أن الوضع في حيفا لم يكن يومها متأزمًا مثلما كان عليه في الناصرة وسخنين وغيرها من المدن والقرى العربية، إلا أنه كان مُقلقًا لدرجة مخيفة. لقد بدا للجميع أن الأمور سوف تتدهور إلى وضع تُُطلق فيه النار على مواطنين عرب في الشوارع. يومها كانت الكراهية الحمقاء قد بدأت تشتعل في أعين اليهود في الشوارع وكانوا كأنهم يقولون: "هذا يوم آخرتكم أيها الـ’عربوشيم’". أما أنا فبدأت يومها أتساءل: "هل يجب عليّ أن أخرج إلى الشوارع وأناضل من أجل حريتي وحقوقي وحقوق شعبي؟". لقد كنت أفكّر في ما كان يحدث حولي وأقول لنفسي: "بعدو العنف مِش واصل حيفا، إسّا أُقعد وصلّي إنو الأمور تنتهي على خير"، ثم أجلس أمام فنجان شاي وأشعل سيجارة، متعزيًا بفكرة أنّ السجائر تقصِّر عمر الإنسان، ذلك لأن الحياة كانت تبدو كئيبة في لحظات الكراهية والعنف والدمار.
حين ننظر إلى ما يحدث من بعيد، نرى كائنًا عنيفًا اسمه "أذرع الأمن" الإسرائيليّة. هذا الكائن الأخطبوطي، بأذرعه العديدة، بما فيها الجيش وما يسمّى بشرطة حرس الحدود، يشكِّل ماكينة قتل ضخمة ومصنع أسلحة كبير، كما ويشكِّل أيضًا مصدر رزق للكثير من اليهود والدروز الحربجيون. هل يمكن لهذا المصنع البقاء بلا حروب؟ الجواب هو "كلا"، بل إنه يحتاج إلى الحروب لكي يتغذى ويتعشى ولكي يذهب الـ"سجان ألوف" إلى بيته ويقول لزوجته "وصلتني المصاري من الجيش واشتريت ‘حمص أحلى’ للعشاء". ومثل كل مصنع أسلحة، يقوم جيش إسرائيل ببيع الأسلحة، وككل ماكينة قمع، تقوم أجهزة "أمنها" بقمع عرب الخارج والداخل وكل من يقف في طريق سياسة صهيَنة دولة إسرائيل. هنالك تفسيرات عدة للطابع الصهيوني للجيش ولباقي "أجهزة الأمن" الإسرائيلية ولعدائها للعرب الفلسطينيين. أحد هذه التفسيرات مرتبط بطابعها اليميني، الذي يشجّع المنخرطين في صفوفها على التخلي عن المبادئ الإنسانية. نتيجة لهذا الطابع الصهيوني، فإن هذه الأجهزة ترى فينا طابورًا خامسًا وأعداءًا من الداخل وتعاملنا كما عاملتنا في أحداث أكتوبر 2000، حين كشّرت عن أنيابها وبدأت تغرسها في أعناق الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل.
لقد سمعت مؤخرًا أغنية "زومبي" للفرقة الايرلندية "كرامبيريز" والتي تصف حرب التحرير في ايرلندا. وحسب رأيي فإن هذه الأغنية تصف واقعًا شبيهًا بواقعنا، فهي تقول "رأسٌ آخر ينخفض، طفل يؤخذ مرة أخرى، والعنف يؤدي إلى هذا السكوت العظيم، إننا نخطئ بحق من؟ لكنك ترى، إنه ليس أنا، ليست عائلتي، في رأسك، في رأسك إنهم ما زالوا يحاربون بدباباتهم ومسدساتهم ومدافعهم. في رأسك، في رأسك ما زالوا يبكون". نعم، هذا ما يؤدي إليه العنف والقتل، وفي رأسي "ما زالوا يبكون"، وفي رأسي "ما زالوا يحاربون"، والجيش الفظيع بدباباته ورشاشاته وقنابله ما زال يهاجم ويقتل والشهداء ما زالوا يحاربون من أجل الحرية والمساواة