علبةٌ من الذهبِ للكاتب وهيب نديم وهبه بقلم: الناقد بيان غضبان

مراسل حيفا نت | 25/04/2009

وهيب نديم وهبه، هو شاعرٌ وأديبٌ معروفٌ، تُرجمة كتاباته لأكثر من لغةٍ، وَوَصَلت معظم بلدان العالم. يحتضنُ الآنَ أدب الأطفال، ويتجلى توجُهُه هذا بكتابه "علبةٌ من ذهبٍ"، أبدعَ فيه الأديب الشاعر بكونه ينعتقُ من حوامة الدوران الذاتية، كما نراهُ عند كُتَّاب أدب الأطفال، فهم يصورون الطفل المتحدث عن نفسهِ، بنوعٍ من الرُبوطية البعيدة عن الانفعال الوجداني، وبكلماتٍ متكلفة نقرأها ونستمتع بها إلا أننا ننساها لبُعدِها عن النفس والشعور، أما "وهيب وهبه"، فيجعل الطفل أكثر ديناميكية، فالطفل عنده ليس مجرد قالب نُصِّبَ فيه كلماتٍ جافة وأحياناً جوفاء، بل طفل يتصور، ويحلم ويسعى لتحقيق أحلامه. الطفل عنده ليس فقط جسراً تعبر من فوقه كلمات ومعان نريدها أن تعبر وقد لا يريدها الطفل نفسه، بل الطفل عنده "كومبارس" رئيسي، يحلمُ ويناقش وينكر، إذاً هو يطبق عملياً أفكاره التي يؤمن بها، في سلوك نقدي مُعاشى.

الأديب الشاعر، يحاول في كتابه هذا معالجة النفس البشرية وهي ما زالت بذرة، قبل أن تنمو وتتفتح، وتكبرُ وَتَستحوذُ عليها الأنانية وحب الذات، يُريد لهذه البذرة (الطفل) أن تنمو وتكبر ومعها تنمو وتكبر المحبة للآخرين، والتضامن معهم، بالسراء والضراء، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون الحرية، التي هي حلم كل حر يريدُ العيشَ بكرامةٍ وسلام.

الكاتب وهيب نديم وهبه

هذا الكتاب هو ثورةٌ على الظلم، فأي حق يملكه الساحر في الكتاب، ليجعل الأميرة الجميلة مخلوقاً يمكن وضعه في صندوقٍ من ذهب، الصندوق هذا هو سجنٌ حتى ولو كان ذهباً، لأنه تعدي على أرادة الخالق في أن يحيا الجميع بتساوِ وسلام. وهيب يرفض الالتزام والاحتواء في أحزاب وشعوبية، لأن الأحزاب والشعوبية مصدرها بالفرد التي غَذّوهُ صغيراً بالشر والكراهية، لذلك نراه يتحدث للطفل عن الطفل، لقد تسنى له أن يرى مرارة الوضع حوله من كراهية الإنسان لأخيه الإنسان، فراح يصوره، رأى أن القمع عدو الحرية، والمسجون حتى لو كان في علبة من ذهب، هو سجينٌ، فوقف عليه معظم الكتاب، وعالجه بكل صورة ملمحاً على أن الإنسان يُمكنه تعلم التضامن والطمأنينة، المحبة والسلام حتى من الطيور والأشجار، وأن القمع عدو الحرية، وبالتالي عدو الإنسانية كعلبة الذهب التي سُجنت فيها الأميرة. الأميرةُ تحلم بهذه الحرية (ص4)، "أن تخرج مِن سجن الحكايات وسجن العلبة، … وأن يتركها الساحِرُ أن تعيش حُرَّة، وأن تكون كما كانت". نحن نقف أمام أدبٍ يفضحُ الظلم اللاحق بالإنسان، والذل الذي يتعرض له، فالساحر يمثل ذلك الإنسان أو الزعيم المتسلط أو تلك الأنظمة التي تُبطل حقوق الفرد ولا ترى غير مصلحتها الشخصية، ولو قلنا أنانيتها الضيقة لكان أفضل. أجل، قد يكون الدافع الأساسي وراء كتابه هذا، الدفاع عن كرامةِ الإنسان التي رآها مستباحة في الأنظمة التي عرفها … يُريدُ أن يكون السلام بين الجميع ويشمل الجميع، ليس بين أبناء البشر فحسب، بل بين جميع المخلوقات. في هذا النمط الفريد، يكشف "وهيب" جوهر فنه القصصي، ومقدرته الفائقة على إعادة صياغة الأحداث وتصويرها، فيصنع منها نبضات وجدانية ووخزات ضمائيرية يؤطرها فضاء قصصي يتميز بالصدق الفني الذي يمثل مولداً لتجربة كتابة أدب الأطفال اللطيف، الذي ينمي في نفس الطفل الرغبة للوصول إلى النفس المطمئنة لاحقاً كما قال "النفري" رحمة الله عليه، في تعاليمه الصوفية، "الجهلُ خاطرةٌ في العلم، والعلمُ خاطرةٌ في التعلم، والتعلمُ خاطرةٌ في المعرفة، والمعرفةُ خاطرةٌ في التعرفِ، والتعرف خاطرةٌ في المشاهدةِ، والمشاهدةُ خاطرةٌ في الوقفةِ، وفي الوقفةِ لا خطرٌ ولا خاطر…". يريد "وهيب" أن يقفز بنفسِ الطفل إلى مرحلة الوقفة حيث لا خطرٌ ولا خاطر، إلى النفس المطمئنة، لأن الظلم ظلمات، وهو لا يريد أن يظلم الإنسان أخاه. فإذا كانت المحبة تعم جميع المخلوقات والسلام يطمئنها، فلماذا الإنسان الذي خلقه الله عزَّ وجل في أحسنِ تقويم، يأبى إلا أن يعود إلى أسفل سافلين يقول (ص4): "كان غناء العصافير يملأُ أرجاءِ الغابة، وكانت جميع الحيوانات تُشارك العصافير الاحتفال الكبير، حتى أشجار الغابةِ". ثم يبدأ بالتفريد فيقول: "كانت العصافير ترقصُ فوق الأغصانِ، والأشجار تميلُ وتهتزُّ وتلمع أوراقها تعبيراً عن الفرح والسرور، هذا المشهد الرائعُ، احتفال الطبيعة بالحياة، أدخل السرور والبهجة إلى قلب الساحر. عندها بدأ يُفكرُ، لماذا لا يُقَدِّم هو لأطفال العالم ما يُفرح". الساحر البشري يستفيق أخيراً بعد أن رأى هذا التناغم والهرمونية بين مخلوقات الله على اختلافها، ليُبطل سحره ويطلق سحره ويطلق سراح سجينته من صندوقها الذهبي لتتمتع طيور السماء وأشجار الأرض بصوتها العذب، فالقمع لا ينفع، والتسلط لا يبقى، والأمل في أن الخير سينتصر هو ما يُريد الأديب الشاعر في أن يزرعه في عقول وقلوب الأبرياء الصغار. فالصور التي يرسمها وهيب، تترك أثراً بالغاً في النفس والذاكرة والخيال، من خلال النكهة الجديدة واللينة اللطيفة في طريقةِ السرد، وهي ميزةٌ فنيةٌ جديدة لدمجها بين السرد المشوق للقصة وبين الشعر العفوي البريء، الذي تستطيع العقول الملائكية للصغار أن تهضمه وتفهمه، وتتدرج معه ومع القصة.

لا أدري لماذا أشعر أن "وهيب" لا يُريد، بل أنه يحاول أن لا يتشابه مع أحد إطلاقاً، قد يلتقي مع من كتب من الأدباء والشعراء للأطفال أحياناً، لكن "وهيب" جعل هذا الأسلوب نمطه الخاص، وأنا كناقد أنوه بصفة خاصة بالدقة والإحساس الرهيب، وقوّة الملاحظة حيث تلتقط عيونه خصائص البشر، ومعايب الأفراد، في هذا العصر، فيجمع هذه الخصائص والمعايب في شخصية كلية أو مركبة كما يقول النقد الحديث، فيجعل منها مادة طيبة دسمة ترتاح لها العقول.

وفي هذا الكتاب يتبع "وهيب" التدريج والمنهجيّة في طريقة السرد، متطرقاً إلى أربعة مبادئ:

أ‌.        التدرّج من السهل إلى الصعب (الساحر، الأميرة).

ب‌.      التدرّج من المحسوس إلى المجرد (علبة الذهب إلى السلام، المحبة، الحرية).

ت‌.      التدرّج من الجزء إلى الكلّ (محبة الذات، إلى محبة جميع المخلوقات، الطيور، الطبيعة التي يقدم لها صوت الأميرة هدية).

ث‌.      يجمع بين التوجيه للخير والتدريب عليه وبين إيقاظ الإلهام لدى الطفل.

أما من حيث الشكل، فقد تناولت قصتنا مناهج ثلاثة، وهي:

1.      منهج العين الرائية أو كما نسمّيه، العين الفوتوغرافية، وهي أقرب إلى الكتابة السينمائية.

2.      منهج العين الباطنية / فاعلية الذاكرة / المونوج أو ما يُسمّى ب "تيار الوعي" بحيث تصبح الكتابة قريبة من الكتابة الشعرية، ف "وهيب" يريد أن يحرك ذاكرة الطفل لاحقاً، ليعي الفرق بين الخير وبين الشر.

3.      منهج ثنائي تقريبي، وهذا المنهج يجمع بين الفاعلتين: العين والذاكرة، بحيث تصبحُ الكتابة القصصيّة كولاجاً أو إنتاجاً للغات متعدّدة، ولأصوات متعدّدة.

فالقصة عدا عن كونها متعة ولذة للصغير هي تحريرٌ أيضاً للجسد والمخيّلة، وبحث عن اللا محسوس واللا مرئي الذي يُفرق الذات ويفصلها لتكون القصة متطورة ومواكبة للصغير في تطور عقله وفكره، ومن ثم تكون قادرة أيضاً على تجديد نفسها عبر تجديدها للنسوغ والخلايا، فيمكن أن يُضاف إليها ما يتلائم والجيل وهو ما يريده "وهيب"، فهو يضع الأساس والخطوط العريضة ويترك للمعلم المربي أن يتوسع كما شاء. فنحن بصدد شخصيات لا تصف الحدث بل تصنع الحدث وتتعلم منه أيضاً، بما تشتمل عليه من محكي ووصف وسرد وخيالات وتأملات تكون مندرجة وملتحمة بلحظات واسعة من الجدلية الاجتماعية.

أن تقنيات السرد في كتابة "علبة من الذهب" إضافة إلى ما ذكرنا من مبادئ ومناهج هي تقنيةُ السارد الموضوعي في تقديم المبنى الحكائي. هذا اللون من السرد والذي جعله "وهيب" نمطاً خاصاً به يمنح النص مصداقيّة أكثر ويجعل الشخصيات تتحرك بمعزلٍ عن إرادة الكاتب أو سلطته، استعمل "وهيب" ثلاث تقنيات سردية، أولها أسلوب السارد الموضوعي ما يشبه البورولوﭺ اليوناني ليحضر الطفل ويهيّئه لاستيعاب الأحداث. ثم استخدم أسلوب السرد ألتتابعي حيث تتناوب على السرد شخصيتان ترويان الحدث كلٌّ من وجهة نظره، وأخيراً ختم الحكاية بحيث جعلها بضمير الغائب المشترك. تعتبر هذه القصة من حيث الشكل والأسلوب والمعنى تطور جميل وتشير على قدرة الكاتب على الانتقال من صورة إلى صورة، ومن مستوى سردي إلى آخر. سلاسةٍ دون كسر حالة التراتبية في الحدث، ودون أن يشعر الطفل بالتنقل وذلك لشدة الممازجة بين الصور، ولأن الحدث ينتقل دون تفكك في إطار واحد، وهذا أمر يستحق التقدير. لقد تناوَلْتُ اليسير من هذا الكتاب لأرسم الخطوط العريضة له، حتى يستطيع القارئ الدخول في أعماقه الجميلة، فالكتاب جدير بأن يُقرأ وأن يؤخذ بعين الجدّية والاهتمام، فالطفل أبو الإنسانيّة، أتمنى للأديب الشاعر وهيب وهبه المزيد من هذا العطاء الناجح. 

إشارات:

        الناقد بيان غضبان –  حاصل على الماجستير من جامعة برلنجتون فايرموت الأمريكية عام 1996 – كتب العديد من الأبحاث النقدية والأدبية والقصائد – صدر لهُ عده كتب –

        القصة عبارة عن رحلة في أقاليم العالم السبعة من أجل تحرير الذات والأرض والعودة إلى أرض الوطن

        عدد صفحات الكتاب 64 مع الرسومات / عدد الرسومات 12 مع الغلاف / حجم الكتاب 17عرض طول 25 / سنة الإصدار 2009

        دار النشر اسيا بالأشتراك مع منشورات سلامة زيدان للنشر والتوزيع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *