كتاب- التطويبة المفقودة- للأستاذ مارون قعبور مستند فريد من نوعه بقلم:د. الياس زيدان

مراسل حيفا نت | 30/08/2009

 

ويخلص إلى استنتاجاته. يعرض الأستاذ مارون سيرته بصراحة تامّة، فهو يطري حينًا وينتقد "على الشمال وعلى اليمين" حينًا آخر، فقلّما يوثّق معلّمونا ومديرونا تجاربهم بهذه الجرأة. من الأهمية بمكان إجراء دراسة تحليلية متعمّقة لهذا الكتاب، غير أنني لست بصدد فعل ذلك في مقالتي هذه. أبدأ بهذه المقدّمة لأستشهد لاحقًا بإحدى النقاط التي ركّز عليها الأستاذ مارون في كتابه.

 

برزت في "التطويبة المفقودة" الأهمية البالغة التي أولاها الكاتب لـ"حفلات التخرّج"، فقد تطرّق إلى هذا الموضوع مرّات عديدة، ووصل به الأمر حدّ وصف أحد القرارات المتعلّقة بحفل التخرّج، والتي اتخذتها لجنة المعارف الأرثوذكسية المسؤولة عن الكليّة، بأنّه "أهم حدث تربوي وأخلاقي في آخر ثلاثة عقود من مسيرة المدرسة …" (ص 224). نعم، إنّ حفل التخرّج هو بمثابة طقس فيه نوع من "القداسة" يختزل ويلخّص مرحلة بأكملها من طرف الطلاب وأهاليهم ومدرستهم، فلا يستطيع المدير والمربّي أن يحتمل وضعًا لا يقف فيه على المنصّة كشريك أساسيّ في تسليم طلابه شهاداتهم (كما يؤكّد ذلك الأستاذ مارون في كتابه). وإذا كان حفل التخرّج بهذه الأهمية بالنسبة إلى المدير والمعلّم الذي يخرّج الأفواج سنة بعد سنة، فما بالكم بأهميّته بالنسبة إلى الطالب – صاحب الفرحة الأوّل – ولأهله، والفرحة هذه تحدث مرّة واحدة في هذه المرحلة من حياته. تطرّقي إلى هذا الموضوع نابع من باب التعلّم من الماضي وممّا دار خلال السنتين الأخيرتين في الكلية ومحاولة استخلاص بعض العبر المستقبليّة. لا شكّ في أنّ عملية التعلّم من التجارب السابقة لها كبير الأثر على تطوّر مؤسّساتنا التعليمية-التربوية وجعلها منسجمة وحاجات طلابنا المُتغيّرة وأهداف المدرسة. وكم نحن بحاجة كمجتمعٍ وكمؤسّسات إلى التعلّم من تجارب الماضي والحاضر في سيرورة بناء مستقبلنا.

آملُ أن تكون العبرة لكلّ مدارسنا بأن حفل التخرّج هو طقس بالغ الأهميّة، فلا يمكننا أن نتخيّل نهاية المرحلة التعليمية من دونه. على حفل التخرّج أن يكون فرحةً لكلّ الشركاء في حياة الطالب، وخصوصًا ذلك المثلّث الذي يشكّل المدرسة والطلاب والأهالي أضلاعه الثلاثة. هذا يقودني إلى العبرة الثانية: علينا أن نكتب عن أوضاعنا ومدارسنا ليس في أوقات المشاكل والأزمات فحسب، وإنّما في أوقات النجاحات أيضًا، دون أن يقتصر ذلك على النجاحات في التحصيل العلمي فقط. نعم، لقد كثُرت الكتابات حين واجهت الكلية مشاكل، وألغت حفل تخرّج طلابها في السنة الماضية، والتي كان السبب المباشر لها ظاهرة ضرب البيض والطحين التي مارسها بعض الطلاب حينها. لكن، لم تكن هناك أي كتابة جديّة بصدد ما قامت به الكلية من خطوات إيجابية خلال السنة الأخيرة، والتي يجدر بنا أن ننتبه إليها ونتعلّم منها مستقبلا. لقد خرّجت الكلية فوجها الأخير قبل بضعة أسابيع بحفل مهيب. باعتقادي، لم يكن اختفاء تلك الظواهر في الكلية في نهاية السنة الدراسيّة الأخيرة محض صدفة، بل كان نتيجة لخطوات وفعاليات قادتها المدرسة، بمديرها وهيأتها التدريسيّة ولجنة المعارف الأرثوذكسية، خلال الأشهر الأخيرة، وعلى ذلك يستحقّ هؤلاء كل تقدير. وعلى وجه الدقة، لم يكن إلغاء ظاهرة ضرب البيض والطحين بالأمر السهل، لأنّها تحوّلت، خلال السنوات الأخيرة، إلى "طقس" (كما في مدارس أخرى) هام لا يمكن أن تنتهي السنة الدراسيّة من دونه. من خلال حديثي مع بعض الطلاب وممثّليهم في المدرسة، خلال السنة الدراسية الأخيرة، تبيّن في البداية أنّ احتفالات ضرب البيض والطحين هي بمثابة "بديهة تاريخية" تنتقل في السنوات الأخيرة "من جيل إلى جيل" ولا يمكن إنهاء السنة الدراسية من دونها. لكن، سرعان ما تلاشت هذه الظاهرة وسرعان ما انتهت السنة الدراسيّة الأخيرة في الكليّة بشكل مشرّف. أودّ في هذا الصدد التطرّق إلى مبادرتين هامّتين كان لهما كبير الأثر على ما حدث:

1.      الفعاليات الاجتماعية-اللامنهجية التي قامت بها المدرسة والمشاركة الفعّالة من طرف عضوات وأعضاء طاقم المدرسة، وعلى رأسهم المدير فيها. فقد شهدت الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية فعاليات مختلفة مدروسة، داخل المدرسة وخارجها، تضمّنت الكثير من التجديد والإبداع والمفاجآت الإيجابية للطلاب، ويبدو أن أثرها الإيجابي كان كبيرًا على الطلاب.

2.      مشاركة الطلاب والأهالي في عمليّة اتخاذ القرارات فيما يتعلّق بطرق إنهاء السنة الدراسيّة. نعم، لقد قامت الكليّة بدعوة الأهالي لاختيار ممثّلين عنهم لمشاركة المدرسة في عملية التخطيط لإنهاء السنة الدراسيّة. وقد دارت نقاشات شارك فيها جميع الأطراف، ولاحقًا بعد اتخاذ القرارات التزم جميع الأطراف بها، وخصوصًا الطلاب الذين أبدوا مسؤولية تستحقّ التقدير وأنهوا السنة الدراسيّة بأجواء أخوية وإيجابية. وكانت نتيجة كلّ ذلك أن شهدنا حفل تخرّج ضمّ تمثيلاً لكل الشركاء في المدرسة، إذ كانت لفتة إيجابية من طرف المدرسة أن تمنح لممثّلٍ عن أهالي الخريجين فرصة إلقاء كلمة باسمهم.

أعتقد أنّ الكليّة التي تُعتبر منذ زمن بعيد صرحًا تعليميًّا بارزًا في مجتمعنا، قد أثبتت لنفسها مرّةً أخرى، وعلى أمل لمدارس أخرى، خصوصًا الأهليّة منها، أنّ العمل التربويّ اللامنهجيّ والشراكة بين ثلاثة أضلاع المثلّث تؤدّي إلى بناء الثقة والأجواء الإيجابية. هذا ما تثبته، أيضًا، التجارب المهنية والدراسات العلميّة، وهذا ما تؤكّده المنشورات الدورية الصادرة عن المدير العام لوزارة المعارف.

يقودني ما ذكر آنفًا إلى ثلاثة اقتراحات:

1.      أن تتحوّل ما نسمّيها اليوم بالبرامج اللامنهجيّة إلى جزء لا يتجزأ من المنهاج المدرسي خلال كل أيام السنة وفي جميع المراحل المدرسيّة، وبضمنها المرحلة الثانوية، إذ ألمس اعتقادًا سائدًا داخل هذه المدارس وفي صفوف الأهالي بأن هذه المرحلة هي "مرحلة التحضير للبجروت"، وليس هناك متّسع من الوقت للبرامج اللامنهجية، ويسود الاعتقاد بأنّ هذه الأخيرة ستؤثّر سلبًا على التحصيل العلمي. هذا الاعتقاد السائد يشكّل، في اعتقادي، سببًا مركزيًّا في "الثورات" التي نشهدها من قبل طلابنا في هذه المرحلة ضد المدرسة وفي بعض الأحيان ضد الأهالي. برأيي، إنّ إيجاد التوازنات المُلائمة بين التركيز على التحصيل العلميّ والنواحي الاجتماعية-التربوية سيساعد طلابنا على زيادة تحصيلهم العلمي، من ناحية، وعلى الاستمتاع بهذه المرحلة وبناء شخصياتهم وغيرها من الأمور الهامة، من ناحية أخرى.

2.      تشجيع الطلاب على أخذ دور فاعل في المدرسة ورفع مستوى تعاون طاقم المدرسة مع الطلاب وذلك (بالأساس) من خلال بناء لجان طلابية صفية ومجالس طلاب فاعلة تشارك المدرسة في نشاطاتها وقراراتها. وها هي الكلية تثبت أن التعامل مع الطلاب كأشخاص بالغين يدفعهم إلى التصرّف كبالغين.

3.      تعميق وتثبيت التعاون مع الأهالي وذلك (بالأساس) من خلال انتخاب لجان أهالٍ صفيّة ولجان أهالٍ مدرسيّة في بداية السنة الدراسية، تشارك هي الأخرى المدرسة نشاطاتها، وتمثّل الأهالي في مجالات مختلفة، وخاصّة تلك التي يتيحها القانون ووزارة المعارف.

الأمور الثلاثة المطروحة أعلاه هي "مفهومة ضمنًا" تربويًا وعلى مستوى وزارة المعارف، ولكنها غير مفهومة ضمنًا في الكثير من مدارسنا. الكثير من المدارس لا تريد "وجع الراس" الناتج عن مشاركة الطلاب والأهالي في العملية التربويّة. علينا أن ندرك أن ثمار "وجع الراس" أكثر بركة من آلامه على المستوى البعيد. فنحن نعيش زمنًا لا تستطيع المدرسة فيه أن تتوقّع من الأهالي أن يقولوا لها "إلك اللحمات وإلنا العظمات"، الله يرحم تلك الأيام! من الأهمية بمكان التأكيد على أنّ "وجع الراس" في مشاركة الأهالي والطلاب هو جزء صحّي في بناء العلاقة بين أضلاع المثلث الثلاثة، فهل يمكننا أن نتخيّل الورد الجوريّ من دون أشواك؟ وهل يمكننا أن نتخيّل حياة زوجية من دون ارتفاع الأصوات في بعض الأحيان؟ الشراكة الحقيقية المبنية على الإيمان بها وعلى الثقة والمحبّة بين جميع الشركاء تحوّل المشاكل إلى تحدّيات. والتحدّيات هي محفّز أساسيّ للتقدّم والتغيير نحو الأفضل.

وكلّ عام وشعبنا ومدارسنا وكليتنا بطاقمها وأصحابها وطلابها وأهاليها بألف خير.

د.الياس زيدان: محاضر في جامعة حيفا، مستشار تنظيمي، مخطّط إستراتيجي ومدرّب

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *