قُرْمِيَّة الحِزْب- د. خالد تركي – حيفا

مراسل حيفا نت | 25/07/2009

د.خالد تركي 

وَلِدَ الرّفيق أبو يوسف، إسطفان جبران خوري في قرية الدّامون الجليليّة، الواقعة في الطّرف الشّرقي لسهلِ عكّا، عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثلاثين أو عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وتسعةٍ وعشرين حيث توفى والده بعد ثمانية أشهرٍ من ولادته، وقد حوّله الاحتلال، عام النّكبة، من قرويّ آمنٍ يعيش حياته الخاصّة، يملك بيتًا وأرضًا وماشية وله أصدقاؤه وهواءه وماؤه وذاتيّته، إلى لاجئٍ في وطنه، لا يملك سوى ثيابه التي كان يلبسها في ذلك اليوم، بعد أن سلبوه كلّ شيء..

كان ذلك في الخامس عشر أو السّادس عشر من شهر تَمُّوز عام ألفٍ وتسعِمائة وثمانية وأربعين، حيث سقطت قريته بعد سقوط مدينة عكّا، على أيدي عصابات الهجناه من اللواء السّابع، في عمليّة ديكل.

ترك المدرسة، "في زمن الانجليز" بعد أن أنهى الصّف الرابع ليُعاون والدته وأهل بيته، بمعيشتهم، لأنّه إذا أراد تكملة دراسته كان عليه أن يسافر يوميًّا إلى القرية المجاورة ليلتحق بمدرستها، ولأنّ الحالة الماديّة كانت أقلّ من "على قدّ الحال" قرّرت عائلته أن يبقى في القرية ليُساعدها في فلاحة الأرض وإعالتها مع والدته.

لقد كانت الدّامون قرية عامرة ومتآخية بمسلميها ومسيحييها، وما زال أهلها إلى يومنا هذا متآخين تربطهم ببعض علاقات حميمة وأخويّة لأنّهم في الهمّ واحد، فعلاقة أهل الدّامون في كلّ مناطق الشّتات، بكلّ طوائفها قلبًا واحدًا وقالبًا متماسكًا لا تشوبه شائبة، صامد أمام عثرات الزّمن.

يعود أصل سكّان الدّامون إلى القائد العربي باني أوّل "دولة" في فلسطين الظّاهر عمر الزّيداني، وقد امتدّت حدود أراضيها، كما يقول أبو يوسف، من السّهل السّاحلي غربًا (عين همفراتس وكفار مساريك، اليوم) حتى طمرة وكابول شرقًا وفي أواخر الاحتلال البريطاني لفلسطين كان عدد سُكّانها ما يُقارب الألفين،

 عمل جميعهم في الزّراعة واعتمدوا على مياه نهر النّعامين لِرَيِّ أراضيهم وعلى مياه الآبار الارتوازيّة للشّرب.

يذكر أيّام الثّورة في العام ألفٍ وتسعِمائة وستّةٍ وثلاثين، كيف كان الجنود

البريطانيّون يُخرجون الأهالي من بيوتهم بحُجّة التّفتيش عن الثّوّار وعن الأسلحة وكانوا يوقِفون الرّجال في ساحة البلد ووجوههم موجّهة إلى قرص الشّمس الحارقة كي لا يرَوا هويّة الجنود ومساعديهم من العملاء، ويُرسِلون النِّساء إلى أماكن العبادة، بينما يدخل الجنود مع عملائهم بيوت الفلاحين ويُعيثوا فيها فسادًا لا يوصف من تحطيم الأثاث والعبث بالممتلكات وخلط الحبوب بعضها ببعض أو الزّيت مع السّكّر أو الطّحين مع السّكّر..

اسطفان خوري مع عرفات

 

ويذكر أيضًا البالونات الضّخمة التي كانت تسبح في سَماء المنطقة أثناء الحرب العالميّة الثّانيّة لِتَمويه الطّائرات الألمانيّة التي كانت تُغيرُ على مصافي تكرير البترول "الرِّفاينَري" وعلى مكاتب شركة النّفط العراقيّة، آي بي سي، في مدينة حيفا.

حين دخل الصّهاينة القرية، قام الجنود بسرقة المواشي والدّواب والأدوات المنزليّة والممتلكات العامّة بالشّكل التّالي: رسم الجنود في الأرض خطًّا عموديًّا طويلاً، بواسطة المحراث، يصِلُ ما بين تل كيسان جنوبًا ومنطقة العيّاضيّة شمالاً، ومنعوا أهل الدّامون اجتياز الخطِّ غربًا بينما سَمَحوا لهم باجتيازه شرقًا إلى ما وراء حدود فلسطين، سوريا ولبنان، وحين أدرك أهل القرية الخطر، أرسلوا النّاطور رافعًا الرّاية البيضاء للمفاوضات من أجل إعادة السّكّان إلى ديارهم وإطلاق سراح المواشي.

يقول أبو يوسف: "كانت لنا أرض في منطقة الكُرداني، كُنّا قد زرعناها قمحًا وحين سقطت قريتنا، حُظِر علينا الحصاد هناك، لكنّ الجوع قتّال فذهبنا للحصاد ليلاً على أن نذرّي الغلال ونضُبَّ الحبوب نهارًا".

وبعدها أوكلَتْ العائلةُ الشّابَّ، إسطفان، بتحميل الحصاد على الجمال ونقله

شرقًا إلى أقربائهم في سخنين، التي لم تكن قد سقطت بعد، خوفًا من العوز والجوع والتّشريد أو حدوث شيء ما لا تُحمد عُقباه خارج عن إرادة العائلة وليكون لهم ما يأكلونه، حيث قام بعمله على أحسن وجه ونفّذ الخطّة كاملة، ويذكر أنّه في طريقه إلى سخنين رأى ثوّار البروة الأبطال كيف يُحرّرون قريتهم بعد أن احتلّتها العصابات الصّهيونيّة، لكنّها سقطت في أيدي العصابات ثانية.

ويذكر أنّه رأى كيف أصابت الرّاجمات إصابة مباشرة ابنة خليل أبو علي حيث استشهدت وهي طفلة في بُرعم عمرها "..كانت طفلة تصنعُ غدها،..سقطت، لكن دمها كان يُغنّي".

بعد سقوط الدّامون لجأت عائلة جبران خوري مع بعض النّازحين إلى شفاعمرو

التي تبعدُ عن مسقط رأسه بُعد مرمى حجرٍ يرميه راعٍ متمرِّسٍ في رميِ الحجارة ليجمع دوابه وماشيته سويَّة ليبقَوا تحت رقابته. وقد نزح إليها أيضًا المئات من القرى المجاورة من ميعار وهوشة والكساير وصفّورية..

"حضرت والدتي إلى وادي سلامة حيث اختبأتُ هناك ما يُقارب الأربعين يومًا مع الدَّواب والمواشي التي كنت قد بِعتُها بعد سقوط الوطن أملاً في أن أجد ملجأً لي في وطنٍ ما، وراء الحدود، لكنّ والدتي أرجعتني وحمتني من اللجوء فقلب الأمّ دائمًا على ولدها مهما كبُرَ وشابَ شعره". وعند عودتهما، إعترضتهما دورية من جيش الإنقاذ على مقربة من كوكب أبو الهيجاء فأوقفهما قائد الكتيبة "على ما أظنُّ أنّه كان من بلاد الحجاز" حيث حثَّهما على الهروب إلى وادي سلامة إيابًا ومن بعدها إلى لبنان لأنّهما إذا لم يفعلا ما أملاه عليهما سيُعتبران من الخونة، لكنّهما رفضا أوامره وناما في القرية المضيفة، وحين عرف مختار البلدة بالموضوع سار إليهما ليلاً وقام بتهريبهما إلى منطقة قرب قرية عبلّين، وعادا إلى قريتهما، الدّامون، ووجدا أنّها قد سقطت و"النّاس قد هَجَّت" وأنّ الرّاجمات قد دمّرت بيوت القرية ولم تُبقِ حجرًا عامرًا على حجرٍ عامرٍ، وبقيت شواهد المقابر صامدة، وحدها، في وجه القصف، ترجو القمرَ أن يظلّ بدرًا ليضيء في العتمة أمام الثّوّار ليروا طريق عودتهم ولأنّ الشّواهد ستشهد للاجئين العائدين إلى قريتهم أنّها موجودة ومزروعة في الأرض وأنّها أقوى من العساكر والطّاغوت والتّدمير وأن القرية باقية مهما صار..

وسكن مع عائلته شفاعمرو، التي تبعدُ عن مسقط رأسه بُعد مرمى حجرٍ يرميه راعٍ متمرِّسٍ  في رميِ الحجارة، ليجمع دوابه وماشيته سويَّة ليبقَوا تحت رقابته.

وبدأت عمليّة إحصاء السُّكَّان..

يقصُّ لي والدي أبو خالد عن أحدِ أبناء شفاعمرو الكبار في السِّنِّ كيف تمّت عمليّة إحصاء السُّكَّان:

"كان يجلس شخصٌ عند باب الحاكم العسكري وقت إحصاء النّفوس، "صديق الحاكم"، وحين كان يدخل إنسان ما السّرايا، يضرب الشّخصُ بعكّازه على الأرض ضربة أو ضربتين ليُشيرَ للحاكم نوعِيّة داخلِ المكتبِ، فإن ضرب ضربتين تكون الإشارة بأن الدّاخل متعاطف مع الثّوّار فيُحرَم من التّسجيل ويُزَجُّ به داخل السّجن "للتّحقيق والأسئلة ووجع الرّاس والتّوقيع على استماراتهم"، ومن كان من زمرتهم كان يضرب بعكّازه ضربة واحدة لتسجيله في سجلّ الإحصاء  ويُعفا عنه، وحتى يُبعِد الشّكّ عن نفسه، ضرب بعُكّازه مرّتين حين دخل أبناؤه المكتب للتّسجيل، لكنّ الحاكم كان قد أعطى أمره بتحرير أبنائه دون أن ينتبه لأوامره المُعتقلون.."

 لقد تعرّف اسطفان خوري على الشّيوعيّين في شفاعمرو، وعرف قوّتهم  ونضالهم وشجاعتهم وعدم خوفهم في المظاهرات والمجابهات والتّصدّي للتّرحيل وتوزيع المناشير المُحرِّضة على النِّظام الظّالم ومن أجل كرامة وشرف الشّعب كذلك عرفهم من جريدة الاتّحاد التي يعشقها ولها في قلبه مكان خاصّ لأنّها كانت معلّمه الأوّل، وكما قال: "عرفتُ فكّ الحروف حين أنهيتُ دراستي وأنا في الصّفّ الرّابع، وكنت أرفع عن الأرض كلّ قصّاصة ورق كي أقرأ ما فيها حتى لا أنسى القراءة". وتابع يقول: " تعرّفت على الرّفاق وجريدتهم "الإتّحاد" التي كانت بالنِّسبة لي مدرستي الابتدائيّة والثانويّة والجامعيّة، فهي التي ثقَّفتني وعرّفتني على الحياة وآدابها ومنها تعلّمتُ الحروف المقاوِمة وبإتقان.." فكَبُرَ معها وكَبُرَت مَعَهُ وَبِهِ وأخلص لطريقها وما زالَ مُخْلِصًا لها إلى يومنا هذا ويقرأها يوميًّا مع كلِّ إطلالة شمس الصّباح من الصّفحة الأولى إلى الأخيرة حتّى الأبراج الّتي لا يؤمن بها، يقرأها، منتهيًا بقراءة كلمة صباح الخير، التي تكون فاتحة نهاره الذي لا يكتمل دون الجريدة. وإن تأخّرت يومًا "أبقى حائصًا ولائصًا في جنبات البيت حتّى تصل" ومُنذ بداية ربيعه الحزبيّ وهو يوزّع صحيفة الإتّحاد حيث كان يوزع حوالي ثمانين عددًا أي أنّه كان يدخلُ ثمانين بيتًا. وقد وصفه أحد قادة حزبنا البارزين أنّه "قُرْمِيَّة الحِزْب" في شفاعمرو، هذا الشّيوعي حتّى النّخاع بَقيَ على العهد مُناضِلاً صامِدًا رافِعًا الرّاية الحمراء الخفّاقة من أجل وحدة وتقدّم وتوسيع صفوف الحزب بجبهته العريضة ومن أجل عودته وعودة أهله وشعبه إلى الدّامون والبروة وصفّورية وسحماتا وام الزّينات وكفر لام وإجزم وفرّاضية وميعار….. وهذه مرحلة من مراحل عملنا الدّؤوب ونشاطنا المتواصل لنصل بعدها إلى شاطئ الأمان، شاطئ الرّفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة والمُساواة.

تلك الرّاية التي لم يُسقِطها قطّ، بل بقيت مرفوعةً عزيزةً حيث أودعها لأبنائه وأحفاده ليرعوها سويّة، راية الأب والابن والحفيد والرّوح الشّيوعيّة، أربعة أقانيم تشكِّل وحدة واحدة غير منفصلة أو منفصمة.

يقول الرّفيق أبو يوسف: "لقد رفعت الاتحاد صوتنا، صوت العمّال والفلاحين والمُضطهدين واللاجئين في وطنهم وفي الشّتات وقد قامت بإيصال كلمتنا إلى أعلى المراكز الرّسميّة حيث كانت السّبّاقة بنشر أخبار معاناتنا وفضح مجازرهم وحثّنا على الصّمود والمثابرة في النّضال من أجل المساواة وعودة اللاجئين ومن

أجل السّلام العادل، إنّ "الاتّحاد" هي الخبز والماء والهواء والدواء والحياة".

كذلك رعت الحركة الأدبيّة المقاومة في فلسطين منذ نشأتها.

يذكر الرّفيق أبو يوسف كيف أنّه في أوائل الخمسينيات حاربت الكنيسة بكلّ الوسائل، الشّيوعيّين، حيث منعت إعطاء حلّة الزّواج لأعضاء الحزب والشّبيبة فمنهم من وقف على حدِّه ومطلبه إلى أن حصل عليها ومنهم من انتقل إلى طائفة أخرى كي لا يتنازل عن انتمائه لحزبه وإخلاصه لمبادئه. كذلك حاربتهم

الحركة الصّهيونيّة والرّجعية العربيّة المحليّة والحكومات الاسرائيليّة المتتالية. 

انضم الرّفيق أبو يوسف إلى الحزب الشّيوعي عام ألفٍ وتسعِمائة وتسعةٍ وأربعين،

بعد النّكبة بسنة، مع أنّه تربّى في بيت دينيٍّ ولأخت راهبة "فعُمري الحزبي الآن هو ستون عامًا وعمر حزبي تسعون عامًا".

لقد كان للمنفِيَّيْن واللاجئيْن إسماعيل المدهون (من مجدل عسقلان) وإبراهيم الفحماوي (من إمّ الزّينات) المساهمة المتواضعة في بناء الحزب في مدينة شفاعمرو، حيث نُفيَ الأخير بعدها إلى طمرة وقد ساهم هناك في إقامة فرع للحزب وطُرِد لاحقًا من سلك التّعليم بسبب مواقفه وانتمائه.

"بدأتُ بتوزيع جريدة "الاتّحاد"، كلمة الحزب والجماهير، حيث أنّ عمليّة التّوزيع لم تكُن سهلةً، وأذكرُ أنّ أعضاء الكشّافة قاموا بمهاجمتي للنّيل منّي وإرهابي وترهيـبي ولمنعي من توزيع الجريدة إلا أنّ الحمايةَ التي تلقَّيتها من النّساء في حارة المسلمين حالت دون ذلك، إذ هجمنَ على المعتدين بالمكانس والصّرامي وفرّوا هاربين مذعورين، وتابعتُ توزيعها دون خوف أو وجل.. عندما كنّا ندخلُ بيتًا لبيع الجريدة، كنّا نتناقش مع أهله في مواضيع ومواقف حزبيّة ودوليّة ومحليّة، ونرفع من بعدها مشاكل النّاس إلى هيئاتنا العليا لإيجاد حلّ أو مساعدة في تدبير أمر ما أو حتّى في كتابة رسالة ما إلى الجهة المعنيَّة..وكنّا ندفع أحيانًا ثمن الجريدة من جيوبنا إذا لم يكن في البيت ثمن الجريدة، المهم أن تقرأ جماهيرنا كلمة حزبنا".

ظهرت أزمة المياه في شفاعمرو عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثلاثةٍ وخمسين، حيث كان أهل المدينة وقد كان عددهم في حينه خمسة آلاف مواطنٍ يشربون من آبارها التي كانت شحيحة ومن المياه التي كانت تُنقل في خزّانات كبيرة من كُفْرِتَّا وتُفرّغ في بئر السّرايا لِتُضَخّ منه إلى بيوت النّاس. حينها قرّرت وزارة الزّراعة منح البلديّة قرضًا لحفر آبار المياه وعندما بدأ الحفر في أرض البلدة تدفّقت المياه بغزارة فائقة، الأمر الذي دفع الوزارة وشركة مكوروت إلى سدّ فتحة الضّخِّ إلى إشعارٍ آخر، وبعد حوالي سنتين أتى مسؤول الشّركة باقتراح يُفيد جمع رسوم حفر من كلّ فرد في العائلة لصالح الشّركة لأنّها الوحيدة صاحبة الامتياز، الأمر الذي دفع الرّفاق الشّيوعيّون إلى تحريض أهل البلدة ضدّ هذا المشروع الحكومي حيث بدأت الاجتماعات في منطقة السّوق والحارات الأخرى والدّعوة إلى أنّ من يحقّ له استثمار الحَفْرِ هي البلديّة وليس شركة مكوروت لأنّ المياه هي مياه شفاعمرو ومن الطّبيعي أن تكون بلديّة المدينة هي الوكيلة الوحيدة، وصاحبة الامتياز لهذا الغرض دون منازع.

حين وصل خبر التّحريض للحاكم العسكري، أمر باعتقال ثلاثة رفاق من رفاق شفاعمرو، شفيق خوريّة، شحادة نجّار واسطفان خوري الذين أَوفدوا مندوبًا، أبا يوسف، إلى قيادة المنطقة في حيفا حيث اجتمع مع الرّفيق زاهي كركبي وبنينا فاينهاوز  في مقر الحزب في شارع هرتسل وكان القرار العصيان على قرار الحاكم العسكري "عدّتُ وأبلغتُ الرّفاق بالقرار وعند اعتقالنا طُلِب منّا أن نُسلِّم تصاريح العمل التي بحوزتنا ليمنعونا من العمل، بهدف تجويعنا، فقال لهم رفيقنا شفيق خوريّة الذي فُصِل من سلك التّعليم بحجج واهية لكنّ السّبب كان واضِحًا له، وهو انتماؤه لحزبه وشعبه:"لقد أضعتُ التّصريح منذ زمن بعيد" الأمر الذي شفع له حيث وأطلقوا سراحه وبقيتُ في الأسر مع رفيقي شحادة نجّار. كان طلب الاعتقال موقّع من الضّابط حنّا حدّاد فقد "جلستُ في غرفة التّحقيق وظهري إلى الحاكم العسكري ووجهي إلى الضّابط حنّا وحين طلب منّي الحاكم تصريح العمل لم أجبه وقال لي الضّابط حنّا: لماذا لا تجيب على أسئلة الحاكم فأجبته: إنّ الذي دعاني للتّحقيق هو أنت وليس هو. ورفضْتُ تسليم التّصريح نزولاً عند قرار الحزب الذي اتّخذناه في حيفا. وزجّوا بنا في سجن الجلمة، حيث زارني الرّفيق زاهي كركبي وأدخل معه، سِرًّا، صحيفة الاتّحاد وكانت أغلى وأثمن شيء حصلتُ عليه في المعتقل. وعند وقوفنا صباحًا في ساحة السّجن لإحصائنا، رفع الضّابط يده لضربي بعد أن وجد الصّحيفة معي، فمسكت يده بقوّة وأردْتُ انتزاعها من مكانها حتّى لا تسوِّل له نفسه ثانيةً بالتّمادي على كرامتي وعندها ذقتُ حلاوة الصّمود ومرارة الزّنزانة والتّعذيب والمهانة التي لم تزدني إلا عنفوانًا وصبرًا وروحًا ونَفَسًا طويلاً للتّحدّي وإصرارًا على وجوب هزيمتهم".

لقد نقلوا اسطفان خوري إلى عدّة سجون منها الجلمة، عكّا، شفاعمرو،

والدّامون الواقع على سفوح الكرمل، خوفًا من إقناع المساجين بخطّ الحزب،

"حتّى أسْرنا يُرهِبُهم ويُخيفُهم! وأُطلق سراحنا بعد تدخّل رفيقنا محامي الأرض

حنّا نقّارة.

بعد مدّة اعتقلت الشّرطة في مدينة عكّا الرّفيق أبو يوسف لعدم حيازته على تصريح فحُكم عليه بدفع غرامة قدرها ليرتين ونصف أو السّجن، وأعطوه مهلة يوم واحد لدفعها، فكيف له أن يتدبّر أمره وهو الغريب لا يعرف أحدًا في عكّا يُديِّنه المبلغ، لكنّ الصّدفة خيرٌ من ألف ميعاد إذ التقى بابن الحلال الدّاموني، صالح أبو علي أبو إدريس، في السّوق وأعطاه المبلغ ودفعه للمحكمة وهكذا تحرّر أبو يوسف.

هذا الظّلم والإجحاف لم يُثنِ ولن يُثني رفاقنا عن طريقهم وعن زخمهم النّضالي العنيد، المعطاء والمُثابر، لأنّهم يداومون، بثبات وقناعة لا مثيل لها، على استمراريّة الطّريق الصّادق، والنّهج النّاجع مهما عصفت رياح الظّلم والاحتلال البغيض والاضطهاد والسّجن والتّعذيب.

لا أقدر أن أنهي مقالتي هذه بدون أن أتطرّق إلى يوم الأرض الأوّل وإسهام أبي يوسف في هذا اليوم، حيث كان يعمل في كيبوتس ساعار مع زميله يوسف سويد من قرية البقيعة، أبو علي، حيث كانوا يُنادون الأوّل بممثل راكاح والثّاني بممثل منظّمة التّحرير. وحين دعا حزبنا الشّيوعي إلى الإضراب العام بعد اجتماع شفاعمرو التّاريخي والذي فيه أعلن خالد الذّكر توفيق زيّاد أنّ القرار للشّعب وليس للرّؤساء، الذين حاولوا إفشاله بناءًا على توصية كينغ إيّاه، تجنّد رفاقنا لإنجاح الإضراب وحين رأوا في الكيبوتس أنّ الإضراب كان ناجحًا ولم يأتِ أحد للعمل عرفوا من هو "زنبرك الحركة"، فنظّم رفيقنا أبو يوسف حسب طلب الكيبوتس ندوة برئاسة القسّ شحادة شحادة رئيس لجنة الدِّفاع عن الأراضي وانتهت النّدوة بنجاح الأمر الذي لم يستلطفه مسؤول الكيبوتس حيث كان ردّهم طرد الرّفيق اسطفان من العمل بعد أن وعدوه بزيارة لإقامة ندوة مماثلة في مدينة شفاعمرو..

وسيبقى رفيقنا اسطفان خوري، المعروف في شفاعمرو باسطفان الشّيوعي، دامت لنا صحّته وعافيته، رافعًا الرّاية الحمراء بمطرقتها ومنجلها إلى أن يبزغ فجر النّصر الآتي ويتحقّق السّلام العادل ويُدحر الاحتلال ويعود اللاجئون إلى قراهم ومدنهم ويعود أبو يوسف، إسطفان جبران خوري، إلى قريته، الدّامون، ويعمل فيها ما يشاء، ويذهب أينما شاء ويزور قبر والده متى يشاء، ليضع عليه زهور الفلّ والياسمين والقندول المقطوفة من سهل عكّا الشّرقيّ بعد غياب قسري طال أمده ويغسل الضّريح من مياه آبار الدّامون أو من مياه نهر النّعامين كما يشاء.

وللمتطاولين على تاريخنا الشّريف والمُشرِّف استشهد بما قاله الرّئيس الجزائري أحمد بن بِلاّ في مذكّراته ص 164: إنَّ عداء الشّيوعيَّة سياسة خطرة، ويجب أن أضيف بأنّي على الصّعيد الإنساني أشعرُ باحترام عميق للمناضلين الشّيوعيّين. إنّهم يثيرون إعجابي لأنّهم تجرّدوا من ارتباط بعالم المصالح الشّخصيّة الصّغير والحقير. ولأنّه لا المال، ولا النّجاح، ولا المناصب، لا شيء من كلِّ هذا يُحسب له حساب عندهم. ولأنّهم مستعدُّون للتّضحية بكلِّ شيءٍ بما في ذلك حرِّيتهم وحياتهم نفسها في سبيل مثلهم السّياسي الأعلى. وبهذا الخصوص أشعر بأنّي جدّ قريب منهم.

ولنُردِّد معًا مِطَّاوِل عَ الشُّيُوعِيّة خا.. مِيِّة بِالمِيِّة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *