خارج حدود المفهوم ضمنًا- رمزي حكيم- كاتب وإعلامي فلسطيني، الناصرة

مراسل حيفا نت | 11/07/2009

فيلم "الجولان تحت المجهر" كان بمثابة "مشروع" يقود المتلقي الى مجال المعرفة الخارجة عن الوعي العام. واذا كانت هذه المقاربة تبدو سياسية أكثر منها أي شيء آخر، فذلك ببساطة لأن الاحتلال كان هو نفسه نتاجًا لفكر سياسي أيديولوجي يتعدى رواية السيطرة على الأرض. فكرة "الدولة الدرزية" كمثال

نقد الرواية الصهيونية عن احتلال الجولان يبدأ بمفهوم علاقات القوة والسيطرة والهيمنة. من هنا استطاع فيلم "الجولان تحت المجهر"، الذي بثته الجزيرة الإخبارية على جزئين، أن يستعيد "نقطة الانطلاق" في الصراع، ليس بوصفه صراعًا على الأرض فحسب، انما على الانسان ومقومات وجوده على الأرض، فكريًا وسياسيًا وأيديولوجيًا واقتصاديًاتطرح اسرائيل قضية احتلال الجولان في صيغة "اختيار وحيد" كان أمامها. فالهدف "وقف النيران السورية على المستوطنات".

 هذه هي "الرغبة" الاسرائيلية وراء الاحتلال. لا أطماع هنا. ولا أيديولوجيا توسعية. ولا تخطيطات استراتيجية للسيطرة على المنطقة. هذا كله "كلام عرب". لذلك حاول المتخصص الاسرائيلي، يغيئال كيبنيس، ان يوهم المشاهد – المتلقي – من خلال ما قاله في الفيلم بأن "الرغبة أو الحاجة لإحتلال الجولان كانت لإبعاد النيران السورية عن مستوطنات الحدود". وهذه لغة تتكرر في صيغ مختلفة، أعاد انتاجها من جديد رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في خطابه الأخير – خطاب جامعة "بار إيلان" – حين حاول الرجوع الى "تاريخ الصراع"، من وجهة نظر صهيونية، كرر فيها منظومة الكليشيهات الجاهزة حول العداء العربي لإسرائيل ينبغي علينا، وقد قلنا هذا، ان نحدد ما نقصد. أولاً: الرواية الاسرائيلية غير متماسكة. وقد لامس الفيلم منظومة الأفكار والطروحات التي تعتمد عليها اسرائيل في تسويق روايتها الى العالم ووضعها على "طاولة التشريح". وما كشف عنه الفيلم من حشودات اسرائيلية مكثفة قبل العدوان بشهر تقريبًا يساهم في نفي الرواية الاسرائيلية ويعطي الضوء للفكرة النقيض القائلة بأن أهدافًا استراتيجية وسياسية وأيديولوجية كانت وراء الاحتلال.

 وهو، بهذا، استطاع ان يفكك الرواية الاسرائيلية رغم المحاولات المتكررة لإعادة انتاجها ثانيًا: المشروع الصهيوني في الجولان لم يبدأ عام (1967). ولم يبدأ بعدوان حزيران. بل يعود جذوره الى مؤتمر بازل. ومن الملاحظ ان مخرجة الفيلم، أسنت حديد، اختارت أبرز الأحداث وأعادت تركيب كل مرحلة زمنية منها، من وجهة نظر التاريخ التسجيلي الوثائقي، وأيضًا الشفوي والشعبي، لا الرسمي، وهي بهذا حددت المعنى التاريخي، من حيث نظام التحليل والتفسير، على انه نوع من العلاقة بين الوثائقي والشفوي، وهي علاقة متبادلة تكمّل الواحدة منها الأخرى. هكذا نسجل أن كل مشهد عكس واقعًا معاشًا بمختلف تمظهراته التاريخية والاجتماعية والسياسية، بطريقة مباشرة أحيانًا، وبطريقة تعتمد الترميز والإيحاء احيانًا أخرى، مما أضفى على الفيلم لغة تتمظهر بموضوعيتها، لكنها في الحقيقة غير محايدة في نصها التسجيلي!.

مخرجة الفيلم طمحت، من خلال فيلمها، الى ما هو أبعد من "تسجيل للرواية". هكذا بدت على الأقل من خلال دمج الأحداث. هذا القول يعني ان للمسألة جوانب عديدة، ليس التاريخي الا واحدًا منها. وهي ليست جانبها الأوحد. لذلك ينتقل الفيلم الى اليومي المعاش، بما يمثله من صراع إرادات، حول شكل الحياة اليومية وكيفية نسف العلاقة المفروضة مع المحتل ومؤسساته، وبالمقابل كيفية خلق العلاقة مع الوطن الأم سوريا رغم وجود الاحتلال وأدوات تعطيله القوية لهذه العلاقة المرجوة. 

إذن، يقودنا الفيلم الى "صراع الإرادات" ليس بمحض الصدفة، إنما بلغة ارادت المخرجة ان تقول بأنها تتبناها. وهي بهذا خرجت عن "المألوف". فهي حاولت، ببساطة، إبطال حيادها. أو لنقل انها ليست محايدة. وفي نفس الوقت تخشى من إظهار الإنحياز. فرسمت، لنفسها أولاً، بعض الخيوط التي قد يكون الأخذ بها مدخلاً للمقاربة بين المسافة الزمنية وتعدد المشاهد – المراحل، من مؤتمر بازل الى فرض عملية التواصل، ولوالجزئي، بين الجولانيين والوطن الأم سوريا، رغم ما تكشف في الفيلم، بأن أحد الأهداف الرئيسية أيضا من احتلال الجولان، هو اقامة "دولة درزية" في المنطقة تقوم ببناء علاقات مع اسرائيل وتكون، في الظاهر، مستقلة، لكنها في حقيقة الأمر تابعة لاسرائيل واحدى أدواتها لإختراق العالم العربي المحيط. 

ليس همي الخوض بمستويات السيطرة. أهم من هذا ان أحاول الربط بين منطق الفكر والفعل. يبدو لي ان "الدولة الدرزية" هي الأساس الضمني الذي قام عليه الاحتلال. وللفهم، لا بد من الشرح. فالمسألة ليست "رؤية استراتيجية"، ولا "دفاعًا عن الحدود". انها أكبر وأعمق. أصلاً كل مقولة "الدفاع" هي هرطقة في زمن الصواريخ. لذلك فان اتساق القول يقضي بأن تكون "فكرة الدولة" احدى الركائز لقرار الاحتلال بسبب من انتمائها الى بنية الفكر الصهيوني ورؤيته المرجوة للمنطقة بإقامة دويلات طائفية. يؤيد ما أقول نص الفيلم الذي كشف عن القرار باقامة "الدولة الدرزية" قبل واقعة الاحتلال بأعوام كثيرة. وهنا تكمن قوة الفيلم في انه اعطى اشارة واضحة خارج المألوف عن سياق التفسيرات العربية العمومية لأهداف الاحتلال والسيطرة الاسرائيلية على الجولان.

أدرك، مسبقًا، ان هذه الافتراضات لا تخلو من جانب مثير للجدال. فهي تحاول القفز خارج حدود "المفهوم ضمنًا". من هنا أميل الى القول ان الفيلم كان بمثابة "مشروع" يقود المتلقي الى مجال المعرفة الخارجة عن الوعي العام. واذا كانت هذه المقاربة للفيلم تبدو سياسية أكثر منها أي شيء آخر، فذلك ببساطة لأنني أؤمن بان الاحتلال كان هو نفسه نتاجًا لفكر سياسي أيديولوجي يتعدى رواية السيطرة على الأرض، وان كانت في المركز. وهكذا فان السيطرة على الأرض هي تعزيز للفكرة.

أخطر ما في الاحتلال ليس فقط "تهويد مرتفعات الجولان" باقامة المستوطنات وتغيير الجغرافيا. الأخطر هو محاولات "تهويد الانسان" التي أرادت – المحاولات – بالمحصلة ان تخلق انسانًا جديدًا يمتلك هوية مرتبطة بالاحتلال – بالمؤسسات الإسرائيلية، ومناهج التعليم – التدجين، وبالحكم المحلي، وبتسيير اليومي المقنّن، وفي النهاية بفرض الهوية الاسرائيلية. هذا ما بنت عليه سلطات الاحتلال: تفكيك وتبديل واعادة تركيب الهوية لأهالي الجولان. 

المزج بين الجغرافيا والهوية أدى الى تغيير في "شروط اللعبة". بدون هذا المزج "كان روّحنا" على حد قول زيّاد الرحباني. هنا، في هذا المقطع من الفيلم – معركة الهويات –  يحدث الانتقال من الهيمنة الجغرافية الى حماية الهوية نفسها. هذه نقطة تجعلنا نفهم أكثر مشاهد الانتقال الى العصيان المدني. فما جرى في الجولان، في تلك المرحلة، هو عصيان أراد التمسك بالجغرافيا، وفي الوقت نفسه ابراز الهوية والانتماء الحقيقي. هذا المزج أدى الى التراجع الاسرائيلي، وأدى، بالتالي، الى تعزيز وقائع على الأرض، بفضل تداعيات العصيان، أبقت موضوع استعادة الجولان الى سوريا موضوعًا دائمًا على بساط البحث الدولي. 

أعرف التاريخ. لكن الفيلم كان له منطق آخر يُدهش. لقد نجح في لملمة التفاصيل وانتقل بنا الى الجديد المختلف. وفي هذا سرّه. وفي هذا – ربما – نافذة لإستشراف المستقبل!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *