مُقلِق وخطير جدًّا ما يدور عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ المختلفة، وخصوصًا الـ"فيسبوك" منها، من "حروب" افتراضيّة/فعليّة، تعدّت لدى البعض الخطوط الحمراء..!
وكنت قد تطرّقت – ضمن مقالة بعُنوان "وجه المجتمع الحقيقيّ"، في العدد الأخير من صحيفة "حيفا" – إلى العنصريّة المتفشّية والتّحريض على عرب هذه البلاد ويهودها، واستباحة دم العربيّ لمجرّد كونه عربيّـًا؛ وحذّرت من مغبّة وخطورة الانجراف والانجرار وراء الانفلات الفاشيّ والعنصريّ، وطالبت المجتمع العربيّ بالتّصرّف بحنكة ورويّة.. ولكن حصل ما كنت أخشاه!
ففي ظلّ قصف قطاع غزّة، ضمن عمليّة "الجّرف الصّامد"، ولأنّ الأرض كانت متّقدة والأجواء مُلتهبة في أعقاب موجات التّحريض والاعتداءات، بات كلّ تصريح "بائس" عبر الـ"فيسبوك"، وكلّ "تغريدة" صغيرة عبر الـ"تويتر"، لعرب هذه البلاد، غير واضح/ة ولا مُباح/ة(!).
نعم.. فبالإضافة إلى وَحدة مكافحة جرائم الكمپيوتر التّابعة إلى هيئة التّحقيقات "لاهڤ 433"، الّتي شرعت في فتح ملفّات جنائيّة ومحاكمة بعض المحرّضين؛ تقوم وَحدات إضافيّة خاصّة في الشّرطة والأمن العامّ (الـ"شاباك") بمراقبة كلّ "صغيرة" و"كبيرة" عبر الـ"فيسبوك"، وغيره من وسائل التّواصل الاجتماعيّ..!
ومَن يراقب الـ"فيسبوك"، مؤخّرًا، يشعر وكأنّه يعيش حربًا طاحنة – رغم أنّها افتراضيّة – بالتّزامن مع الحرب الدّامية على أرض الواقع. يحاول، خلالها، كلا الطّرفين "عرض عضلاته"، من خلال تصريحات وعبارات يجدها كاتبها وطنيّة ومشرّفة، نابعة من جرح أليم نازفٍ لا يندمل، بينما يجدها الطّرف الآخر مُغرضة ومُحرّضة وخطيرة، تهدّد "أمنه"!
علينا ألّا نكون أغبياء.. فكلّ مَن يعتقد أنّ هناك ديمقراطيّة مُطلقة في جميع مناحي الحياة – في هذه البلاد – فهو واهم وغبيّ، فعلًا. فمنذ قيام الدّولة وحتّى اللّحظة، وفي غالبيّة الحالات، تتعامل الشّرطة وأذرعها الأمنيّة المختلفة مع عرب هذه البلاد الأصلانيّين بيدٍ من حديد، بينما تتعامل مع اليهود بقفّازات من حرير. نعم.. فقرارات وأحكام محاكم "العدل" المختلفة – الجنائيّة منها والأمنيّة – الصّادرة بحقّ عرب هذه البلاد – وللتّهمة ذاتها – تختلف عن تلك الصّادرة بحقّ يهود هذه البلاد. ويمكنكم التّأكّد من ذلك بمراجعة ألوف القرارات والأحكام..!
وحسَب هذه المعادلة – وغيرها من المعادلات غير المُنصفة – سيختلف تفسير تصريح العربيّ عن تفسير تصريح اليهوديّ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، لدى الشّرطة. فيفسَّر الأوّل على أنّه مُحرّض ومُغرض ويهدّد أمن الدّولة، بينما سيُفسَّر الثّاني على أنّه وطنيّ وحرّ.
ومن باب التّذكير، لا الدّونيّة.. وحسَب تصنيف المؤسّسات الحكوميّة، سيبقى العربيّ عربيّـًا في هذه البلاد، مهما كان "مُخلصًا"؛ ضابطًا كان أو جنديّـًا، مُتعاونًا كان أو شرطيّـًا، مسجونًا كان أو سجّانًا.. فسيظلّ يتأرجح – في أحسن حالاته – ما بين درجة "ب" وأدنى، لأنّه لن يصل – وفق تصنيفاتهم – إلى درجة "أ"! هذا هو الواقع؛ وكلّ مَن ينكره فهو أعمى البصر والبصيرة.
وحسَب ما وصلني من مصادر موثوقة، قامت الشّرطة، مؤخّرًا، باستدعاء عدد من القاصرين والشّباب (الأسماء محفوظة في ملفّ التّحرير)، للتّحقيق معهم في أعقاب تصريحات و"تغريدات" لهم عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، بل قامت بتفتيش بعض المنازل أيضًا، مدّعيةً أنّ ما نُشر يدعو إلى التّحريض ويتعرّض إلى أمن الدّولة(!). كما قامت بعض الشِّركات اليهوديّة الكبيرة الخاصّة، غير الحكوميّة، بترجمة بعض ما كتبه موظّفوها العرب في وسائل التّواصل الاجتماعيّ! وتدرس، حاليّـًا، إمكانيّة فصلهم من العمل!
أنا لا أدعو إلى الخنوع والتّقوقع والسّكوت والخوف، وعدم التّعبير عن أنفسنا أو عمّا يجول في دواخلنا وخواطرنا؛ من قلق وألمٍ وحزن لما نعانيه من تمييز عنصريّ وتحريض فاشيّ واعتداءات، ولما يعانيه شعبنا الفِلَسطينيّ من حصار وتجويع ودمار وقتل.. من حقّنا التّعبير عن سخطنا وغضبنا وألمنا، والتّظاهر والمطالبة بحقوقنا، وبحلّ أزماتنا وبدحر الاحتلال وتحرير شعبنا وإقامة دولته الفِلَسطينيّة المستقلّة؛ كلّ ذلك بشكل مشرّع وقانونيّ وسلميّ، بعيدًا عن التّحريض عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وحرق الإطارات ورجم الحجارة في المظاهرات؛ فلا نريد لبناتنا وأبنائنا، لفتياتنا وفتياننا، لشابّاتنا وشبابنا، ملفّات جنائيّة وأمنيّة بحُجج وادّعاءات واهية..
إنّ التّحريض والتّهوّر لا يصبّان في مصلحة أحد.. وما قد تكتبه – أيّها العربيّ – عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتجده مُشرّعًا وقانونيّـًا، قد تجده الشّرطة وأذرعها الأمنيّة – خلاف ذلك – على أنّه قد تعدّى الخطوط الحمراء(!). علينا عدم الخوف، ولكن علينا، أيضًا، توخّي الحذر بكلّ ما نكتبه؛ فلا نريد لكلمات افتراضيّة أن تشكّل دليلًا ملموسًا وواقعيّـًا، فتنقل كاتبها من الـ"فيسبوك" إلى ما وراء القضبان!
(*) الكاتب صِحافيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا".

[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/77892122420141107034651"]