الرفيق موسى ناصيف من عين إبل الى حيفا .بقلم: د. خالد تركي – حيفا

مراسل حيفا نت | 23/09/2009

دكتور خالد تركي

"أَيْنَمَا وُجِدَ الظُّلْمُ فَذَاكَ وَطَنِي" هذه مقولة لمناضل الحرِّيَّة أرنستو تشي جيفارا، حيث تُزيِّن صورته سيّارة ذلك الرّفيق الذي سأُحدِّثكم عنه، والذي يعتبر أنّ الكون مقسَّمٌ إلى طبقات وأنَّ كلّ مشاكل عالمنا وصراعاته مبنيّة على أساس طبقيّ محض، وإن أخذتْ بعض الأحيان صبغةً طائفيَّة أو قوميَّة، والوعي الطَّبقي بكلّ أشكاله النّضاليّة والكفاحيّة هو الكفيل بتحرير الشّعوب من نير الاحتلال ومن الاستغلال الطَّبقي، وهذا لا يمنع الفرد من الاعتزاز بانتمائه القوميّ، فإن لم تكن أمميًّا لن تكون أبدًا قوميًّا صادقًا، وفي هذا السّياق يحقّ للشّيوعي في وطننا، إن كان عربيًّا، الاعتزاز بانتمائه العربيّ كما يحقّ له أن يؤمن بالوحدة العربيّة القائمة على أسس العدالة الاجتماعيّة، فقد قال رفيقنا أبو سامي "ستبقى الشّام منبتًا ومقرًّا للوطنيّة العربيّة ومنارة للثّوّار والأحرار في وطننا العربيّ الكبير على مرّ العصور". وحين سأله المحقَّق حين اعتُقل في أوائل سنوات السّبعين من القرن المنصرم، بتهمة ملفّقة على أنّها "أمنيّة" مع المناضل داود تركي ورفاقه، أنّه رآه في دمشق أجابه رفيقنا أبو سامي:"كنتُ في الشّام عندما كنتَ في رحم (استعمل كلمة أخرى) أمّك، فبلاد الشّام كانت وما زالت وطني وعين إبل مسقط رأسي، وأنا أنتمي حضاريًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا وقلبًا وقالِبًا إلى بلاد الشّام".

ويقول الشّاعر سعيد عقل بصوت فيروز:

شَامُ يَا ذَا السَّيْفُ لَمْ يَغِب    

يَا كَلامَ المَجْدِ فِي الكُتُبِ

قَبْلَكِ التَّارِيخُ فِي ظُلُمٍ       

بَعْدَكِ اسْتَوْلَى عَلَى الشُّهُبِ

 وُلِدَ الرّفيق موسى الياس موسى ناصيف، أبو سامي، في الثّالث من شهر كانون الثّاني من العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وخمسةٍ وعشرين في قرية عين إبل، قضاء بنت جبيل، في الجنوب اللبناني الصَّامد والمُحَرَّر، حيث تبعد عن بيروت مائة وأربعين كم وحوالي خمسة كم عن حدود بلادنا الشّماليّة، ويحدّها من الشّمال جبل البرَوك والحَرَمُون (الشَّيخ)، أمّا جبل البَروك فهي سلسلة جبليّة تمتدُّ من جبال نيحا في منطقة الشّوف إلى ضهر البيدر.

موسى الياس ناصيف

سكن والده مدينة حيفا منذ ولادة رفيقنا موسى، حيث كان يعمل حارسًا في أحد مكاتب بلديّة حيفا وكان يراه مرّتين في السّنة حين كان يأتي للقرية لزيارة أبناء عائلته بمناسبة الأعياد، وقد استقرّت العائلة، لاحقًا، في مدينة حيفا عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثمانية وثلاثين، وبدأ دراسته في مدرسة الفرير حيث كان في الصّفّ الثّامن ابتدائي لِلُّغتين العربيّة والفرنسيّة وفي الصّفّ الثّالث للغة الانجليزيّة، لقد كان والده صديقًا حميمًا لجدّي سمعان، أبي داود تُركي، فقد كانا يعملان سويَّة في بلديّة حيفا كلّ في وظيفته وربطته أواصر صداقة صادقة وصدوقة مع عائلتنا في حيفا. وحين كان يذهب والده لزيارة عائلته في عين إبل كان يحدّثهم الكثير عن حيفا وعن علاقته بعائلتنا وخصوصًا عن عمّي داود، أبي عائدة، ذلك "الشّاب النّشيط والأديب والوسيم والذّكي والزْكِرت والقبضاي" كما كان يصفه أبو موسى.

يقول أبو سامي:"كنتُ منذ طفولتي، في عين إبل، متمرِّدًا على كلّ شيء من حولي وبالأساس على المُختار ورجال الدّرك الفرنساوي واللبناني لاحقًا، وعلى جميع الميسورين ورجال الدّين الذين كانوا يُعاملون أبناء الأغنياء بدلالٍ وغنجٍ وتمييزٍ خاصٍّ وكأنّنا غير موجودين، نحن أبناء الطّبقة المسحوقة والعاملة، كنتُ أذهب إلى المدرسة حافيَ القدمين حتّى أيّام البرد القارص والماطر والمُثلِج، وفي العام خمسة وثلاثين من القرن المنصرم، عندما اندلعت الحرب بين الطّليان وبلاد الحبشة كان أبناء العائلات الميسورة يتوعَّدوننا ويهدِّدوننا بأنَّ مصيرنا سيكون نفس مصير سكّان الحبشة السُّود إذا تمادينا وتجرّأنا مرّةً في حياتنا عليهم، فقد كانوا يقولون لنا أنتم أحباش ونحن طليان نريد أن نُخلِّص عليكم، لكنّي جنّدتُ الكثيرَ من شباب البلد للتّصدّي لهذا التّهديد وفُزنا..".  

تعرّف رفيقنا موسى ناصيف على الشّيوعيّة من خلال صداقته مع الرّفاق علي خمرة وداود تركي، حيث عمل الأوّل في شركة شل البريطانيّة وقام بإرشاده وتوجيهه إلى حضور ومتابعة اجتماعات عصبة التّحرّر الوطني في حيفا أمّا لقاؤه مع أبي عائدة فكان في قرية رميش حين كان الأخير عائدًا من بيروت بعد أن حصل على تعويضاته من مكتب الجمارك حيث كان يعمل في ميناء حيفا ضابطًا في قسم الجمارك، وحين قام رفيقنا موسى بتعريف نفسه للرّفيق أبي عائدة قاصًّا عليه كلّ ما كان يحدّثه والده أبو موسى عن عائلة داود حين كان يعود إلى عين إبل، واستمرّت العلاقة بينهما بحميميَّةٍ نادرة إلى أن انتقل أبو عائدة إلى جوار أبديّ لسيّد الأبطال صلاح الدّين الأيّوبي.

ويذكر أنّ والده كان قارئًا دائمًا لصحيفة الدّفاع المُنحازة لمحور الفاشيّة، حيث والده، أيضًا، منحازًا لهذا المحور على اعتبار أنّه سيُخلّص الوطن العربي من براثن طغيان الاستعمار البريطاني، فطلب منه الرّفيق بولس فرح صاحب مكتبة لبيع الكتب التّقدّميّة والثّوريّة في ساحة الخمرة أن يقرأ صحيفة الاتّحاد، جديدة الصّدور، في العام أربعة وأربعين من القرن السّابق، وبعد أن رفض شراء الجريدة قام رفيقنا بولس فرح وأمسك أبا سامي من إذنه وفركها جيِّدًا وبتحبُّبٍ طالبًا منه أن يقرأها ويقول رفيقنا موسى:"كنت أتردَّد دائمًا على مكتبته لشراء بعض الكتب وجريدة "الدفاع" ذات الميول "القوميّة" أو بالأحرى القومجيّة، ولم يكن لي معرفة أو علم بأنه يوجد جريدة اسمها "الاتحاد" وعندما عرضها عليّ رفضتُ شراءها أو حتّى قراءتها، لأنّهم علّمونا في مدرسة الفرير في حيفا أنّ الشّيوعيّين كفّار ولا يفرّقون بين أمّهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم، هكذا بدون أخلاق، لذلك عندما أصرّ وألحّ عليَّ أن آخذها واقرأها بدون مقابل رفضتُ، فأمسكني من أذني مثل أستاذ مدرسة يريد تعليم تلاميذه وفرك أذني وصفعني صفعة خفيفة على خدّي وأجبرني على أخذها وقراءتها، وبعدما قرأتها تغيّر تفكيري كليًّا وكأنِّي وجدت شيئًا كنت افتقده، شعرْتُ أنّني أولد من جديد. حينها أصبحت الاتحاد بالنسبة لي، رفيقة درب وصديقة وموجّهة ومُثقفة وبوصلة توجهني التوجيه الصحيح، وبعد قراءتي الاتحاد تعرفت على أفكار جديدة وعالم جديد، حيث تغيّر تفكيري كلِّيًّا وتحوّل من أقصى اليمين إلى اليسار تعرفت من خلالها على الاتحاد السوفييتي وشعبه الذي قاتل النازية وخلّص البشرية من شرّها ومن أفكارها وأخطارها".

