مع عاشق إفريقيا

مراسل حيفا نت | 17/08/2015

رشدي الماضي

(قُلها لا تجبن… لا تجبن/ قُلها في وجه البشريّة/ أنا زنجيّ/ وأبي زنجيّ الجدّ/ وأمّي زنجيّة/ أنا أسود/ أسود لكنّي حرّ/ أمتلك الحريّة..)

كلمات مدويّة، باهظة العُنفوان والإِباء سجّلها صرخةً صادقة شاعرنا الّذي غادرنا، محمد مفتاح الفيتوري. إنّه من روّاد الشّعر العربيّ الحديث منذ نهاية أربعينيّات القرن الماضي.ولد الفيتوري بمدينة الجنينة عام 1930 ثمّ هاجر مع والده إلى الإسكندريّة وهو صغير، ممّا جعلهُ ينخرط فيما بعد مع روّاد شعراء الحداثة الشّعريّة من السّودانيّين الّذين نشأوا في مصر، أرض الكنانة.والمعروف أنّ أصوله تمتدّ إلى رجب الشيخي الفيتوري، خليفة خلفاء الطّريقة العروسيّة الشاذليّة الأسمريّة، وهذا بالرّغم من أنَّه ولد لأبوين سودانيّين كلاهما من دارفور.أمّا محمود أمين العالم، فيذهب إلى أنّ الفيتوري زنجيّ الجدّ من أعالي الغزال، مصريّ الاُمّ سودانيّ الوالد. فما كان من صديقه مُحيي الدّين فارس، إلّا أن يصرّ نافيًا أيّة علاقة للفيتوري ببحر الغزال، أو قبائل الجنوب.. لذلك يؤكد أنّ الفيتوري مجرّد مهاجر في الإسكندريّة، وأنّ والده لم يتزوّج مصريّة، ومَن يقل يخالف الحقيقة.أمّا الفيتوري نفسه، وفي حوار أجرته معه مجلّة "الدّوحة"، كشف حقيقة هُويّته قائلاً: "أشعر بالانتماء الوجدانيّ إلى كلّ أرض عربيّة أقمت فيها، لأنّني مزيج من مركّب لمّا تميّز به غيري من الشّعراء في كلّ المحطّات الحياتيّة الّتي مررت بها. وستجدها حاضرة في أشعاري بصدقها وعفويّتها، إنّني أشعر أنّ هُويّات متعدّدة تخترقني، هذا عبّرت به في قصائدي".عشِقَ شاعرنا إفريقيا حتّى الثّمالة، حتّى تجاوز بحبّها حدود الأوطان الضّيّقة، فبثّ إليها نجواه عبر ديوانه "أغاني إفريقيا"، هذا بل وأكثر، فقد استلذّ بعشقها، قارةً سوداء، في ديوانه "عاشق من إفريقيا"، وتذكّرها صحوًا وحلمًا، فكتب: "اذكريني يا إفريقيا"؛ ثمّ عبّر عن الحزن من خلال مسرحيّته "أحزان إفريقيا" – سولارا.كذلك سجّل الفيتوري نشيد الحصاد الإفريقيّ المعروف اصطلاحًا عند الجماهير السّودانيّة باسم "أصبح الصّبح". وقد حمل هذا النّشيد منه الموسيقار محمّد عثمان وردي، بعد انتصار الثّورة الشّعبيّة في 21 أكتوبر 1964.ورغم أنّ الفيتوري لم تكن له مواقف مواجهة ضدّ نظام الجنرال إبراهيم عبّود، بل كان أقرب إليه. لذلك شغل إبّان حكمه وظيفة رئيس تحرير مجلّة "هنا اُمُ درمان" حتّى سقوط النّظام. لكن موقفه تغيّر في فترة حكم جعفر النّميري. فبعد أن أعدم هذا الرّئيس قيادات الحزب الشّيوعيّ السّوداني، كتب شاعرنا قصيدة إلى كوكبة هؤلاء "عبد الخالق محبوب ورفاقه" ممّا ساق إليه غضب النّميريّ، فاضطرّ الفيتوري للعودة إلى بيروت الّتي كان فيها؛ ولكنّه لم يلبث أن أبعد عنها في عام 1974 لأسباب سياسيّة. فسافر إلى طرابلس الغرب، وحصل على الجنسيّة اللّيبيّة، فعمل ملحقًا ثقافيّـًا في سفارة ليبيا في روما ثمّ بيروت فالرّباط. ومن الرّباط سافر إلى القاهرة ليعمل مستشارًا ثقافيّـًا في مكتب المتابعة اللّيبيّ.ومن أشهر قصائده برأيّ النّقاد "معزوفة لدرويش متجوّل":

في حضرة مَنْ أهوى/ عبثت بي الأشواق/ حدّقت بلا وجهٍ/ ورقصت بلا ساق…

لا شكّ أنّ الفيتوري، أحد الشّعراء الّذين احتفوا بزنوجيتهم، مثل السّنغالي ليوبولد سنغور، الّذي روّج كثيرًا لفكرة الزّنوجيّة. والمعروف عنه أنّه من الشّعراء الّذين عايشوا المدّ الثّوري التحرّري في إفريقيا. ولعلّ بكائيّته في عبد الخالق محبوب.. قد بكاها بدمع قلبه:

فتلوني/ وأنكرني قاتلي/ وهو يلتف بردانا في كفني/ وأنا مَنْ؟/ سوى رجل واقف خارج الزّمن/ كما زيفوا بطلاً/ قلت: قلبي على وطني.

[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/109350299420151708105206"]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *