إنّه المرض!

مراسل حيفا نت | 29/03/2015

 

متألّمًا، مُنهكًا، ومُرغمًا، ألزمني المرض الفراش في المستشفى لأزيدَ من ثلاثة أشهر متواصلة، بل زادت المدّة وطالت ليُلزمني فراش البيت كذلك، شهرين إضافيّين وأكثر. وكلّما حاولت أن أخرج من صومعتي المَرضيّة لأعيش حياتي وأتابع الأحداث ومستجدّاتها، محاولًا الكتابة، اشتدّ عليّ المرض ورماني السّرير مجدّدًا، وكأنّه يقف لي هذا "اللّعين" بالمرصاد، حاجزًا منيعًا، مانعًا عنّي مُتع الحياة وملذّاتها، ولذّة المطالعة والقراءة والكتابة، ما اضطرّني إلى أن أنْكَفّ عن الكتابة فترة ما.

لكنّي حاولت بما أُتيت من قوّة وعزم وتفاؤل، ودعم متواصل من أخي الأصغر عمرًا، الأكبر قلبًا وإنسانيّة وأخوّة، وعائلته المحبّة، إضافة إلى عدد من أفراد عائلتي وأصدقائي الصّدوقين المقرّبين والمحبّين فعلًا؛ التّحايل على المرض، فكنت أفلح حينًا وأخفق أحيانًا، لأعود وأتقوقع في سريري، من جرّاء الآلام المُبرحة والوهْن الجسديّ المُضني. لكن بقدرة القادر وقوّة الإرادة وحبّ الحياة، لم يقوَ عليّ "عزرائيل" في هذه المرحلة بعد، ولم يخذلني قلبي؛ فعاد ليخفق من جديد.. لذا عزمت على العودة إلى حياتي الطبيعيّة – وبالأصحّ، شبه الطّبيعيّة – حياة جديدة تختلف بمفاهيم ومضامير عدّة.

وعندما عُدت، مؤخّرًا، لمتابعة بعض الأحداث والمستجدّات، بين الفينة والأخرى، وجدت من موقعي أمراضًا مجتمعيّة ما زالت متفشّية، أشدّ ضراوةً وأقسى من أصعب الأمراض وأخبثها (!)، لأكتشف – رغم صعوبة حالتي – أنّ المرض الضّارب في فرد من أفراد المجتمع أقلّ وطأةً من ضرب الأمراض المجتمعيّة في عدد من أفراد مجتمعنا العربيّ وسيطرتها عليهم.

هناك شباب وشابّات كثر، في مقتبل العمر، يعانون الدّونيّة، فيحاولون – للأسف الشّديد – الانصهار "الأعمى" في المجتمع اليهوديّ ضمن مجالات شتّى، بدءًا بعبرنة أسمائهم وتشويه تاريخهم، وانتهاءً بـ"تحقير" مجتمعهم.. حيث يعيشون في طِلْمِساء (ظلمة شديدة)، لا يرون ما يدور حولهم؛ يسكنون فقّاعة بعيدًا عن أرض واقعنا "الملتهب". فيعتقد بعض الأغبياء منهم، وخصوصًا المسيحيّين والمسلمين غير الوطنيّين الّذين يفاخرون و"يفتخرون" بانخراطهم في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، أنّ دعوة الشّباب للتّجنّد، ودعايتهم وتبجيلهم لهذا الجيش المحتلّ عبر مواقع التّواصل المجتمعيّة المختلفة، ستزكّيهم بنقاط وسترفع من "قدْرهم" و"مكانتهم" لدى الحكومة الإسرائيليّة وأذرعها الأمنيّة المختلفة. لكنّهم بفعلتهم هذه يخدمون سياسات السّلطة وينشرون العنصريّة والطّائفيّة والتّفرقة بين أبناء المجتمع الواحد ويؤدّون إلى شرذمته، دافعين بأبنائنا إلى اللّا-وعي والجهل والانصهار والتّهلكة..! علينا كشعب عربيّ فِلَسطينيّ أصلانيّ أن نعمل معًا، ونقف لهذه الأعشاب الضّالّة الضّارّة بالمرصاد، ونمنع أشواكها من الانتشار وتضييق الخناق على الورود من شباب مجتمعنا.

أذكّر "العروبة المخلصة" للسّلطة الحاكمة بقيمة العربيّ "الإسرائيليّ" لدى رئيس حكومتهم اليمينيّ، العنصريّ، بنيامين نتنياهو، وكم كان مُهينًا أسفه لا اعتذاره المُبتذل أمام "وجهاء" من المسلمين والمسيحيّين والدّروز – أخجل بتسميتهم عربًا(!) – لا يمثّلون مجتمعنا العربيّ، بل يمثّلون أنفسهم واحتياجاتهم ومصالحهم على حساب مصالح وحقوق وكرامة أبناء شعبنا الأصلانيّ. إنّ الغالبيّة القصوى من أفراد مجتمعنا الأصيل، أدلوا بأصواتهم للقائمة (العربيّة) المشتركة، فكانوا قاعدتها المتينة؛ بينما أولئك الّذين يشعرون بالدّونيّة ويؤدّون ولاء الطّاعة العمياء ليل نهار لسلطات الحكومات المتعاقبة، سيبقون في نظر السّلطات عربًا خارجين عن القاعدة، وفي نظر مجتمعهم العربيّ خارجين عن القاعدة، أيضًا.

كما أشير – ضمن حديثي عن الأمراض المجتمعيّة – إلى الصّراعات والخلافات والمُشادّات – الكلاميّة منها والجسديّة – وعمليّات العنف المستشرية في مجتمعنا، الّتي تؤلمني كآلام مرضي المُبرحة، وخصوصًا تلك النّابعة من أفكار تعصّبيّة طائفيّة عائليّة فئويّة وفرديّة ضيّقة، تترك في مجتمعنا ندوبًا دامغة تصعب مداواتها بسهولة.

هذا، إضافة إلى مرض النّرجسيّة المُفرطة الّذي يعانيه عدد كبير من أفراد مجتمعنا، معتقدين أنّ تربّعهم – شبه الأبديّ – على عرش لجنة أو مؤسّسة، سيزيد قيمتهم الاجتماعيّة ويجعلهم من أهل الوجاهة، متناسين أنّ قيمة الفرد الفعليّة في المجتمع تقدّر بأفعاله وعطائه وبقراراته ذات الوجاهة، لا بمركزه الاجتماعيّ "الوجاهيّ" الشّكليّ، فقط!

علامَ نلوم، نعاتب، ونتّهم سياسات السّلطات المتعاقبة فقط، تلك العاملة على تفريقنا وتجهيلنا وشرذمتنا فعلًا. علينا، أساسًا، أن نلوم، نعاتب، ونعاقب أنفسنا، ونحارب جهل وغباء عدد كبير من أفراد مجتمعنا وتخلّف بعضه الآخر..

دعوني أتفاءَل وأتناسى، مؤقّتًا، ما أعانيه من مرض جسديّ، ودعونا نعمل، معًا، على التّخلّص من أمراضنا المجتمعيّة المستشرية، لهدف الوصول إلى مجتمع أصحّ ومستقبل أفضل يضمن وَحدتنا وبقاءنا ويحفظ لنا كرامتنا..!

كفانا اللهُ وكفاكم شرّ الأمراض جميعها، الجسديّة منها والنفسيّة والمجتمعيّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *