رشدي الماضي
أعلنت جائزة نوبل في ستوكهولم عن فوز الأديب الفرنسي باتريك موديانو بنوبل للآداب للعام 2014. وهكذا يصبح الأديب الفرنسي الخامس عشر الذي يفوز بجائزة نوبل للأدب، بعد رومان رولان (1915)، أناتول فرانس (1926)، هنري برجسون (1927)، أندريه جيد (1947)، ألبير كامو (1957)، سان جون بيرس (1960) وجان بول سارتر (1964) الذي رفض تسلّمها لأسباب أيديولوجيّة، وغيرهم.
وهذا الأديب من مواليد عام 1945، وينتمي إلى عائلة يهوديّة عانت إبّان الاحتلال النّازي لفرنسا.. لكنّ معاناته كانت مضاعقة بسبب تعاون أبيه مع المحتلّ النّازي ضدَّ أبناء الجالية اليهودية في فرنسا، وبسبب ما نتج عن ذلك من تعكير صفو العلاقة بين أًمه وأبيه المتعاون…
هذا الوضع الدقيق والإستثنائي دفع بالكاتب موديانو إلى بَحْثِهِ الدائم عن هوية أوسع نطاقاً من أي انتماء جغرافي أو قومي أو ديني… وقد عبَّر عن ذلك حين كتب:
"… بحثي الدائم عن شيء ما، ضائع، والتفتيش عن ماضٍ غائم ليس في الوسع إضاءَتَهُ وطفولة كُسِرت بغتةً… كلّ هذا يُسْهم في التّوتر العصبي الذي باتت عليه حالتي النفسيّة؟! يُعرف موديانو بلقب مسّاح باريس، لأنَّهُ عرفها بكامل جغرافيتها وتضاريسها وأنوارها ووثّق ذلك في كتاباته بهدف كشفها للآخرين…
وقد وصفته الصّحافة الفرنسيّة بأنَّهُ من "أفضل كُتّاب فرنسا المعاصرين"؟!! – رغم ما عُرف عنه من خجل وتلعثم أمام الصَّحافيين…
فأسلوبه تميّز بسلسلة سِمات طبعت موضوعاته الروائية، وبأسلوبيته في تكنيك السَّرد واستحضار التاريخ وتوظيف اللغة… والبارز عند مسّاح باريس موديانو كونه مهووساً بالذاكرة والبحث عن الذات والهوية. لذلك لم يكن غريباً أن يُسجِّل القائمون على جائزة نوبل، بأن موديانو فاز لانتمائه كمبدع إلى ما يُعْرف "بفنّ الذاكرة"، حيث نجح من خلاله أن يستحضر مصائر إنسانية هي الأصعب فهماً، شخصيات متعددة لاحق تفاصيل كلُّ شخصية منها بدقّة من رواية إلى اُخرى، فكأنَّهُ كتب رواية واحدة كرّر موضوعاتها بأشكال مختلفة. تتجلّى هذه الحقيقة واضحةً في الأسطر التي احتوتها روايته "دفتر العائلة" (1977) والتي يقول فيها:
"كنت في العشرين من عمري فقط ولكن ذاكرتي سبقت ولادتي، كنتُ واثقا مثلا، أنّني عِشْتُ في باريس زمن الاحتلال، لأنّني لأتذكر بعض شخصيات تلك الحقبة وتفاصيل دقيقة ومقلقة عن أولئك الذين لم يأت أيّ كتاب تاريخ على ذكرهم".
وهو بذلك يتماهى مع ما قاله الشاعر الفرنسي دينيه شار الذي قاوم الإحتلال النازي لوطنه أيضا، "أنْ تعيش يعني أن تمتنع عن استكمال ذكرى ما" هذا ما أدى إلى تبنّي موديانو هذا الأسلوب منذ روايته الأولى "ساحة النجمة" التي كتبها عام 1923 وهو ابن 23 عاماً
فهيمن هذا المحور على مجمل المسارات التي اتّخذتها أعماله اللاحقة حتى روايته الأخيرة: "لكي لا تضيع في الحيّ" التي نشرها هذا العام 2014 ومن رواياته: "دائرة الليل" (1969)، "جادات الحزام" (1972)، "شارع الحوانيت المعتمة" (1991) وقد ترجمها محمد عبد المنعم جلال إلى العربية – "أزهار الحزاب" (1991)، "رحلة الزفاف" (1990) "كلب الربيع" (1993)، "دورا برودر" (1997)، ومقهى الشياب الضائع" التي نقلها محمد المزيودي إلى العربية (2009) و"الأُفق" التي ترجمها توفيق السّخان أيضاً إلى العربية. كما قامت رنا حايك بترجمة أربعة أعمال اخرى لموديانو إلى العربية. ومن الواضح أنّها أعمال تسرد حكايات فرديّة حول شخصيات باريسية فنجحت أنْ تنسج شبكة ذاكرة جماعة عريضة.
أقول: مبروك للمبدع الفرنسي الفائز، وأضيف: أنّه برغم المحاولات المتعمّدة لوصف ثقافتنا العربية بأنّها تعاني انحساراً كقيمة حضارية خلاّقة في واقع يشهد ازدحاماً تعبيرياً تواصليّاً، وبروز وسائط تفاعلية أكثر جاذبيّة تجاوزت الحدود، وتراجعاً في القيم الجمالية، فإني أؤكِّد هذه "الأصوات"، في خزانتنا الثقافية أكثر من مبدع ومبدعة من الذين يستحقون، وبجدارة جائزة نوبل للأدب، فلا تتفاجأوا إذا احتفلنا معاً في المستقبل القريب بفوز أحدهم.
منذ أن لاحظ الخليل في القرن الثاني الهجري، ضمن مشروعه اللغوي:-
"كأنّ العرب توهموا في صوت الجندب استطالةً ومدّاً فقالوا: "صَرَّ" وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: "صرصر"، برز الدَّليل على تنبّه اللغويين على الصِّلة الطبيعية بين اللفظ ومدلولة.
فجرت محاولات لتأويل معان للأصوات، فكانت ملاحظات سيبوية عن هذه الصِّلة، كشرحة بأنّ المصادر التي تأتي على وزن "فعلان" تشير إلى الحركة والاضطراب، مثل "النَّقزان" و "الغثيان" – وفي هذا ما يؤكّد وجود الصِّلة بين اللفظ ومعناه…
ومن خلال الاستعانة المعتمدة على معجم لسان العرب والمحيط لابن منظور وبمختار الصّحاح وكذلك مراجعة أشهر الكتب مثل "البيان والتّبيين" للجاحظ و"الكامل" للمبرد و"العقد الفريد" لابن عبد ربه و"علم اللغة الحديث" لمحمد خولي، وغيرها يتَّضح أن بعض الحروف إذا بدئت بها الكلمات كان لها ايحاءات معيَّنة، وهي خاصيّة فريدة في اللغة العربية لا تُعرف في اللغات الأخرى. فحرف "الحاء" مثلاً يوحي بالتّوهّج والجدّة، حُبّ، حرب، حرارة، حرية، حرق، حتف، حَرّ، حزم، حزّ، حصاد، حماسة، حصار، حنان، جدّة، حنق…
وحرف "الشّين" يوحي بالشّر "الاستنكار":
شرّ، شيطان، شطب، شنَّ، شدّة، شرَه، شعت، شغب، شرارة، شرخ، شريد، شذوذ، شرس، شبكة، شؤم، شِرْك، شحّ، شقاء، شمَت، شنيع، شثيمة…
وحرف "الخاء" يوحي بالخبث:-
خبث، خداع، خوف، خنجر، خلاعة، خزي، خلل، خسارة، خِسَّة، خضوع، خطب، خطب، خطأ، ختل، خسأ، خطل، خيانة، خواء، خيبة، خشونة، خشية، خرف،خُلْف، خرافة، خبل، خذلان، خراب، خرط، خرس، خنا…
يتَّضح اتّكاء على ذلك أن التّجانس والائتلاف بين صوت الحروف ومدلولاتها زاد لغتنا ثَراء وتميزاً وسِحرا… فقد جاء في كتاب "التهذيب": العين والقاف لا تدخلان على بناء الاّ حسَّناه لأنهما أطلق الحروف فالعين أَنْصع الحروف جرساً وألذّها سماعاً والقاف أمتن الحروف…
وصباح الخير لـ -ضادي- مدينتي التي لا يتعتّر فيها حتى الغريب اذا تعثّر الاّ بجناح حمامة تحمل غصن زيتون، ولا يسقط اذا سقط الا في حُضن وردة…