أين نحن من الأضحى؟!

مراسل حيفا نت | 24/09/2015

نايف خوري

 

ما أعظم!

ما أعظمك أيّها الرّسول، وما أعلى شأنك! فقد وضع الله الكتاب الّذي نتبيّن منه ونهتدي به، ويظهر لنا ما هو صالح ونافع لعبادة الله سبحانه وما يستحقّ أن نتجنبه. وجعل لنا الأعياد بركة ومناسبات سعيدة لكي نعيدها في كلّ عام، ونحن نتذكّر مناسبات الأعياد ونقتدي بالفضائل، ونعيش حياة البرّ والتّقوى.

وها هو الأضحى المبارك يعود إلينا في كلّ عام، بمعانيه السّامية وأبعاده الرّوحيّة والمعنويّة، الماديّة والإنسانيّة، ونتساءَل أين نحن من هذه المعاني؟ ماذا فعلنا في حساب الضّمير، كيف عشنا هذه المعاني وكيف أمضينا العام المنصرم؟ هل تواعدنا مع الله عزّ وجلّ لنتلاقى اليوم على الخير والبركة؟ هل وفينا وعدنا وتقرّبنا منه تعالى أكثر وأكثر؟

ممّا لا شك فيه أنّه سبحانه لا يريدنا أن نعيش العيد وننسى صاحب العيد.. لا أن ننشغل بمظاهر العيد وأن ننسى معاني ورسالة العيد.. فهل نتكرّم في هذا العيد المبارك بما لدينا ونجود ممّا عندنا لنعطي المحتاج والمعوز؟ كجزء من التّضحية الّتي يحملها العيد؟ أم نتفطّن بالعائلات المستورة أثناء الأعياد فقط؟ ونقدّم لها ممّا عندنا من مؤونة وكساء وغذاء في مناسبة واحدة؟

إنّ الله سبحانه الّذي أمر أبانا إبراهيم بتقدمة ابنه فلذة كبده، واستعاض عنه بكبش الفداء لا بدّ أنّه يحثّنا على التّقدمة والتّضحيّة بكلّ مجال ومجال، وبكلّ مناسبة ولكلّ محتاج. فالتّقديم يجب أن يكون على مدار السّنة، والمعونة على الدّوام، ولا أقصد بذلك تقديم الأموال أو الأطعمة أو الألبسة، بل يمكن تقديم الأعمال، والمساعدة في الأفكار، والمعونة في المشورة والنّصح.

ولا بأس بأيّ عمل تطوّعي للمستشفى أو للنّادي أو للمدرسة أو لمركَز صحّة العائلة أو أيّ مجال تراه، عزيزي القارئ، مفيدًا ونافعًا للمجتمع. وألّا يقتصر ذلك على المجالات العموميّة، بل يمكن أن يتمّ في الإطار الخصوصيّ، كالعائلة والأفراد والأقارب والمعارف والأصدقاء. وهذا يدلّ على محبّة القريب وإكرامه، ومساعدته ودعمه.

 

معنى التَّضْحية:

التّضحية مصدر ضحَّى؛ يقال: ضحَّى بنفسه أو بعمله أو بماله: بذله وتبرع به دون مقابل. وهي بهذا المعنى محدثة. ومعنى التَّضْحية اصطلاحًا: هو بذل النَّفس أو الوقت أو المال لأجل غاية أسمى، ولأجل هدف أرجى، مع احتساب الأجر والثّواب على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، والمرادف لهذا المعنى: الفداء. ومن معانيها: البذل والجهاد.

والسّعادة يمكن أن تتحقّق من خلال العطاء، أي أن تقدّم أشياء يحتاجها الآخرون، كأن تقدّم بعض المال لمن يحتاجه. أو تساعد صديقًا على حلّ مشكلة، وتقدّم طعامًا أو متاعًا لمحتاجيه. وأقلّ شيء يمكن أن تقدّمه ابتسامة تُشعر الآخرين بالرّضا والثّقة والتّفاؤل، وهذا سيساهم في منحك السّعادة.

 

العطاء- الإحسان:

ومن التّضحية العطاء والإحسان، وهو إسداء المعروف إلى الآخرين، وصنع الحسن إليهم. والله سبحانه أحسن كلّ شيء خلقه، وأمر بالعدل، إعطاء الحقّ، والإحسان. ومثل ذلك طلب إخوة يوسف منه أن يتجاوز عن إثمهم لأنّه محسن. ومن حقائق الإحسان ألاّ يعق الولد والديه، والعفو والصّفح عن المسيء إحسان، ومكافأة العفو بالشّكر والذّكر الحسن إحسان. ولعلّ من حقائقه الصبر، والموعظة الحسنة، وأن تشجع الكلمة الطيّبة إحسان، ولقد رغّب الله عباده بالإحسان بشتّى المرغبات.

يقول تبارك وتعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 261-262]. هذا ما أكّده القرآن أيضًا بقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].

 لذلك فإنّ الله قد تعهّد أن يضاعف لك المال الّذي تنفقه، يقول تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].

صحيح أنّه ممّا يدعو للأسف أنّ بعض أخطر الصّراعات تنشأ بين النّاس على الأمور الماليّة، على أنّه لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك، ولكن للأسف لا يزال القول المأثور القديم صحيحًا: عندما يأتي المال من الباب يخرج الحبّ من الشّباك.

يجب أن نعطي لأيّة حالة تستلزم احتياجًا حقيقيّـًا بحيث تكون العطية غير مشروطة، على ألّا تلزم العطية الشّخص الآخر بأيّ شكل من الأشكال، كالتّصويت إلى جانبنا في الانتخابات أو للمحافظة على المصلحة. فيجب ألّا نحاول شراء النّاس بمبلغ من المال. وألّا نعطي كلّ شخص يسألنا كي يموِّل لعب القمار أو شرب المسكرات أو تعاطي المخدّرات.

 

التّضحية

ينطوي مفهوم التّضحية على فكرة الزّهد الإرادي في خير خاصّ لصالح خير أسمى منه، وهو فكرة تجرُّد الفرد الّذي يكرِّس نفسَه لخدمة الآخرين. وغالبًا ما مجَّدَت الأخلاقيّات، وبالأخص تلك الّتي تستلهم الدّين، "روح التّضحية" بوضعها في القلب من تعليمها. وقد أجاز ذلك أحيانًا انحرافاتٍ مؤسفةً أدّت إلى إضفاء قيمة عُليا على الألم نفسه.

إنّ مَن ينخرط في العمل اللّا-عنفي يعرف أنّه يعرض نفسه لعنف خصومه، وهذا التعرّض نفسه هو حمايته وقوّته. فهو، عن بصيرة، يتجشّم مخاطر ربّما تقوده إلى مجابهة العذاب والموت، لذا يجب عليه أن يستعدّ لذلك. وبهذا المعنى، توجد بين اللّا-عنف و"التّضحية" رابطة أكيدة يجدر بنا تحديد طبيعتها. إنّ الرأي السّائد عمومًا ينزع إلى الاعتقاد بأنّ مَن يختار اللّا-عنف، ما دام يرفض حمل السّلاح دفاعًا عن نفسه، يضحّي بحياته سلفًا ويجد نفسه بالضّرورة على موعد مع الموت. لكنّ الأمر ليس كذلك في الواقع.

لا ينبغي أن يكون المرء مستعدًا للموت انتصارًا لقضيّة ما، بل لإنماء إنسانيّة الإنسان في عالم يستشري فيه العنف. ولذا فإنّ أسمى الفضائل الرّوحيّة – تجاوُز الرّغبات الأنانيّة خدمةً للخير العام، والتحلّي بالشّجاعة أمام الصّعاب.

ينبغي، إذن، فك اللّغة الخطابيّة حول الشّجاعة والتّضحية، إذ ذاك يعود كلُّ شيء إلى نصابه، ويستطيع الفيلسوف الجزم فعلاً بأنّ الفرد الّذي يتجاوز مصالحه ورغباته الشّخصيّة، بقبوله التّضحية بخيراته الخاصّة، لِيتجشمَ خطرًا كبيرًا وهو يطلب الخير العالميّ وينجز في التّاريخ عملَ العقل ويحقّق مصيرَه ككائن روحي. الإنسان القويّ، في المحصّلة، هو مَن يتحلَّى بشجاعة تجشُّم خطر اللّا-عنف.

 

الخلاصة

إنّ هذا العيد الكبير لا بدّ أن يحثّنا على الخير والإحسان، ونحن نتذكّر على الدّوام في بيوتنا وعائلاتنا ومع أنفسنا أنّ الأضحى والتّضحية والعطاء والإحسان وسائر المترادفات تصبّ كلّها في مصلحة الإنسان وسعادته. فلماذا نحيّد خلال العام كلّه عن معاني العيد، ونتذكّره فقط في موسمه أو موعده؟

أو أنّنا ننسى ما فعله الأنبياء والصّالحون والمرسلون طيلة حياتهم، من أعمال رفعتهم إلى درجة التّقديس والتّكريم، ولذا يجب أن نضع نصب أعيننا هؤلاء الّذين شقّوا لنا طرق الخير وأرشدونا إلى السّعادة الحقيقيّة، وعلّمونا الشّرائع والأنظمة ووضعوا لنا القواعد والقوانين الّتي تضمن لنا حسن السّلوك وحسن المعشر، ومحبّة الآخر واحترام فكره ومعتقده وإنسانيّته.

وهكذا نخطو نحو عالم أفضل، ومجتمع أرقى وإنسان أكمل.

أتمنّى لكم أضحى مباركًا وأن نعيش كلّنا معانيه ورسالته.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *