الأحد السّادس من الصّوم الكبير – أحد الشّعانين

مراسل حيفا نت | 13/04/2014

الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى

رئيس رعيّة الرّوم الملكيّين الكاثوليك في حيفا

 

 

 

‭{‬اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ.‭}‬ (سفر زكريّا 9:9).

عبَّرَ نبيُّ العهد القديم زكريَّا عن نشوته بهذه الكلمات متنبِّأً بالمناسبة الّتي نحتفل نحن بها اليوم. دخل المخلِّص قبل موته على الصليب ببضعة أيَّام ظافرًا إلى أورَشليم. لقد استقبله جمعٌ غفيرٌ بهتافات سعيدةٍ مُفرِشًا له أوراقَ النّخلِ. رحَّبت المئاتُ من أصوات الناس المتهلِّلة فرحاً بالمخلِّص، هاتفةً إليه: «هوشعنا مباركٌ الآتي باسم الرَّبِّ!»، يشهد لنا هذا التّرحيب الشّعبي بأنَّ المسيح قد استُقبِلَ كإلهٍ، لأنَّ كلمة «هوشعنا»، تعني «خلِّصنا»، والخلاص عملٌٌ ينحصر بالله القدير وحده.

كان الجمع الغفير المحتشد يُمجّد المسيح بسبب العجائب المصنوعة من قبله وخاصّة من أجل إقامته لعازر السّاكن في القبر لمدَّةِ أربعة أيّامٍ. زمن أجل هذا بالذات كان الشّعب المهلِّل، يهتف: ‭{‬مباركٌ الملك الآتي باسم الرَّبِّ سلامٌ في السّماء ومجدٌ في الأعالي!‭}‬ (لوقا 38:19). والّذي معناهُ: «إنَّ الملائكة تبتهج في السّماء فرحين لأجل وحدتنا الرّوحيَّة».

لم يكن هذا التّهلُّل الشّعبي ثمرًا روحيّـًا بحتًا. كانت جموع اليهود الغفيرة المحتشدة والمريضة من الكبرياء تعتقد بأنَّ آمالها السيَّاسيَّة تحقّقت في تلك اللحظة وأنَّه قد حلَّت اللحظة المنتظرة طويلاً حين سيُعلنون المسيح ملكًا عليهم.

رغم كلّ الفرح الّذي كانت تتصّف به تلك اللحظة كانت هيئة المخلِّص حزينةً، وقد امتلأت عيناهُ بالدُّموع. كان الرَّبُّ يحسّ بالوحدة في وسط الجمع الغفير والمتهلِّل وكان عالماً بأنّهُ لا أحد يفهمه، وحتَّى تلاميذه المقرَّبين إليه قد استسلموا لموجة الانفعال الجماعي.

وبالرغم من الفرح العام قال الرّبُّ حزينًا أمام أسوار المدينة المقدّسة: ‭{‬إِنّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ.‭}‬ (لوقا 42:19). 

كان المخلّص يعلم كونه فاحص القلوب بأنَّ هذا الجمع المتهلّل والمرحِّب به سينقلب ضدَّهُ بعد بضعة أيّام متّهمًا إيّاهُ بأنّهُ مخادعٌ، لأنّهُ لن يُبرّر آمالهم الأرضيّة. إنّ هؤلاء الناس ذاتهم الّذينَ يرحِّبون به بـ«هوشعنا» سيصرخون بعد أربعة أيّام فقط بغضبٍ معبّرين عن مقتهم تجاهه: ‭{‬اصلبهُ!‭}‬، لأنّ الرَّبّ لم يُرضِ آمالهم الباطلة.

يُسرع المسيحيّون بكثرةٍ إلى الهيكل في هذا اليوم الحافل ليس من أجل القدَّاس الإلهي بل من أجل أن يأخذوا لأنفسهم ورقة نخيلٍ فقط. ولكن من المفروض أن نوقف حياتنا على تفاصيل حياة يسوع المسيح الأرضيَّة، وليختبر كلُّ واحدٍ منَّا ضميره الخاص.

ما الّذي نحتفل به اليوم بالذّات؟ ما هو الحدث الإنجيليّ الّذي نقيم تذكاره اليوم وما هو موقفنا الخاص تجاهه؟ ألا تظهر لنا في نهاية المطاف الحقيقة لدى كلّ هذه الصّبغة الاحتفاليَّة للقدَّاس الإلهي الأرثوذكسيّ، ولدى كلّ هذا الجمع الغفير من الشّعب الّذي يكاد يتذكّر الله مرّة أو مرَّتين في السّنة، بأنَّ البشريّةَ لم تتغيّر كثيرًا منذ ذلك الزمان الإنجيليّ؟

ويُموّهُ القدّيس ثاوفانُس السّجين: «كان المنظر حينئذٍ احتفاليَّاً أيضًا، ولكنّ الرّبّ كان ينظر إلى حالة الجمع الروحيّة غير المرئيّة، وقد وجدها مستحقَّةً للرثاء. وكذلك يترك احتفالنا الكنسي الانطباع الخدّاع على أنَّه احتفالٌ كنسيٌّ، ولكن هل هذا هو الواقع؟».

لِمَاذا إذًا ذلك الجمع الأورشليمي المؤلَّه للمسيح آنذاك قد خانه بهذه السّرعة؟ يكمن السّبب الرئيسي لخيبة أمل الشّعب في أنَّهُ كان يُنتظر من المخلّص شيئًا لم يكن بإمكانه إعطاءه لهم. كان الشّعب ينتظر من المسيح أن يحقّق آماله وأمنياته الأرضيّة، كان ينتظر منه أن يرضيَ كبرياءهم، وعندما رأى الجمع بأنّ الرّبّ لا ينصت لطلباتهم، حينئذٍ غضبَ الجمع الغفير عليه بشدّةٍ ومقته بالإجماع.

هكذا بالذات تكون الحالة وفي الحياة الروحيّة. يضع في كثيرٍ من الأحيان المسيحيّون الّذين ما زالوا في بداية حياتهم الروحيّة أهدافًا خاصّةً بهم، دون أن يتعبوا أنفسهم في معرفة ما الّذي ينتظره ويريدُهُ الله منهم. ليسوا قلّةً أولئك الناس الّذين يوجّهون نظرهم نحو الدين، ظانّينَ بأنّ توفيق أمورهم الماديّة ستتحلى بالرّعاية الإلهيّة وأنَّ أعمالهم العلمانيَّة ستصبح أسهل. كذلك يوجد أناس آخرون الّذين يرون في الدّين طريقةً لإيجاد مهنتهم الخاصّة أو فرصةً لتسوية أمور حياتهم الخاصّة.

وأُناسٌ آخرونَ يحلمون بالسُّلطة والمجد والإكرام والتّأثير بصفتهم أعضاءً فاعلين في الكنيسة. وأمَّا آخرين الّذين هم ذوو مزاجٍ خرافيّ، فيتوّقعون أن يتوّصلوا إلى إعطاء الثّمار الروحيّة الّتي هي القداسة والصّلاة القادرة على كلّ شيءٍ، وأخيرًا وليس آخرًا، صنع العجائب بشكلٍٍٍٍٍٍٍ فوريّ.

يعطي الإنسان في كلّ تلك الحالات، وفي الحالات المشابهة، لها للّه دور الخادم، الّذي لا يليق بعظمته مريدًا، منه أن ينفّذ له رغباته الأنانيَّة. يمكننا أن نقول بأنَّ رغباتٍ مماثلةً لهذه الرغبات لا يمكن أن تؤدّيَ إلى نتائج مخلّصةً للنّفس وحقيقيَّة. بل علاوةً على ذلك يمكن أن تُسبّب خيبة الأمل عن بعض الناس عداوةً تجاه الله وليس مستبعدًا أن تؤدّي بالإنسان إلى هلاك نفسه.

توجد أيضًا فئةٌ أخرى من المسيحيّين الّذين يتميََّزون عن البقيَّة بغيرتهم نحو الحياة الكنسيَّة. إنَّ هذا يفرض عليهم صلاحًا معيّنًا أي حياةً بحسب وصايا الإنجيل. ولكن للأسف الشّديد فإنّهُ يُلاحظ في هذه الفئة الفعّالة بالذّات غيرةً خارجيّةً ولا-مبالاة باطنيّة تجاه الوصايا الإنجيليَّة. وعلاوةً على ذلك يا له من أمر مخيفٍ أن نعلم بأنَّ أكثريّة المسيحيّين الغيّورين لم يقرؤوا الإنجيل المقدَّس، ولو لمرّة واحدة في حياتهم. إنّهم يضلِّلون ويخدعون أنفُسَهم بأنّ أقوالهم المعسولة ستضمن لهم الحياة الأبديّة.

الله ليس بحاجةٍ إلى احتفالنا الكنسيّ. ولكنّه بمحبّته للبشر قد سمح بأعيادنا وقبل خدم قداديسنا الإلهيّة منتظرًا من كلّ واحدٍ منّا أن يُحاسب نفسه باستمرار، ويكتشف إلى أيّ مدى هو تابعٌ للمسيح، وأيّ مدى قد استوعب تعليم الإنجيل، وإلى أيِّ حد أصبح الإنجيل مبدأنا التّوجيهي في الحياة. هذه هي المحاسبة الّتي تتمّ في سرّ التّوبة أو الاعتراف. إنّ فحص نفسنا المنظَّم والتّوبة المستمرَّة عن الخطايا المرتكبة، ورغبتنا الحارَّة بالكمال الشّخصي، بالإضافة إلى الإظهار الفعلي للمحبّة الإنجيليّة تجاه قريبنا هي إشاراتٌ لمسيحيّتنا الحقيقيّة.

أمَّا بالنّسبة لمحبّتنا للّه، فإنّه لا حاجة لها أن تكون ظاهرةً. إذ إنّها تُقاس بمقدار تكرار صلواتنا وحديثنا وشركتنا مع الله. هل بإمكاننا أن نقول بأنّنا نحبّ أحدًا إذا لم نجلس ونتحدّث معه؟ هل يمكننا أن نقنع النّاس حولنا بأنّنا أناسٌ ذوو حياةٍ كنسيّة وأنّنا نؤمن باللّه من أعماق قلوبنا إذا كنّا لا نصلّي للّه فحسب بل وحتَّى لا نعرف ناموسه؟ وهكذا فلنفتكر في هذا اليوم الحافل إذا كان المسيح لا يحزن علينا، نحن أيضًا متأمّلاً في حالتنا الرّوحيّة بالرّغم من أنّنا حاضرون في قدّاسه الإلهي، ونظهر انطباعًا بأنّنا في بهجة روحيّة. دعونا نصغي إلى ضمائرنا تُرى هل الرّبّ يقول لنا نفس تلك الأقوال: «إنّكم لو علمتم أنتم أيضًا حتّى في يومكم هذا ما هو لسلامكم!» ولخلاص نفوسكم.

فلنفتكر بجديّة في هذا اليوم المقدّس والحافل، وليخف كلّ واحدٍ منّا كيلا ينطبق عليه قول المخلّص: ‭{‬يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النّاسِ.‭}‬ (متَّى 8:15-9).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *