مما لا شك فيه أن الإنسان يطلب لنفسه السعادة والحياة الطيبة التي تحفظ له كرامته وعزته، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا زكت نفسه وتطهرت من أسقامها. قال تعالى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) وعلى كل عاقل أن يبحث عن سلامة قلبه من الأسقام التي تنغص حياته، وحياة الناس من حوله، لينزل مكانها التواضع والمحبة والرحمة. وما أراه في هذا الجانب أن أخطر مرض على القلب اللإيماني الروحاني مرض الحسد، لأنه يحلق الدين من قلب الإنسان. وقد عرف العلماء الحسد بقولهم: (الحسد كراهية نعمة الغير وتمني زوالها عنه سواء تمنى انتقالها له أم لا) وهذا المعنى أكده معاوية بقوله ( كل أحد أقدر على رضاه إلا حاسد النعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها). فالحاسد لا يمكن أن يهدأ باله، فهو يتقلب من حسرة إلى أخرى وقد أشار إلى حاله هذا الخليفة عمر بن عبد العزيز بقوله: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع). وللأسف الشديد هذا الداء ابتلي به كثير من الناس، مما أوغر الصدور، وأفسد ضمائر الناس، وفرق شملهم ومزق كلمتهم إلى أن أوصلهم إلى استهانة الآخرين بهم، لأنه دفعهم إلى الاقتتال. والله تعالى يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). والمتمعن في سيرة الخلق يجد أن أول ذنب عصي الله به على الأرض كان الحسد، لأن إبليس لم يطع الله في السجود لآدم تكريما لخلق لله. وأن أول جريمة قتل وقعت على الأرض كان دافعها الحسد، حيث قتل ابن آدم قابيل أخاه هابيل، لأن الله تقبل من هابيل صدقته ولم يتقبل من قابيل. وهذا الداء من أخلاق المنافقين الذين لا يحبون الخير للناس. قال تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، إن الله بما يعملون محيط). وقال (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر). فالحاسد كالمنافق مهما عمل أحدهما على إظهار حسن خلقه ونزاهة سيرته، فلا محالة أن الله سيفضحه، لأن نار الحقد والحسد والنفاق تتغلب على وجهه، وفي عينيه ولسانه. ولبشاعة هذا الداء حذر منه النبي فقال (إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). أي أن الله لا يقبل عمل الحاسد لأن بحسدِه وكأنه يعترض على قسمة الله بين العباد، وهو دليل على عدم رضى العبد بقضاء الله، وفي هذا قال أحد العارفين (الحاسد جاحد لأنه لا يرضى بقضاء الله). وجاء في الحديث (الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل). ولكل هذا جاء النهي النبوي عن الحسد فقال: (لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا). ويستدل من هذا الحديث أن التباغض والقطيعة والغيبة من آثار الحسد ونتائجه المؤلمة, وقد حذر النبي الأمة من أمراض ستصيبها قال: إنه سيصيب أمتي داء الأمم قالوا: وما داء الأمم؟ قال: الأشر (كفر النعمة) والبطر (الطغيان)، والتكاثر (في جمع المال)، والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي (التعدي) ثم يكون الهرج (القتل)، وهنا إشارة واضحة إلى أن التشاحن في الدنيا والتحاسد عليها أصل الفتن، وعنها تنشأ الشرور والبلايا. وحسب الحاسد أن لا يناله من الناس إلا البغض والذم، ومن الملائكة تناله اللعنة، وفي نفسه الهم والغم والحسرة، فهو يكره الخير للناس، ويتألم منه، ويحب لهم الشر والأذى، كأنهم يأخذون الخير من خزائنه وبيته والذي هو من فضل الله (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)، قال أحد العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره على الناس. والحسود شحيح يبخل بنعمة الله تعالى على عباده، ويعادي فضل الله على خلقه. وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع). وبما أن الحسد مرض شديد الأثر في النفس والمجتمع، فعلى طالب الجنة ومرضاة الله، أن يكون حاله كذلك الصحابي الذي يخبر خبره أنس قال: قال رسول الله (يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة). قال: فطلع علينا رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعله في يده الشمال. ولما كان من الغد قال النبي مثل ذلك فطلع ذلك الرجل في اليوم الثالث بالمثل. فذهب إليه عمر بن العاص فقال: إني خاصمت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن أردت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت. فقال: نعم. فبات عنده يرقب أحواله في حركاته وسكناته. فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم حتى يقوم لصلاة الفجر. قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلن أراك تعمل عملا كثيرا يوجب تلك البشارة العظيمة، فما الذي بلغ بك ذلك؟ قال: هو ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشا ولا حسدا، على خير أعطاه إلله إياه. فقال عبد الله: فقلت هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق. وأخيرا نقول للجميع كل عام وانتم بخير، بمناسبة حلول رأس السنة الهجرية الذي يصادف يوم غد السبت.