لقد كانت الاتّحاد الجريدة الوحيدة التي تدعو إلى التّفاهم بين شعبي هذه البلاد وعدم الانجرار وراء أصحاب الأفكار المتطرفة حيث دعت إلى قيام دولة علمانية ديمقراطيّة واحدة للشّعبين ورفضت التّعصب القوميّ والطّائفي من الطّرفين وذلك حفاظًا على وحدة البلاد وسلامة سكانها. لقد علّمت الاتِّحاد قرّاءها احترام ومحبّة الشعوب الأخرى، علّمتهم الأمميّة.

يقول رفيقنا موسى:"كانت صحيفة الاتّحاد الوحيدة بعد النّكبة التي أعادت الأمل إلى شعب محطَّم ومنكوب بعد أن تركه "زعماؤه" فريسةً سهلةً للحاكم العسكري والمخاتير وقسم من رجال الدّين الذين تعاونوا مع السّلطة وأصدروا الفتاوى ضدّ كلّ ظاهرة مقاومة وبالأساس ضدّ الشّيوعيّين".

كان يسكن رفيقنا موسى وعائلته في منطقة وادي روشميا بحيفا حتى عام النّكبة، وتركوا البلاد إلى لبنان بعد أن طردتهم عصابات الهجناة من مسكنهم وأجبرتهم على ترك البلاد. وهناك في بلدته، عين إبل، رأى النّازحين الفلسطينيّين كيف يتركون بلادهم، فقام بإقناعهم بالعودة فورًا إلى البلاد لأنّهم إذا استمرّوا شمالاً لن يعودوا إلى فلسطين قطّ، وحين كان يُكلّم النازحين باللهجة نفسها وبالرّوح إيَّاها التي قرأها في صحيفة الاتّحاد في حيفا، وإذ بشخصٍ يمسكه بعنفٍ من ثيابه ويخرجه من حلقة النِّقاش وينبّهه بأن يتوقّف عن هذا الحديث وإلا سيجد نفس العقاب الذي تلقّاه هذا الشخص نفسه جرّاء طلبه بعودة النّازحين، كاشفًا له عن جسده ليُريه آثار التّعذيب الذي تلقّاه في بنت جبيل. وحين عاد أبو سامي "متسلِّلاً" إلى البلاد مع الرّفيق أبي عائدة، سكن قرية المغار مدّة سنة تقريبًا، وبقيت عائلته في لبنان، وبقي في فلسطين مع أخته نجمة، لأنّه أحبّ فلسطين وقرّر أن يبقى فيها للدّفاع عنها والعمل على عودة اللاجئين، لأنّه منذ طفولته متمرِّد على الظُّلم. لقد كان الرّفيقان داود تركي وموسى ناصيف أوّل شيوعيّي قرية المغار حيث انضمّ بعدها لبيب البطرس وازداد عدد أعضاء الفرع وأصبح فرعًا كبيرًا. لقد كان يذهب مشيًا على الأقدام مع الرّفيق داود تركي إلى مفرق مسكنة لتقلّهما سيّارة أجرة إلى النّاصرة لحضور اجتماع شعبيّ أو كادر أو لجنة منطقة حيث كانا ينامان عند الرّفاق، هناك، ليقوما في اليوم التّالي إلى العمل أو العودة إلى قرية المغار.

يقول رفيقنا أبو سامي متذكِّرًا حادثة حين كان في قرية المغار:"بدأت مع الرّفيق داود تركي بتنظيم وإقامة فرع للحزب الشّيوعي فيها رغم الإرهاب والملاحقة من أعوان الحكم العسكري وقد حاولوا عدَّة مرّات الاعتداء عليه وعلى الذين يؤيِّدونه، وأنا كنت واحدًا منهم وكانوا دائما يهاجموننا بالحجارة والعصي عندما كُنّا نوزِّع جريدة الاتّحاد لمنعنا من توزيعها لكنّنا صمدنا وتابعنا المسيرة بفضل صمود وشجاعة وإصرار المرحوم أبي عايدة وموقفه الجريء والواعي والمثابر حيث كان الحجر الأساس لإقامة أول فرع للحزب الشّيوعي في القرية وبمساعدة رفاق الحزب في قرية عيلبون المجاورة التي كان فيها فرع للحزب قبل تأسيس الفرع في قرية المغار".

حين كان رفيقنا موسى منهمكًا بنقاش في حلقة مع بعض سكّان القرية عن

الاحتلال وحقّ العودة وحقوق العاملين في العيش بكرامة وشرف وإذ بشخص يشدّه من الخلف ويسأله عن أمور شخصيّة بنيّة التّعرف عليه، وعندما تعرّف عليه وتأكّد من أبي سامي ذكّره بحادثة عين إبل حين نبّهه وحذّره من استمراره بحديثه وحثِّه النّاس بعدم النّزوح.

وحين شمل الإحصاء السُّكّاني أبا سامي، بعد الاحتلال، حصل على هويّة حمراء لكنّه وبفضل محامي الأرض والشّعب حنّا نقّارة حصل على الهويّة الزّرقاء التي منحته الإقامة الدّائمة في البلاد.

بعد عام من عودته إلى فلسطين، سكن مدينة حيفا، سكن في "القصر الشّتوي". و"القصر الشّتوي" عبارة عن برّاكيّة كانت تُستعمل مخزنًا لمحرّكٍ لضخّ المياه ويقع في أواسط شارع أللنبي عند مفترق بوّابة الدّير. وكان هذا "القصر" مأوىً للرّفاق المشرّدين والمسرّحين المُحرّرين من المعتقلات حيث كانوا يقيمون فيه المبارزات الشّعريّة والنّدوات ويقول أبو سامي:"أطلقنا عليه هذا الاسم للتّندّر والنّكتة وقد كان من روّاد هذا "القصر" الرّفاق أسعد مكّي وعلي عاشور وعصام العبّاسي ومحمّد الشريدي وحنّا أبو حنّا وعودة الأشهب ومحمّد خاصّ وأحمد قوّاس وشفيق طوبي وديب عابدي والياس جمّال ووجيه عرابي وعلي خمرة وجبرا نقولا وإبراهيم تركي وصالح عبد الرحمان وتوفيق عمروف ونسيب قبطي ومدحت الشَّعَّار ومحمّد العشّ وعبّاس زين الدّين وداود تركي وأذكر أنّ داود تركي كان أشطر واحد فيهم ويغلب الجميع في المبارزة الشّعريّة حيث كان يتمتّع بذاكرة غريبة ومتفوِّقة على غيره، وكذلك أطلقنا على القصر اسم "الكومونة" حيث كانت تعمل كخلية نحل دائمة النَّشاط والحركة وقد أخذ الرّفاق على عاتقهم القيام بأكثريّة العمل الحزبيّ والنّشاطات الشّعبيّة والجماهيريّة وتوزيع أدبيّات الحزب على سكّان حيفا العرب وقراها المجاورة".

أمّا الرّفيق توفيق عمروف فهو لقب لتوفيق عمر، وهو شيوعي فلسطيني قديم

قامت السّلطات البريطانيّة في سنوات الثّلاثين بنفيِهِ إلى الاتّحاد السّوفييتي، وعاد

بعدها إلى البلاد "متسلِّلاً" حيث وجد ملجأه في "القصر" أو "الكومونة" ولم يستطع الحصول على هويّة إقامة وعندما كان رجال الشّرطة يطلبون منه إبراز هويّته كان يكلِّمهم بالرّوسيّة الأمر الذي يحرّره من الاعتقال، اعتقادًا منهم أنّه يهودي مهاجر من أصل روسيّ..

كان في أيّام السّبت، عطلته الأسبوعيّة، يُسافر إلى قرى قضاء حيفا مع بعض

الرّفاق إلى عرب الحلف والزبيدات لتوزيع الصّحيفة وتوعية الجماهير، لقد كان العمل في تلك الأيام شاقًّا جدًّا حيث يخرج من البيت صباحًا ويعود عند غروب الشّمس. ويذكر رفيقنا موسى أنّه نجح بإيصال المياه إلى ديار عرب الزبيدات بعد  أن قام بجمع تواقيعهم بعد أن كانوا يجلبونها على الحمير من "كيبوتس شَاعَر هَعَمَقِيم" ويقول:"ذهبنا مرّة لتوزيع الصّحيفة هناك وإذ بأهل البلد يقيمون عرسًا كبيرًا، وكان من بين المدعوِّين رجل المخابرات غيؤرا زَيْد، إبن ألِكْسَانْدِر زَيْد رئيس الحرس الصّهيوني في منطقة نهلال الذي قتله ثوّار الستّة وثلاثين وقد خلّد الصّهاينة ذكراه بتمثال كبير في كريات طبعون، وحين رآنا أرسل شخصًا إلينا ليهدّدنا ويمنعنا من توزيع الاتّحاد، فقلتُ للشّخص قُل لغيؤرا الذي ينصِّب نفسه زعيمًا على العرب ما هكذا يستقبل البدو ضيوفَهم، فقام غيؤرا بنفسه مرحِّبًا بنا قائلاً لا هو لم يفهمني فأنتم من إخواننا الشّيوعيّين، وحضرنا العرس وبعنا الجريدة بعد أن تلقينا وجبة غداء دسمة تليق بالمعازيم.."

كان رفيقنا موسى ناصيف يملك سيّارة شحن لنقل الحجارة والتّراب، وكانت  سيَّارته، دائمًا تحت الطّلب، منصّة متنقِّلة لخطابات الرّفاق القياديّين وكذلك حافلة ركّاب لنقل الرّفاق من حيفا إلى المظاهرات التي كانت تُقام في ضواحي المدينة أو في مناطق أخرى أو لغابة الجيش الأحمر في ذكرى يوم النّصر على النّاريّة. يذكر مرّة أنّه سار في مظاهرة جبّارة، في أواسط الخمسينات، جابت شوارع حيفا وانتهت في شارع ستانتون، حيث كان غالبيّة سكّانه من يهود المغرب، فقد اعتلوا السّيّارة وقطعوا أسلاك مكبِّر الصّوت واعتدوا على رفيقنا أبو سامي حيث أُصيب برأسه إصابة بالغة أجبرته على التّوجّه إلى المستشفى لتلقّي العلاج وقاموا بخياطة الجرح وحرّر على الحال ليجد نفسه في المظاهرة ثانيةً وليرى أنّ رفاقه قد انتقموا له من المعتدين الذين "أكلوها أكلة جامدة" وفي هذه المظاهرة يقول أبو سامي:"وأشهد في هذه المظاهرة أنّ شباب البعنة الحمراء من أجدع الجدعان".

يذكر رفيقنا أبو سامي مظاهرة أخرى، كانت سيّارته منصّة الخطباء، وكانت تقف في أوّل شارع هرتسل، عند مكتب البريد الرئيسي في الهدار، وحين حاول شباب اليمين الاعتداء على المتظاهرين قام رفاقنا برجمهم بالحجارة التي كانت معدّة لبناء مكتب البريد الأمر الذي أدّى إلى هربهم وهزيمتهم ونجحت المظاهرة وألقى رفاقنا خطاباتهم بدون إزعاج.

يبغض رفيقنا أبو سامي التّعصّب الطّائفي ويقرّ بأنّه رجس من عمل الاستعمار، حيث يذكر أنّه تعرّف مرّة على يهوديٍّ صفديٍّ من عائلة سيغال من أصل لبناني سكنت عمّته قرية عين إبل، وقد حدَّثه مرَّةً أنّه في سنوات العشرين من القرن المنصرم كانت عمَّته تسكن القرية وتحضّر العرق من العنب وتبيعه لأهل البلد، وقبل أن تحدث المجزرة هناك، بشهرين، بحقِّ سكّان البلدة حضر رجال الدّرك الفرنسي ليُنبِّهها من خطر استمرارها في السّكن في عين إبل ويحثّها على الهجرة جنوبًا.

الرّفيق موسى الياس موسى ناصيف من قرية عين إبل، عاش جلَّ حياته في حيفا، منذ أن أُصيبت هذه المدينة بالنّكبة، أعرفه منذ أن رأت عيناي ضوء الشّمس، رأى من خلال حياته اليوميّة أن طريق نصر شعبنا وتحرّره من الاحتلال هو طريق العدالة الاجتماعيّة وأخوّة الشّعوب ونفي التزمّت الديني والقومي، لأنّه يؤدّي

بمسيرتنا الكفاحيّة إلى الهلاك والفشل، لأنّ العالم يقوم حسب التّوزيع الطّبقي

والانتماء الطَّبقي وليس على الانتماء الدّيني أو القومي.

ستّون عامًا مرّت على عضويّته في الحزب الشّيوعي وما زال عضوًا فيه، ستّون عامًا من الكفاح والنّضال والمثابرة من أجل رفاهية شعبه وحقّه في التّحرّر وحق الطّبقة العاملة في البلاد في العيش الحرّ الكريم والعزيز، وما زال على هذا الدّرب، ستّون عامًا غائبٌ عن وطنه لبنان وستّون عامًا حاضرٌ في وطنه فلسطين، فهاتان العينان هما عينان لوجه واحد، بلاد الشّام، وهذان الجناحان هما جناحان لصقر واحد، صقر الشّام.

 ستّون عامًا متضامنٌ مع الشّعوب المُتعبة من نير الاحتلال والمسحوقة من الاستغلال الطّبقي، ستّون عامًا وقلبه مع كوبا وفيتنام وفنزويلا والصّين وأمريكا اللاتينيّة..

ستّون عامًا ثائرٌ في بلادنا مع رفاقه في الحزب الشّيوعي لنصرة الطَّبقة العاملة وشعبه الرّازح تحت الاحتلال، ستّون عامًا تكمِّلُ طفولة ثوريَّة متمرِّدة على كلّ ظواهر الظّلم الجائر والعنف القاهر منذ ولادته في عين إبل، ستّون عامًا من التّفاني والعمل الدّؤوب والمثابر الذي يبعث الأمل فيك ويشدّ من عزمك ويشدّ وزرك وظهرك..

لهذا الرّفيق أتمنّى طول العمر بالصِّحَّة والعافية والعطاء والعقل السّليم، ولعينيه الرّؤية الواضحة ولفكره الرّؤيا المنتصرة حتمًا، ونعد هذا الإنسان الحرّ كما قال لنا "منمشي وبتكفّوا الطّريق"، وعهدًا علينا ووعدًا منّا أن نستمرّ في هذا الطّريق حتّى النّصر.

ونهتف مع أبي سامي، هذا الشّيوعيّ العريق، عاليًا قول الشّاعر العربيّ السّوريّ عمر أبو ريشة في قصيدته "في سبيل المجد":

هَذِهِ أَوْطَانُنَا مَثْوَى الجُدُودِ الأَكْرَمِين

وَسَمَاهَا مَهْبِطُ الإلْهَامِ وَالوَحْيِ الأَمِين

وَرُبَاهَا جَنَّة فَتَّانَة لِلنَّاظِرِين

كُلُّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَاهَا دُونَهُ حَبْلُ الوَرِيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *