الكثير من العادات التي لا تسيء للصليب فقط بل تدنّسه – بقلم: الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى- الرئيس الروحي للروم الملكيين الكاثوليك في حيفا

مراسل حيفا نت | 12/09/2009

  قصة وجدان الصليب المقدس 

 في العام 326 م أرادت الملكة هيلانـة أن تعرف مصير الصليب المقـدس، الذي صُلِبَ عليه المسيح له المجد، حيث رأت في منامها حلمًا، أنبأها بأنها هي التي ستكشف عن الصليب وقد شجعها ابنها الإمبراطور قسطنطين، على رحلتها إلى أورشليم، وأرسل معها قوة من الجند قوامها ثلاثة آلاف جندي ليكونوا في خدمتها، وتحت طلبها، وهناك في أورشليم اجتمعت بالبطريرك مكاريوس، البالغ من العمر ثمانين عامًا وأبدت له وللشعب رغبتها، فأرشدها إلى رجل طاعن في السن، من أشراف اليهود ويسمى يهوذا، وكان خبيرًا بالتاريخ والأحداث والأشخاص والأماكن فاستحضرته الملكة وسألته عن صليب المسيح فأرشدها إلى الموضع الحقيقي للصليب، وهو كوم الجلجثة بالقرب من معبد فينوس، وهو بعينه المكان الذي تقوم عليه الآن كنيسة القيامة في أورشليم.

  أمرت الملكة هيلانة في الحال بإزالة التل، فانكشفت المغارة وعثروا فيها على ثلاثة صلبان، وكان لابد لهم أن يتوقعوا أن تكون الصلبان الثلاثة: هي صليب المسيح يسوع، وصليب اللص الذي صلب عن يمينه، وصليب اللص الذي صلب عن يساره وقد عثروا كذلك على المسامير، وعلى بعض أدوات الصلب، كما عثروا على اللوحة التي كانت موضوعة فوق صليب المخلص، ومكتوب عليها – يسوع الناصري ملك اليهود – ويبدو أن هذه الصلبان الثلاثة كانت في حجم واحد وشكل واحد  أو متشابهة حتى إن الملكة ومن معها عجزوا عن التعرف على صليب المسيح يسوع من بينها وبعد ذلك استطاعت الملكة بمشورة البطريرك مكاريوس أن تميز صليب المسيح بعد أن وضعت الصلبان الثلاثة، الواحد بعد الآخر على جثمان ميت، فعندما وضع الصليب الأول والثاني لم يحدث شيء، وعندما وضع الصليب الثالث، عادت للميت الحياة بأعجوبة باهرة، وبعد ذلك وضعوا الصليب على امراة مريضة فشفيت في الحال، عندئذٍ رَفَعَ البطريرك مكاريوس خشبة الصليب ليراها جميع الحاضرين وهم يرتلون ودموع الفرح تنهمر من عيونهم، ثم رفعت القديسة هيلانة الصليب المقدس على جبل الجلجلة.

 وتكريمًا للصليب المقدس، غلَّفته بالذهب الخالص، ولفّته بالحرير، ووضعته في خزانة من الفضة في أورشليم وشهد بذلك أيضًا أمبروسيوس رئيس أساقفة ميلانو. هذا وقد أرسلت القديسة هيلانة أيضًا قسمًا من الصليب والمسامير إلى قسطنطين وأبقت القسم الباقي في كنيسة القيامة التي أمر الملك قسطنطين ببنائها في نفس موضع الصليب على جبل الجلجثة، وسُمِّيَت بكنيسة القيامة ووضع فيها الصليب المجيد، وهي لا تزال موجودة الى يومنا هذا. وقد احتُفِلَ بتدشين الكنيسة لمدة يومين متتاليين في 13 و 14 ايلول سنة 335 في نفس أيام اكتشاف الصليب. وفور عثور الملكة على الصليب أمرت القديسة هيلانة بإشعال النار من قمة جبل إلى آخر لكي توصل خبر وجدانها للصليب لابنها الإمبراطور قسطنطين في القسطنطينية، إذ كانت النار هي وسيلة التواصل السريع في ذلك الزمان عندما كانت وسائل المواصلات والاتصالات بدائية وبطيئة. وهذا هو السبب في اشعالنا النار في هذا العيد.

 بقي العود الكريم في كنيسة القيامة حتى 4 أيار سنة 614، حيث أخذه الفُرس بعد احتلالهم المدينة المقدسة وهدمهم كنيسة القيامة. وفي سنة 628 انتصر الامبراطور هرقليوس على كسرى ملك فارس وأرجع على كتفه العود الكريم وسار به في حفاوة إلى الجلجلة، وكان يرتدي أفخر ما يلبس الملوك من ثياب، والذهب والحجارة الكريمة في بريق ساطع. إلا أنه عندما بلغ إلى باب الكنيسة والصليب على كتفه، أحسّ قوة تصدّه عن الدخول. فوقف البطريرك زكريا، وقال للعاهل: حذارِ أيها الامبراطور! إن هذه الملابس اللامعة وما تشير إليه من مجد وعظمة، تبعدك عن فقر المسيح يسوع، "ومذلّة الصليب". ففي الحال، خلع الامبراطور ملابسه الفاخرة وارتدى ملابس حقيرة وتابع مسيره حافي القدمين حتى الجلجلة، حيث رفع عود الصليب المكرّم، فسجد المؤمنون إلى الأرض وهم يرنِّمون: "لصليبك يا سيّدنا نسجد، ولقيامتك المقدسة نمجّد".

روحانيّة الصليب

ولكن يؤسفني  أن أقول: إن هذه العلامة المقدسة بدأت تستخدم بالطريقة الخاطئة فنرى هذا الشاب الذي وشم الصليب على كتفيه أو على يديه ظنًّا منه بأن المسيحية هكذا ستنتشر، أو ذاك الشاب الذي أراد أن يواكب الموضة الغربيّة فنراه لابسًا سلسالاً عريضًا معلقًّا به صليب ضخم، وهذا الذي لا يعرف كيف يرسم إشارة الصليب على وجهه وكثير الكثير من العادات التي لا تسيء للصليب فقط بل تدنسه. واسمحوا لي أن آتِ على ذكر بعض العادات الغريبة عن مسيحيَّتنا كعادة حرق الصَّليب أو المفرقعات الناريّة التي لا تمتّ لحدث الصّليب بأيّ صلة أو حتى حرق بعض أثاث البيت بدل إتلافه وكأنّ هذا أصبح جزءًا لا يتجزّأ من الاحتفال السنويّ بعيد الصّليب الذي بدأ يفقدُ روحانيَّته المقدّسة في مجتمعاتنا وعائلاتنا. فأين نحن اليوم من مفهوم الصّليب في حياتنا والسيّد المسيح له المجد والإكرام بدا واضحًا في الإنجيل الشريف عن أنّ أتّباعه لا يمكن أن يكتمل إلا إذا حملنا الصّليب "مَن أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"، فأيُّ صليب تحملون أيُّها المسيحيّون اليوم؟

فالصليب باختصار هو موضع الحبّ الإلهي للبشرية جمعاء، حيث أظهر الله قمة محبته لنا فبذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3 : 16). هذا ما تختصره ليتورجيّتنا البيزنطيّة في إحدى صلواتها عن الصليب: "إفرح أيها الصليب الكريم، مرشد العميان وطبيب المرضى وقيامة كل المائتين، الذي رفعنا نحن الساقطين في الفساد، الذي به قد انحلّت اللعنة، وأزهر عدم الفساد، ونحن البشر قد تألّهنا، والشيطان قد حُطِّمَ بالكليّة. فإذ نشاهدك اليوم مرفوعًا بأيدي رؤساء الكهنة، نعلي الذي علّق عليك، ولك نجثو طالبين أن تمنحنا بسخاء الرحمة العظمى". فهل تؤمنون بهذا أيّها المسيحيّون أم جعلتم من مسيحيّتكم مجرّد عاداتٍ وتقاليد فارغة من معناها الروحيّ التي تميّزت به على ممر العصور؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *