الكاتب الفلسطينيّ العائد توفيق فيّاض، في حوار لصحيفة “حيفا”:

مراسل حيفا نت | 20/06/2015

نايف خوري

إنّه الكاتب العائد توفيق فيّاض الّذي وُلد في حيفا عام 1939 لعائلة من بلدة المقيبلة في مرج ابن عامر، والّذي أُبعد قسرًا عن أرض الوطن لمدّة 41 سنة قضاها في السّجون وفي بلاد الاغتراب.  وكان المحاميّان محمّد دحلة وسهاد حمّود (دحلة) قد شرعا في النّضال القانونيّ من أجل إعادة فيّاض منذ ما يزيد عن 15 عامًا. وبعد مراسلات ومداولات على مدى سنين طويلة مع وزارة الدّاخليّة الإسرائيليّة ومع قسم الالتماسات في المحكمة العُليا الإسرائيليّة والنّيابة العامّة، وفي أعقاب تقديم سبق التماس بهذا الشّأن، نجحا بالحصول على موافقة لعودة فيّاض إلى أرض الوطن.وكان المحامي دحلة قد توجّه إلى عمّان، يوم الأربعاء الماضي، للقاء فيّاض القادم من تونس، حيث يقيم منذ أكثر من 30 عامًا، وذلك من أجل إتمام المعاملات المتعلّقة بعودته لدى السّفارة الإسرائيليّة في عمّان. وتمكّن دحلة من استصدار وثيقة سفر مؤقّتة، تتيح لفيّاض العودة إلى البلاد، على أن يحصل على جواز سفر ومواطنة كاملة عند وصوله. وعاد فيّاض فعلًا عبر جسر الملك حسين، يرافقه المحامي دحلة الّذي عمل على تسهيل إجراءات عودته ودخوله إلى البلاد.وكان فيّاض قد انتقل بعد النّكبة إلى قرية المقيبلة قضاء جنين، مسقط رأس والده والعائلة، ولكنّه عمل في قسم الجمارك في ميناء حيفا وهناك جنّده المرحوم عبد الرّحيم قرمان لمجموعة اتّهمت بالتجسّس لصالح سورية. واعتقل عام 1970 مع أفراد الشّبكة وكان على رأسها المرحوم قرمان، وأطلق سراحه عام 1974 ضمن عمليّة تبادل أسرى مع مصر ونُفي إلى القاهرة ثمّ انتقل إلى دمشق وبيروت ومنها إلى تونُس.من مؤلفّاته: "المشوّهون" – رواية، "الشّارع الأصفر" – قصص، "وادي الحوارث" – رواية، "بيت الجنون" – مسرحيّة. وقد صدرت سلسة "الشّارع الأصفر" للمرّة الرّابعة عام 2004، وهي كما يقول عنها توفيق: هذه القصص القصيرة تحوي المأساة الفلسطينيّة بكافّة أبعادها، وتعبّر عن ارتباط الإنسان الفلسطينيّ بأرضه واحتضانه لها رغم ما تتجرّعه من علقم وما تتكبّده من معاناة.بعد إطلاق سراحه من السّجن وتسليمه لمصر بتبادل الأسرى بعد حرب عام 1973 قال عن تلك التّجربة: خرجت من وطني فلسطين سنة 1974 ضمن عمليّة تبادل الأسرى وكنت آنذاك في السّجن، وقد كان خروجي إبعادًا قسريّـًا، وليس مجرّد خروج فحسب، وقد عرفت ذلك وأنا ما أزال داخل السّجن، حيث اكتشفت بعد اقتيادي من سجن (شطّة) في منتصف اللّيل مقيّدًا، ومعصوب العينين، ليقطعوا بي الصّحراء باتّجاه مصر لتسليمي للجيش المصريّ، ولكن رفضي كان دون جدوى، وحين استلّ الضّابط المصريّ سكّينه وراح يقطع قيدي البلاستيكيّ المنغرس في معصمي، غصصت بالدّمع، وتيبّس لساني، ففقدت القدرة على الكلام، وكانت لحظة من أصعب لحظات حياتي. فقد عرفت أنّني أصبحت بعيدًا عن وطني، وأنّه صار ورائي، وأنّ هذه اللّحظة هي اللّحظة الّتي ستغيّر تاريخ حياتي ومجراه، أيضًا.

خوري: حيفا جميلة ولكنّها اليوم أجمل

ودعت مؤسّسة محمود درويش للإبداع في كفر ياسيف إلى أمسيّة تكريميّة على شرف الكاتب فيّاض أقيمت في مسرح "الميدان"، تحدّث فيها الكاتب عصام خوري (مدير عام مؤسّسة محمود درويش)، الّذي قال:

"حيفا جميلة ولكنّها اليوم أجمل، أعلم أنّك اشتقت لهذه المدينة النّاعسة والنّاعمة والملتهبة على شواطئ البحر الأبيض المتوسّط، الّتي احتضنت شبابنا الأوّل، ولكنّك يجب أن تعلم، أنّها هي أيضًا اشتاقت إليك كثيرًا، البيوت الّتي تركتها، الشّوارع الّتي سرت فوقها، المقاهي الّتي جلست مع الأصدقاء فيها، والبحر الّذي حمّلته أسرارك. لكن حيفا اليوم ستكون مرحةً أكثر لو كان معنا في حفل استقبالك هذا المساء سميح القاسم ومحمود درويش، اللّذان أحببتهما كثيرًا وأحبّاك كثيرًا، بل لأنّه من حقّهما علينا أن نخبرهما بعودتك لكي نشاركهما سعادتنا بهذا الاحتفال الرّائع.إنّ مؤسّسة محمود درويش تعتز وتفخر بأن تقيم لك هذه اللّقاءات الّتي أعلنت عنها مع جماهير شعبك، ومحبّيك ومحبّي أدبك. نحن نفعل هذا لأنّنا على معرفة كاملة وعميقة بك وبأدبك وإنسانيّتك بعطاءاتك، أخلاقك، وحبّك للآخرين، والأهم لوطنك وشعبك".

أبو ريّا: نصّ ذهنيّ عميق ومعبّر

وبعد كلمات التّرحيب عرض الممثّل خالد أبو علي من مسرح "الجوّال" في سخنين مسرحيّة "بيت الجنون" للكاتب توفيق فيّاض، وهي مونودراما ذهنيّة، أخرجها عادل أبو ريا (مدير المسرح)، والّذي قال في حديث معنا: "ما أن تسلّمت نصّ المسرحيّة "بيت الجنون" حتّى أُعجبت جدًا بالنّص لأنّه نصّ ذهنيّ عميق ومعبّر، وفوجئت أنّ النّص كتب قبل حوالي 50 سنة. وترى نفسك تعمل على المسرحيّة وكأنّ الأحداث تجري اليوم، وكأنّه كان نبيّـًا، لأنّ الرّموز الّتي تتضمّنها المسرحيّة عميقة جدًا".

دحلة: لقد وفيت بوعدي

أمّا المحامي محمّد دحلة اختصاصيّ قضايا حقوق الإنسان، والّذي رافق قضيّة عودة الكاتب فيّاض إلى الوطن، فقال: "بحمد الله تمكّنا وتوفّقنا من إعادة حوالي 15 فلسطينيّ من فلسطينيّي 48 حتّى الآن إلى ديارهم، إلى قراهم ومدنهم داخل أراضي 48، من عكّا والمقيبلة وكفر قرع وسخنين وغيرها، ابتداءً من الأخ عماد شقّور الّذي كان عضوًا في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ ومستشار الرّئيس عرفات، وآخرين ممّن التحقوا بالثّورة على مدى سنين. والآن وفّقنا بإعادة الكاتب والأديب الأستاذ توفيق فيّاض. كان النّضال قانونيّـًا، خضناه ضدّ الحكومة الإسرائيليّة، وبالأساس ضدّ وزارة الدّاخليّة الإسرائيليّة ووزارة العدل والنّيابة العامّة، وفي كثير من الحالات، الفلسطينيّون الّذين خرجوا والتحقوا بالثّورة الفلسطينيّة، كان هناك رفض من الجهات الإسرائيليّة لإعادتهم إلى البلاد، خاصّة أنّهم فقدوا الهُويّة الّتي كانت معهم، وفقدوا جواز السّفر الّذي كانوا يحملونه. وكانوا في كثير من الحالات يلوّحون بأنّهم في حال عودتهم إلى الوطن ستقوم النّيابة والشّرطة بملاحقتهم، أو بمحاكمتهم على مخالفات أو شُبهات تحوم حول نشاطهم خارج البلاد، أو على مخالفات أُدينوا بها أثناء وجودهم في البلاد. بالنّسبة للأستاذ توفيق، فقد تمّ تحريره في الماضي من الأسر بعد صفقة مع مصر وحصل على عفو من رئيس الدّولة في العام 1974. وبالتّالي لم يكن أيّ سبب يمنع عودته من النّاحية القانونيّة، أو أن يتمّ محاكمته من جديد في حال عودته والحمد لله أنّه عاد إلى المقيبلة وإلى حيفا وإلى وطنه وبين ناسه.  وأضاف: إنّ الكاتب الكبير كان قد طلب منّي أن أعيده للوطن، (فوق التّراب أو تحته)، وقال لي: إنّ هذه وصيّتي لك، وقد أقسمت أن أبذل قصارى جهدي لكي يعود فوق تراب الوطن ويتنفّس هواءَه ويتمتّع بمناظره الخلّابة. ولا يضاهي شعوري اليوم أيّ شعور، بأنّني قد وفيت بوعدي.

فيّاض: لم نستسلم ولن نستسلم!

وبعد عرض المسرحيّة تحدّث الكاتب توفيق فيّاض المحتفى به، وقال:"ظننت في لحظة ما أنّهم نسوني، لكنّني عدت لأرى أنّ الأطفال والنّساء حتّى المحجّبات يسرعنَ كي يقبّلنني. كان هذا كثيرًا عليّ، لا أدري كيف استطعت أن أمسك نفسي وأنا أتكلّم. أحبّكم، أحبّكم، أحبّكم. أحببتك يا حيفا حقيقة، وما قلته يومًا، إذا نسيتك تنساني يميني، وإذا ما نستيك ينساني الفرح، وأنت يا مقيّدة إن كنت الآن بعيدة أقول: قالت العرب يومًا لا كرامة لنبيّ في قومه، فقلت في مقيبلة لا كرامة لقوم لا نبيًا فيه".ولم يتمالك الأديب فيّاض نفسه عن البكاء على المسرح من شدّة الحبّ الّذي لقيه من الأهل، فقال: "أشكركم جميعًا، شكرًا للأساتذة الّذين أعطوني أكثر ممّا أستحقّ. لم أكن أعرف أنّ هذا الحبّ هو أكبر من أيّ شيء، لم أكن أعرف أنّ أستاذي حنّا أبو حنّا سيكون يومًا جالسًا هنا، وهو أحد الرّجال الّذين شاركوا في تجريحي يومًا من الأيّام، عندما كنت كاتبًا غضّـًا صغيرًا. ولكنّه في هذا العمر، وبعد خمسين عامًا، عاد ليقول إنّه ظلمني، مقبول اعتذارك أستاذ حنّا. شكرًا لمسرح "الميدان"، ولمؤسّسة "درويش" ومسرح "الجوّال"، شكرًا لكلّ الأحبّة الّذين أتوا هنا ليستقبلوني بعد غربة طويلة، 41 عامًا لكنّها كانت 41 ثانية في حضوركم، شكرًا يا فتحي فوراني صديقي القديم، شكرًا لصديقي عبد عابدي الّذي من حبّي له ذهبت لزيارته، فرأيت الباب مفتوحًا، ودخلت إليه وبدأت أتكلّم وأتحدّث وكأنّه يجلس إلى جانبي، وإذا أنا في بيت آخر، كنت حينها أكتب تلك المسرحيّة "بيت الجنون"، فالجنون مرض قديم وجنون قديم حديث.41 عامًا، ولكن حيفا لم تغب، لقد حملتها أينما ذهبت، سُئل محمود درويش عنّي، فقال: "هذا الفلّاح جاب العالم، ولم يخرج من المقيبلة". وأنا لم أخرج من حيفا، وكثيرون يعرفون كم تغزّلت بنساء حيفا، وكأنّني أتغزّل بحيفا".وتابع: 'لنعد قليلًا للأدب الّذي صنعه أولئك الروّاد من الفلسطينيّين، لم نكن نعرف حقيقة أنّه في يوم من الأيّام سنقف على هذه الخشبة، لم نكن نعرف بأنّ العالم قرأ لنا، ذات يوم، وعندما سكنت مع محمود درويش جاء يلوّح بجريدة ويقول: "أنظر إنّهم يعرفوننا"، كان يحمل نصّـًا نقديّـًا لإبراهيم أبو ناب، الّذي كتب نقدًا لقصيدة عاشق من فلسطين. لم نعلم أنّ أحدًا سمع بنا وكتب عنّا، ولكن العالم كلّه الآن سمع عنّا وكتب عنّا، لأنّنا مثّلنا هذه الأرض، وهذا التّراب المقدّس، لم نستسلم أبدًا ولن نستسلم، لأنّه ترابنا، ولأنّه أرضنا مهما غبنا ومهما ابتعدنا".واختتم: "بالمناسبة أشكر معيدي لهذه الأرض، شكرًا لك المحامي محمّد دحلة والمحامية سهاد دحلة، في لحظة وجدٍ على الجسر قلت له: يا أبا العائدين، لأنّه قاتل 15 عامًا لكي يعيدني وأعادني، ويبدو أنّه قد تأثّر برسالتي الأخيرة له، حيث كتبت له وصيّتي: إن لم تستطع أن تعيدني فوق الأرض أعدني تحت التّراب تحت الأرض. وعلى الجسر قال لي: لقد أعدتك يا توفيق فوق الأرض وفي حيفا. لقد عدت لكي أراكم جميعًا، وقد أعطيتموني هذا الحبّ الكبير الكبير".وأجرينا مع الكاتب فيّاض المحادثة السّريعة التّالية في خضمّ مصافحة الأصدقاء ومعانقة المحبّين:

– العائد إلى حيفا، والعائد إلى الوطن مع العائدين، الحمد لله على السلامة..

الله يسلمك يا رب.

– ماذا تقول عن شعورك اليوم؟

شعوري .. لا أستطيع أن أخبرك بالضّبط لأنّي لم أكن أتوقّع هذا الحبّ، فقد غلبني هذا الحبّ.

– وأنت تلتقي بالمحبّين والرّفاق..

أنا سعيد، ماذا أقول أكثر، وما من كلمة تعبّر عن مدى سعادتي. وأقول لا يزال في الدّنيا خير. إذا كنت بعد واحد وأربعين عامًا أغيب وألاقي هذا الحبّ، إنّه لا يزال موجودّا. ومهما غاب الآخرون ومهما تعرّضوا للنّفي وطال منفاهم فإنّهم لا بدّ عائدون. 

– أنت لا تحتضن حيفا بل حيفا مشتاقة إليك، خرجت منها أسيرًا وعدت إليها حرًا، فماذا تقول لمدينة حيفا اليوم؟

أوّلًا أنا لم أغادر حيفا، حيفا في وجداني.

– هجّرت قسرًا؟

لم أغادرها قط. حيثما ذهبت ذهَبَت معي. أنا ولدت في حيفا، وأنا ابن مقيبلة وهي مسقط رأس والدي، حقيقة لم أطلع من المقيبلة، ولا غادرت حيفا. وهذا الحبّ جعل من سنوات الغياب الواحدة والأربعين كواحدة وأربعين ثانية في حضور المحبّين.

– حيفا كانت مرتبطة بك طيلة الوقت، رفيقتك..

أبدًا، الآن منذ أن دخلت قلت لهم هذا المحل الفلانيّ، وهذا المكان الفلانيّ، وكأنيّ غادرت أمس فقط!

– معالم حيفا لم تتغيّر في ذهنك، عُدتَ إليها كما كانت..

حيفايَ أنا لم تتغيّر، أمّا حيفا الأخرى ذات المباني الضّخمة والعالية فهذه ليست لي.

– وإذا أردت مخاطبة حيفا اليوم ماذا تقول لها؟

ماذا يمكن القول سوى أنّي أحبّك؟ وهي تعرف أنّي أحبّها. حيفا متمرّدة على كلّ شيء، حتّى على التّاريخ. لا تخضع لأيّ شيء، هي مهرة جامحة. ماذا أقول عن هذا الحبّ، أي كلام يصغر أمام هذا الحبّ.

– استقبال الأهل الفلسطينيّين، ولا أقصد أهلك فقط، بل كل الشّعب الفلسطينيّ هم أهلك. استقبالهم لك، حفاوتهم بك.

رأيت حتّى الآن أهل مقيبلة، وهؤلاء كلّ فلسطين، فقد خرج الأطفال والرّجال والشّيوخ والنّساء، ومن يعرفني ومن لا يعرفني، استقبلت استقبالًا لا يوصف.

– وستبقى هنا؟

جئت لأبقى!

وفي سياق متّصل، أقام أهالي المقيبلة حفلًا تكريميّـًا لابنهم الأديب العائد بحضور حشد من الجمهور من أنحاء المجتمع العربيّ، كما دعت مؤسّسة "محمود درويش" إلى عرض خاصّ لـ"بيت الجنون" في سخنين ضمن أمسيّة تكريم للكاتب فيّاض. ولا يزال يستقبل المهنّئين بعودته إلى أرض الوطن في بلدته المقيبلة. 

[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/209069098220152006121657"]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *