كلُّنا.. بيت النّعمة

مراسل حيفا نت | 15/12/2015

 

ابن بيت النّعمة

الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى

طالعتُ في الآونة الأخيرة خبرًا مَفاده نيّة سلطة تأهيل السُّجون عدم تجديد الاتِّفاقيّة مع مؤسِّسة "بيت النِّعمة"، فلم أتفاجأ البتّة! فهكذا فعلت قبلًا هذه الحكومة اليمينيّة بمدارسنا الأهليّة المسيحيّة، الأمر الّذي استنفر الجمهور العربيّ عامّة والمسيحيّ خاصّة لمواجهة هذا التعدِّي السَّافِر.

فبيت النِّعمة الذي أسّسه المرحوم كميل شحادة في العام 1982 هو بيتٌ جامعٌ للكلّ بغضِّ النَّظر عن دينه أو عرقه أو لونه، إنّه – كما أرغب دومًا بتسميّته – "بيت السَّامري الرّحيم". بيتٌ قائمٌ على المحبّة والرّحمة والرّأفة والاحتضان للإنسان المتألِّم والمعذَّب والمنبوذ والمتروك.. إنّه "بيت الدِّفئ". هذا ما فعله معلِّمنا يسوع المسيح حين التقى بالأفراد المهمَّشين والهامشيِّين والمنبوذين، أعاد لهم "برحمته" إنسانيّتهم المشوَّهة والّتي لم يُشوِّهوها هم فحسب، بل وساهم المجتمع والبيئة والعائلة أيضًا في تشويهها وتهمشيها.

إلى أن جاء إنسانٌ آمنَ بمسيحه الّذي آمن، أوّلًا وقبل كلّ شيء، بالإنسان كإنسان. إنّه كميل شحادة ابن طائفة الرّوم الملكيّين الكاثوليك في حيفا ومعه زوجته السيّدة أغنس شحادة أطال الله بعمرها، واليوم يساعدها في إدارة البيت أبناؤها الطيّبون وطاقم من العاملين المضحِّين والمحبِّين. لقد آمنّا حين فكَّرا بتأسيس هذا البيت، آمنّا بأنّهما على مثال السّيّد المسيح قادران على إنقاذ ما تبقَّى من إنسانيّة الإنسان، ووضعا اتّكالهما على الرّبّ القدير، فمدَّهما بنجاحٍ تلوَ نجاح، وبإنجازٍ يلي إنجاز.. حتّى أصبح "بيت النِّعمة" بيت الجميع. علَّمنا "بيت النِّعمة" كيف نَهَبُ ذواتنا بلا حدودٍ ولا شروط، كيف نُضحِّي في سبيل الآخرين بمجّانيّةٍ مُطلقة، كيف نُحِبّ الآخر حبّنا لأنفسنا. هذه هي باختصارٍ شديدٍ روحانيّة بيت النِّعمة "بيت السَّامري الرّحيم".

وأرى أنّ قداسة البابا فرنسيس الأوّل الّذي أعلن الثّامن من شهر كانون الأوّل موعدًا لافتتاح "سنة الرَّحمة" أنّه يجدر بنا ككنيسةٍ وأبرشيّة ورعيّة ومؤسَّساتٍ مسيحيّة أن نأخذ مثالًا "بيت النِّعمة" الّذي يعيش موقف الرَّحمة تجاه الآخرين ليس بالقول فقط، بل بالعمل والحقّ، انطلاقًا من قول السّيّد المسيح: "طوبى للرّحماء فإنَّهم يُرحمون". وهنا أودّ أن أسرد لكم مقطعًا من "قصّة البؤساء" للكاتب الفرنسيّ النبيل، فيكتور هيجو، وتتحدَّث عن رجل اسمه جان فالجان، سرق خبزًا ليسدّ رمق ابنة اخته الّتي كانت على وشك الموت. اكتُشف أمره، فسجن مدّة ثماني عشرة سنة. ثمّ أفرج عنه ليجد نفسه بائسًا محكومًا عليه بالعار والذلّ أينما اتّجه. لم يعامله أحدٌ معاملةً لطيفةً وعادلةً ورحيمة، سوى كاهن تقيّ أدخله إلى بيته وأحسن معاملته. كانت سنوات السّجن قد ملأته بما تملّكه في تلك اللّيلة من قسوة وحقد. فردّ الجميل للكاهن بأن سرق من بيته أوانٍ فضّية، وهرب. أمسكه رجال الشّرطة وأوثقوه وجرّوه إلى بيت الكاهن ليعيد ما سرقه، ثمّ يرجعونه إلى السّجن. كانت المفاجأة مُذهلة حين قال الكاهن للشّرطة بأنَّه من أهدى الأواني الفضّية لفالجان الّذي نسي أن يأخذ معه الشّمعدان الفضّي أيضًا.

عمل الرّحمة هذا لم ينقذه من السّجن وحسب، بل غيّره وقاده ليعيش حياة جديدة كلّها رقّة ورأفة. قليلة هي الكتب الّتي تصف ما تفعله الرّحمة في حياة النّاس كما تفعل قصّة البؤساء. إنّ التّحدّي الّذي يواجه المسيحيّين هو أن يتعهّدوا القيام بخدمة بسيطة، يقومون بها بمحبّة المسيح. هذا ما تقوم به مؤسِّسة "بيت النِّعمة".

بعد كلّ ما تقدَّم أقول: أتستحقّ مؤسَّسةٌ عريقةٌ كمؤسَّسة بيت النِّعمة هذا التّعامل المُجحِف من قِبَل الحكومة وسلطة تأهيل السّجون؟ أتستحقّ هذه المؤسَّسة العريقة التي لم تُميِّز يومًا بين يهوديٍّ وعربيٍّ؟ ألم تكن هذه المؤسَّسة علامةً على رحمة الله الرَّحمن الرَّحيم في عالمٍ فقدَ الرّحمة وتبنّى مشروع القويّ يقضي على الضّعيف والغنيّ على الفقير.. لا وألف لا! مؤسّسةٌ مثل "بيت النّعمة" يجب أن تستمرّ وتدوم رسالتها لأنّها رسالةٌ مثمرةٌ وهي رسالةٌ إنسانيّةٌ بامتياز.

حبّذا لو كنتُ قريبًا منكم في هذا الوقت العصيب الّذي تمرُّون به، ولكن، ثقوا فإنّي قريبٌ منكم، قريبٌ من معاناتكم، وقريبٌ من إحساسكم بالغُبن وجحود الجميل… أقول لكم ما قاله يومًا السّيّد المسيح لتلاميذه المضطّربين الخائفين: "ثقوا، لا تخافوا، إنّي قد غلبتُ العالم". وأدعو بالمقابل جميع المؤثِّرين في مجتمعنا العربيّ إلى الوقوف بجانب هذه المؤسِّسة ودعمها ومسانَدتها حتّى لو كلّف الأمر إقامة احتجاجاتٍ شعبيّة أمام مراكز القرار، لئلّا تكون مؤسَّساتنا عُرضةً لسياسات التّمييز العنصريّ الهدَّامة.

أحبّتي: أغنس، جمال، برنارد، توماس، استيفان، الياس، إيلي، منال، غيداء، واعذروني إن كنتُ قد نسيت أحدًا من طاقم العاملين، لا تخافوا، فأنتم لستم لوحدكم في مواجهة هذه السّياسة العنصريّة، فكلُّنا "بيت النِّعمة"، وسنحافظ عليه بكلّ ما أوتينا من قوّة لكي يبقى هذا البيت منارةً مُشعَّةً وأَكَمَةً نيِّرةً في سماء الإنسانيّة جمعاء.

لكم منّي كلّ المحبّة والتّقدير

 

[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/27914312320151512100515"]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *