اسكندر عمل
جغرافيّة الوطن شوِّهت بعد النّكبة ومُزِّقت إلى أشلاء، وبقينا نحن العرب الفلسطينيّين اصحاب الأرض صامدين، ننزف تحت سلطة الحكم العسكري الغاشم.
لقد خُطِّط لنا أن نذوب لغة وثقافة وحضارة وتاريخاً، فلم توضع مناهج تدريس لمدارسنا كما لم تصدر كتب تدريس. وعمل جهاز المخابرات والحكم العسكري على فرض أعوانه ومهادنيه مدراء ومفتّشين على مدارسنا. أمّا المعلّمون الشّرفاء ومعظمهم من الشّيوعيّين ، فقد تحدّوا السّلطة والحكم العسكري، ووقفوا مواقف ىضاليّة دفاعاً عن حقوق شعبنا ، كانت النّتيجة فصلهم من جهاز التّعليم أو نفيهم بعيداً عن قراهم ومدنهم.منهم على سبيل المثال لا الحصر نمر مرقس والياس نجيب دلّه وعيسى لوباني وأحمد الخطيب وفريد غانم وعبد المنّان شبيطه وابراهيم بولس.رغم سياسة القهر والتّنكيل نجح المعلمون الدّموقراطيّون في التّمثيل في نقابة المعلّمين، ومن موقعهم هذا ناضلوا ، ففي رسالة أرسلها نمر مرقس ممثل كتلة المعلّمين الديموقراطيّين بتاريخ 3.10.1957 ، لسكرتير نقابة المعلّمين بعد انفجار قنبلة من مخلّفات الجيش في مدرسة صندلة، والّذي راح ضحيّته 15 طالباً يقول:" لا شكّ أنّ أنباء الفاجعة لأليمة الّتي حلّت بتلاميذ مدرسة صندلة……قد وصلتكم، انّنا نعتقد أنّ هذا الحادث المؤلم، لم يكن ليحدث لولا اهمال المسؤولين لواجبهم في تنظيف المناطق المأهولة من المتفجّرات، وخاصّة القريبة من المدارس، كما علمنا عثر ضحايا القنبلة عليها في الطّريق العام وبالقرب من مدرستهم، وحادث صندلة ليس الأول من نوعه، فقد سبقه حادث انفجار قنبلة في أم الفحم.
…………"
نمر مرقس ورفاقه اُبعِدوا عن جهاز التّربية والتّعليم، كي ينجح العملاء في تمرير مخطّطات السّلطة . كانت المدارس الابتدائيّة تُشلُ شهراً كاملاً قبل "عيد الاستقلال" للتّحضير لهذه المناسبة. لكن رغم كل ذلك لم تنجح السّلطة وأعوانها في تمرير المؤامرة، فقام معلّمون في مدارسنا ، وخاصّة الثّانويّة، بتدريس الّلغة العربيّة والتّاريخ دون كتب،وبعد فترة استخدموا طريقة النّسخ على أوراق الشّمع" الستانسل"، وتوزيعها على الطّلّاب، وبقيت الّلغة سلاحنا في وجه التّهويد.
في العام 1973 صدرت كتب تدريس التّاريخ للمدارس العربيّة، والّتي لم تكن سوى ترجمة لكتب التّدريس المقرّرة للمدارس العبريّة الّتي اعتمدت طبعاً على مصادر صهيونيّة فقط. تلك الكتب لم تخصّص اكثر من 20% لتاريخ العرب والشّرق الأوسط الحديث. ولم يكن فيها أي ذكر لفلسطين والشّعب الفلسطيني، بينما خُصِّص 40% من المواد لتاريخ اليهود والصّهيونيّة و40% للتّاريخ العام.
معظم المعلّمين في المدارس العربيّة لم يستعملوا هذه الكتب واستعملنا دوسيهات مكرّرة على الستانسل ألّفها في منطقة الشّمال مثلاً الاستاذ بطرس دلّة وهو شخصيّة وطنيّة معروفة واستاذي في المرحلة الثّانويّة، أو لقّن المعلّمون الطّلّاب من مصادر وكتب وطنيّة.
أمّا في الّلغة العربيّة لم يكن الوضع أفضل، فحتّى العام 1982 لم تحتوِ كتب الأدب العربي الرّسميّة المخصصة للمدارس العربيّة أي نص لأديب فلسطيني في الدّاخل أو في مخيّمات الّلجوء الفلسطيني، ولا لأي أديب عربي تقدّمي.وكان التّركيز على الأدب العربي القديم.
لم يكن كل هذا صدفة ، من المعروف أنّ تاريخ كل شعب ولغته هما الرّكنان الأساسيّان في بلورة شعوره القومي، وقد حاولت السّلطات عن طريق هذه المناهج أقصاء الطّالب العربي عن كل ما يمكن أن يجعله فخوراً بقوميّته وشعبه.
في العام 1982 وضعت مناهج جديدة للمدارس العربيّة في التّاريخ والّلغة العربيّة بعد نضال طويل، وهذا لا يعني وضع كتب تدريس، فقد صدرت كتب الأدب العربي في العام 1985 ، وفي التّاريخ صدرت كتب بمبادرات شخصيّة.
أعطى المنهاج الجديد 50% من المواد الإلزاميّة لتاريخ العرب والشّرق الأوسط الحديث، و25% لتاريخ اليهود الحديث والصّهيونيّة و25% لتاريخ اوروبا في القرن العشرين، أمّا تاريخ فلسطين فيدرّس ضمن كتاب " تاريخ الشّعب الإسرائيلي الحديث"، لأنّه لم يكن هناك كتاب تدريس يشمل تاريخ فلسطين حتّى العام 2005 .
الكتاب الذي اقر لتدريس تاريخ الشعب الاسرائيلي اعتمد على مصادر صهيونية , وسأتطرق لهذا الكتاب بتوسع أكثر لابراز التشويه الذي احدثه .
قبل أكثر من خمسة و عشرين عاما وبعد اسابيع قضيتها في تدقيق امتحانات "البجروت" أي امتحانات انهاء المرحلة الثانوية , عدت اغلي غضبا , فطلابنا العرب الفلسطينيون يكتبون عن احداث ثورة 1936-1939 باعتبارها اضطرابات, وعن يافا أنها صفراء , وأن العرب يعتدون على اليهود العزّل, فكتبت مقالا في جريدة الاتحاد الحيفاوية تحت عنوان "انصاف الحقائق وغسل الدماغ" بدأته ب : يافا عروس البحر, كانت شاحبة صفراء في دفتر ممتحن عربي فلسطيني, ما كان يسمح لقلمه ان يكتب عنها ما كتب لو أنّ كتابا اخر للتدريس وقع بين يديه . "تل ابيب مدينة بناها ابناء الهجرة الثانية وسموها ربيعا كنقيض ليافا الصفراء" . لو كان هذا النص في دفتر ممتحن صهيوني لما استغربت, ففلسطين وليس يافا فقط حسب الفكر الصهيوني, كانت ارضا بلا شعب حتى جاءها شعب بلا ارض. وفتحت سفر التاريخ فوجدت مصدر الهام هذا الطالب او هذه الطالبة "وفي عام 1909 انشئ بجوار يافا على رمال البحر الحي الّذي اريد له ان يكون حيا حديثا محاطا بالحدائق بعكس احياء يافا القديمة وأزقتها وبعد سنة من تأسيسها أُطلِق عليها اسم تل-أبيب". الصّورة الّتي انطبعت ليافا في ذاكرة الطالب او الطالبة كانت كئيبة, وهي المدينة التي يعتز بها كل فلسطيني, فقد احتضنت مؤتمرات فلسطين وكانت مركزا لصحافتها وأدبائها,وتناسى مؤلف الكتاب بيارات يافا الخضراء التي كان رحيقها يعبق في كل الدنيا .
في نص اخر "وقفت السلطات العسكرية البريطانية التي حكمت البلاد بعد احتلالها موقفا معاديا للصهيونية ولم تمتثل لأوامر لندن". هل هذه حقيقة تاريخية ام ادعاء صهيوني ؟ واذا كان الاخير فيجب أن يذكر ذلك قبل النص. الطالب الثانوي عندما يقرأ نصا كهذا يعتقد ان هذه هي الحقيقة التاريخية المطلقة ومن هنا يستنتج أن بريطانيا كانت الى جانب العرب.
"بعد المسيرة التقليدية مسيرة النبي موسى حدثت اضطرابات وصدامات كانت نتيجتها ستة قتلى وحوالي 200 جريح من اليهود وبعض القتلى والجرحى من العرب". أن هذا النص يدل على لا مبالاة بالنسبة للقتلى والجرحى العرب. ومن الجدير بالذكر ان الكتاب يطلق على انتفاضات ومظاهرات العرب كما في النص السابق اضطرابات واعمال عنف أو شغب.
"إنّ الاضطرابات التي نشبت خلال عامي 1920-1921 وموقف السلطات اللامبالي منها ولّد لدى المسئولين في المؤسسات اليهودية في البلاد وداخل المنظمة الصهيونية فكرة انشاء منظمة تأخذ على عاتقها مسؤولية الدفاع الخ" هذا النص يتهم العرب بالعدوانية ويقلب الحقائق التي يعترف بها جابوتنسكي في كتاب شختمان "متمرد وسياسي" : "قبل ايام من العيد الاسلامي النبي موسى, قامت فرقة الدفاع عن النفس بمناورات عسكرية منظمة على سفح جبل الزيتون, أمام مركز الحكومة البريطانية, واستعرض الضباط الانجليز حركتنا بالناظور, ولم يكن الموقف الرسمي تجاه منظمة الدفاع غير سلبي فقط بل كان يبدو ابويا الى حد".
وفي موقع اخر في الكتاب جاء "ان موقف تشانسلور شجع العرب الفلسطينيين على القيام بسلسلة من الاضطرابات التي وقعت عام 1929 وقتل نتيجتها 133 يهوديا وجرح 339 اخرون". هنا نرى تجاهلا لعدد القتلى والجرحى العرب الذي وصل الى 116 قتيلا و332 جريحا. ويضيف "وقد وقفت السلطات موقفا متساهلا من هذه الاضطرابات ولولا اجراءات منظمة الهجاناة لكان عدد القتلى اكثر بكثير". وكأن المؤلف يتفق مع تصريحات تشانسلور الذي عاد من لندن " عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الاسى ان البلاد في حالة اضطراب فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة, وقد راعني ما علمته من الاعمال الفظيعة الّتي اقترفتها جماعات من الأشرار سفّاكي الدّماء، عديمي الرّأفة وأعمال القتل الوحشيّة الّتي ارتُكِبت في حقّ أفراد من الشّعب اليهودي خلوا من وسائل الدّفاع بقطع النّظر عن أعمارهم وعمّا إذا كانوا ذكوراً أم إناثاً، والّتي صحبتها أعمال همجيّة لا توصف وحرق المنازل في القرى والمدن ونهب وتدمير الأملاك".
إنّ عرض وجهات النّظر الصّهيونيّة وكأنّها حقائق تاريخيّة تلعب دوراً هامّاً في غسل دماغ الطّالب العربيّ الّذي يعتمد أوّلاً على الكتاب الدّراسي الّذي بين يديه وعلى المعلومات الّتي يضيفها المعلّم، إن سلّم المعلّم بمعطيات الكتاب دون مناقشتها أو عرض أراء معارضة لها كي يحكم الطّالب على الحقيقة بنفسه، تكون المصيبة قد اكتملت ووقع الطّلب في ضياع معتبراً ما كُتِب حقيقة لا جدال عليها.
أنّ عدم وجود كتب تدريس لتاريخ الشّرق الأوسط الحديث لا يعني أنّنا تركنا السّاحة لوجهة النّظر الصّهيونيّة، فقد قام عدد من المعلّمين العرب بإصار كتب تدريس تعتمد على مصادر فلسطينيّة. قد أصدرت كتاب " صفحات من التّاريخ" عام 1985 ، اخترت فيه مواضيع هامّة تنمّي في الطّالب الشّعور بالانتماء الوطني والقومي مثل" المقاومة الشّعبيّة لحملة نابليون على مصر"، و"ثورة الجزائر العربيّة"، و"نجيب عازوري" ، و"المؤتمر العربي الأوّل1913 "وتاريخ فلسطين تحت الانتداب البريطاني"و"ثورة 23 يوليو في مصر" وغيره. كذلك ألّفت عام 1990 كتاب" دراسات في مؤلّفات د. إميل توما"، الّذي احتوى تحليل أربعة من مؤلفّات إميل توما،" جذور القضيّة الفلسطينيّة" و"ستون عاماً على الحركة القوميّة العربيّة الفلسطينيّة" و"السّياسة الأمريكيّة في الشّرق الأوسط" و"الحركات الاجتماعيّة في الإسلام"، وقد وُزِّع الكتاب على طلّاب المدارس العربيّة كرد على التّشويه الّذي أحدثته كتب التّدريس الرّسميّة.
من ناحية أخرى قامت لجنة لمتابعة قضايا التّعليم العربي قبل عشرين عاماً، والّتي وضعت نصب أعينها فضح سياسة الحكومة وسعيها الاستراتيجي التّاريخي إلي السّيطرة المطلقة على جهاز التّربية والتّعليم العربي، بهدف طمس هويّة طلاّبنا وتشويه انتمائهم القومي والثّقافي لشعبهم الفلسطيني العربي وخلق مفهوم بديل هو" عربي اسرائيلي" كمفهوم هجين مشوّه وطنيّاً وحضاريّاً.
لقد قامت لجنة متابعة قضايا التّعليم العربي بوضع مشروع "التّعليم البديل" كمشروع للتّربيّة الوطنيّة والهويّة، وهو برنامج لا منهجي تحوّل مؤخّراً الى وحدة تعليميّة، هدفها إحياء الذّاكرة الجماعيّة في المحطّات المركزيّة من حياة الشّعب العربي الفلسطيني منذ النّكبة، مروراً بمجزرة كفر قاسم ويوم الأرض ويوم القدس والأقصى وتذويت مفهوم النّكبة الّذي قامت ضجّة كبيرة حول ادخاله كتب التّاريخ، ولكنّه برز وتجذّر حتى في وسائل الإعلام الاسرائيليّة رغم أنفهم.
قبل ثماني سنوات فقط صدر كتاب تاريخ الشّرق الأوسط الحديث في جزأين وفيه فصل عن فلسطين،غير أنّ هذا الفصل وضِع في نهاية الجزء الثّاني ومعظم المعلّمين لا يصلون إلى هذا الفصل لطول المادّة الّتي قبله وضغط الوقت، وإن وصلوا يمرّون على المادّة مرّ الكرام. إضافة إلى ذلك كان يحق للطالب في امتحانات البجروت أن يختار سؤالاً واحداً من ثلاثة أسئلة، وعندما أُضيف فصل فلسطين زيدَ سؤال رابع وأصبحت امكانيّة الاختيار واحد من أربعة وهذا الأمر قلّل من إمكانيّات اختيار الطّالب لسؤال فلسطين، وقد ثبت لي ذلك على ارض الواقع، فمن بين أكثر من ألف دفتر مُمتَحن كنت أدقّقها كل سنة، كان عدد الطّلّاب الّذين يجيبون على سؤال فلسطين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكانت اجاباتهم سطحيّة وضعيفة.
أنّ مادة هذا الفصل تعالج القضيّة الفلسطينيّة حتى النّكبة ولا يوجد في المنهاج أي تطرّق للموضوع بعد هذا التّاريخ.
لم تتوقّف سياسة محاولات صهينة الطّالب العربي، فقبل سنتين ودون التّصريح بشكل استفزازي ودون المس بحصّة تاريخ العرب والشّرق الأوسط الحديث الّتي تشكّل الوحدة الالزاميّة الأولى، قام قسم المناهج بتغيير مبنى الوحدة الثّانية الالزاميّة والّتي كانت مكوّنة من تاريخ الشّعب الاسرائيلي الحديث وتاريخ اوروبا في القرن العشرين مناصفة، إلى وحدة مكوّنة من ثلاثة أقسام، ثلث لتاريخ الشّعب الاسرائيلي الحديث وثلث لتاريخ الكارثة اليهوديّة وأُرِغم المعلمون العرب على الاشتراك بدورة استكمال في هذا الموضوع، وثلث فقط لتاريخ اوروبا في القرن العشرين. أي أنّ على الطّالب أن يدرس ويمتحن في تاريخ الصّهيونيّة والكارثة أضعاف ما يتعلمه عن تاريخ شعبنا الفلسطيني، وأن يقلّل من ثقافته العالميّة بعد هذا التّقليص في حصّة التّاريخ العام لصالح تاريخ الكارثة.
(نص المداخلة الّتي ألقيت في مؤتمر التّربية والتّعليم في رام الّله في 2014 .3 .23