سلمان ناطور- صورة أجمل للمدينة

مراسل حيفا نت | 16/05/2009

 

في منتصف شهر أيار من كل عام تكون لنا وقفة تذكر للنكبة فنختزل مائة عام في يوم واحد يغلب عليه البكاء والحنين، وهذا فعل انساني جدا، لكن في هذا اليوم يجدر بنا  ألا نفتح الجراح الدامية ونحكي عن الموت والرحيل فقط، بل أن نعيد فلسطين الى الحياة أو نعيد الحياة الى فلسطين كما هي في الذاكرة، ذاكرة الفرد والذاكرة الجماعية.

عندما نتذكر ونذكر تلك الأيام التي سبقت الترحيل فاننا نرسم لأنفسنا وطنا عامرا بالحياة، خلافا لما روج له من احتل البلاد أن هذه الأرض كانت قاحلة وتغطيها المستنقعات والملاريا فجاء "منقذوها" مع الماكنة وشجرة الكينا وعزيمة أوروبية عالية تفتّت الصخر..ففتتّت الانسان أولا.

في رحلتي مع الذاكرة الفلسطينية ومئات اللقاءات مع أبناء الجيل الذي عاصر تلك الفترة كان يحلو لهم أن يتحدثوا عن حياة المدينة الفلسطينية وعن ازدهارها الثقافي.

 قال لي شيخ مسن وكانت يداه ترتعدان انفعالا: "انا حضرت حفلة أم كلثوم في حيفا، أنا شفتها بعيني وقربت منها وسلمت عليها..بايدي هاي..والله العظيم سلمت عليها."

اعتقدت في البداية أن هذا الشيخ يهذي أو يحكي "كمن ماتت اجياله" فعدت الى المصادر المكتوبة واذا بحيفا محطة هامة في سيرة أم كلثوم.

 كتب الكاتب سليم نسيب في مؤلفه "أم كلثوم":

 "في حيفا تبرعت بريع احدى حفلاتها للنضال ضد الاحتلال البريطاني والهجرة اليهودية الى فلسطين فقد استقبلت بحفاوة كبيرة ومنحوها لقبا جديدا: كوكب الشرق." (الترجمة العبرية ص 70).

 حيفا منحت أم كلثوم اللقب الذي رافق اسمها وكأن هذا جاء ليؤكد ما كان قاله أحد كبار الكتاب المصريين الذي زار حيفا في سنوات الأربعين وهو ابراهيم عبد القادر المازني اذ قال بما معناه: لن يعترف بك الوسط الثقافي أديبا عربيا الا اذا منحت اللقب في فلسطين، وقد سمعت ذلك من الشاعر أبي سلمى عندما التقينا في مدينة صوفيا عام 1980، وقرأت في مذكرات أبي سلمى ما كتبه عن اللقاءات الثقافية التي كانت تتم في حيفا ويافا والقدس.

 يقول أبوسلمى: إن فلسطين  الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي كانت قبلة رجال الأدب والفكر من لبنان حيث زارها مراراً أمين الريحاني والأخطل الصغير والشيخ مصطفى الغلاييني وعمر فاخوري وأمين نخلة وتوفيق عواد وعمر الزعني، ومن دمشق خير الدين الزركلي وشفيق جبري وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل وخليل مردم. ومن العراق معروف الرصافي والجواهري ومن مصر ابراهيم المازني وعباس محمود العقاد" هؤلاء هم من أهم وأبرز الكتاب العرب في منتصف القرن العشرين يضاف اليهم الكتاب والشعراء الفلسطينيون مثل عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) نفسه الذي يعتبر الشاعر القومي الفلسطيني وابراهيم طوقان ووديع البستاني ومي زيادة وغيرهم.

أم كلثوم مع أعضاء الرابطة في حيفا

 

  كلهم مروا من هنا: أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الوهاب و يوسف وهبي وجورج أبيض ونجيب الريحاني وأمينة رزق وخلقوا حالة مسرحية قلما عرفتها مدينة عربية أخرى اذ اشتد التنافس بين النوادي الثقافية في المدينة  للنهوض بحركة مسرحية بين "النادي الاسلامي"  و"النادي العربي" وفرقة كشاف حيفا وفرقة الكرمل، وكانت نتيحة التنافس انتاج ثماني مسرحيات في ثلاثة شهور تنوعت بين ما أبدعه كتاب حيفا مثل مسرحية "قاتل أخيه" لجميل البحيري وبين موليير وشكسبير.

عندما اختار شاعر فلسطين عبد الكريم الكرمي مدينة حيفا ليقيم فيها، شدّه اليها ليس فقط بحرها وجبلها بل حياتها الثقافية، واذا كانت حيفا منحت أهم لقب لأم كلثوم فهي لم تحسم "صراع الألقاب" بينها وبين يافا، فمن هي عروس البحر؟ حيفا أم يافا؟

كان تنافس حضاري بين المدينتين ولكن يافا أخذت مركز الصدارة الثقافية ليس فقط لأن عدد سكانها العرب كان أكثر من حيفا (يافا 120 ألفا عشية 1948 وحيفا 70 ألفا) بل لأن يافا كانت مسنودة باللد والرملة وقريبة من القدس وفيها تجمعت برجوازية فلسطينية ثرية وقد صدر في يافا في ذلك الوقت حوالي ثلاثين مجلة وجريدة ودورية عربية وانجليزية وأهم الجرائد اليومية مثل الدستور والدفاع وفلسطين وفي حيفا لم تصدر مثل هذه الصحف رغم أن حركة نشر قوية كانت في حيفا اذ صدرت صحف اسبوعية وشهرية مثل الكرمل لنجيب نصار وصحافة هزلية وساخرة مثل جراب الكردي والمهماز وفي عام 1944 بدأت تصدر جريدة الاتحاد.

في هذه المدن كانت حياة وكان نتاج ثقافي وحضاري لم ينسجم وحسب في الثقافة العربية الأشمل بل كان رياديا لأنه كان متجذرا في التاريخ من جهة ومنفتحا على الثقافة العالمية المعاصرة من جهة أخرى: في حيفا ويافا والقدس ترجمت روايات فيكتور هوجو واميل زولا وليو تولستوي وأنطون تشيخوف وغيرهم لأول مرة الى اللغة العربية.

كيف تعيد أيام الثقافة وأعوام الثقافة الى هذه المدن نكهتها وروحها الابداعية في عصر الصراعات الفئوية والطائفية والاحتلال؟

كيف ترسم المدن صورة أجمل لتاريخها وحاضرها؟

كيف تصبح الثقافة فعل مقاومة ونهوض في المدينة والريف؟

هذه أسئلة الثقافة الفلسطينية الأهم ، اليوم ، في العام الذي توجت فيه القدس عاصمة للثقافة العربية ويصدر وزير يتقن العربية المخابراتية أمرا يمنع القدس من الاحتفال بعرسها، ويمنع الناصرة ويافا وحيفا..

بعد ستين عاما سنصبح نحن حنين الأجيال القادمة، فهل نترك لهم ما يكون مدعاة لحنين جارف؟

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *