سقوط حيفا – من يَوْميَّات بَرْهُوم البُلْشُفي .دخالد تركي- حيفا

مراسل حيفا نت | 22/04/2009

 

سقطت حيفا.

سقط سواد العيون.

سقط قلب فلسطين الخافق.

سقطت عروس السّاحل الشّاميّ للبحر الأبيض.

سقطت في نيسان، قبل أن تُحييها شتوية نيسان. كانت المؤامرة كبيرة. كان الثّمن باهِظًا. وما كان للسّكان إلا الهروب من مجهول ليختبِئوا في ثنايا مجهول آخر، سائلين أنفسهم: تُرى ماذا يُخَبّئ لنا هذا الغول. ماذا يُخبّئ لهم هذا الغول في زمن غابت فيه العنقاء ولم يعد ذكْرٌ للخلّ الوفيّ. وأصبح الاعتماد على الذّات مفرّ المناضلين في نضال غير منظّم نسبيًّا مقابل تنظيم على مستوى أوروبي كامل ودعم أوروبي وعالمي وعربي والّذي كان سبب الفشل والسّقوط، وكأنّ هذا الثّوب كان مُفَصّلاً مُسْبقًا على قدّ العروس وكان عليها لبسه مرغمةً، أو كان عليها الشّرب من هذا الكأس الممزوج بالحنظل مُسبقًا لتشربه مُكرهةً، لتُسقِطَ عن وجوههم كلّ الأقنعة إلى أن سقط القناع الأخير عن القناع الأخير. سيذكركِ أهلك يا حيفا، سيذكرُ أهلك السّاكنين فيكِ أهلَهُم في الشّتات كما ستذْكُرُ أحياء وبيوت وبساتين الياسمين في حيفا أهلَها الّذين طُرِدوا وسيذكُرُك المنفِيّون أو اللاجئون مهما طال البُعاد، سيذكركِ كُلّما قبّلت ولاطفَت أمواجُ بحركِ ساحلكِ أو أشرقت شمسُكِ أوكلّما طلع البدرُ، بدرُكِ، علينا. سيذكركِ أهلُكِ إلى أن ينام القمر. ولا أحد يشفع للعروس غير عريسها.

فقد اشترى داود، أخ برهوم الأكبر، الّذي حمل همّ العائلة جمعاء على كتفَيْهِ إلى جانب هموم شعبه ووطنه، مسدَّسًا ألمانيًا من نوع بارَابِلّو، بأربعين ليرة فلسطينيّة، أي ما يُقارب معاشه الشّهريّ ويزيد. حيث كان يحرس حارته وهي المنطقة الواقعة بين شارع ياقوت ومار يوحنّا. يومها كان متمركِزًا وراء متراسٍ، ووجهه نحو عمارة شركة الكهرباء، الواقعة في نهاية شارع مار يوحنّا، بتقاطُعِهِ مع طريق أللنبي، وحين كان موجِّهًا انتباهه إلى ذلك التّقاطع، أتاه صديقان متطوّعان لُبنانيّان من مدينة بعلبك، وعلى رؤوسهما كوفيّتان بيْضاويان وعقالان أسودان وهما نايف كحيل، شابّ أشقر الشّعر أزرق العينيْن ذو قامة عالية ومليئة وابن عمّه محمّد كحيل مثليه في الهيئة، ليُبَدِّلاه، قائلين له: زيح هيك يا داود وروح ارتاح. لكنّه حال إخلاء موقعه لهما، وإذْ برصاص الجيش البريطاني يأتيهما من الخلفِ من بارودة جُنديٍّ بريطانيٍّ كان قد ترجّل من مُصَفّحتِهِ، قتلهُما غَدْرًا، فَيُصيب رصاصه المُتطوِّعَيْن اللبنانِيَّيْن من أبناء كحيل ليُسقِطهما شهيدان من أجل حيفا، ويُحدّد برهوم مكان استشهادهما، حيث كان في شارع مار يوحنّا رقم 15. ويُقال أنّ هناك من وشى للإنجليز بوجودهما هُناك في تلك النّقطة.

لقد كان لكلّ مدافع مسدّس مختلف عن المدافع الآخر وكذلك ذخيرته، حتى أنّه إذا انقطعت عنه الذّخيرة لا يجدها عند رفيقه، وفي حالات أخرى كانت الفتية تنظّف الرّصاص "بورق الزّجاج" لتُصبح سهلة التّعبئة في مخزن البواريد الفرنسيّة القديمة كانوا قد حصلوا عليها من اللجنة القوميّة…  

ويذكر برهوم كيف أنّ "الهجاناة" كانت تُطْلِقُ عنان البراميل تتدحرج من علٍ لتصل الوادي أو الأماكن الواطئة، فمرّةً دحرجوا برميلين من البارود من درج الطّنطورة إلى وادي النّسناس وقد أحدث تفجّرهما إصابات بالغة لعدد من المارّة والمباني، وطبعًا كان هدفهم من هذا القتل والتدمير، التّرهيب والتّخويف والنّزوح.

كان يتأجّج لهيب النّار والحرب كُلّما تقرّرت الهُدنة لوقف إطلاقه، أو إن دامت أكثر من يوم، فلم يرتح الإنكليز ولم تَغْمض لهم مُقلة بسياستهم "فرّق تسد" لأيّة مُصالحة. فيتذكّر برهوم أنّ الإنكليز أتوا برجل دين يهوديّ إلى حيّ وادي النّسناس، حيث تركوه هُناك لِيُعتدى عليه وكانت فِطنة أهل الحيّ كبيرة حيث نقلوه إلى منطقة الهدار من حيثُ أحضروه. وحدث العكس أيضًا، إذ أخذوا عربيًّا وتركوه في المنطقة اليهوديّة لكنّ اليهود أرجعوه إلى حيِّه سالِمًا ومتفادين بذلك عرقلة دوام الهُدنة. حالة مُشابهة يذكُرها طيّب الذّكر أبو طوني حنّا نقّارة، في مذكّراته الّتي جمعها أبناؤه في كتاب "حنّا نقّارة محامي الأرض والشّعب" أنّه إن دام وقف إطلاق النّار بضعة أيّام انزعج الانكليز. إذ راحت القنّاصة تحتلّ مراكز عالية في المدينة في الأماكن المُتاخمة لمناطق السّكن العربيّة كعمارة سلام (الحولة) وعمارة الخيّاط وسطح عمارة البريد في شارع البرج وسطح عمارة سلَمون لتوجيه الرّصاص باتّجاه اليهود تارةً وباتّجاه العرب تارةً أُخرى، ليندلع أو ليتجدّد إطلاق النّار وتتجدّد الحرب.

قبل تهجيج العائلة وترحيلها أسوة بباقي عائلات حيفا وسكانها، قرّر داود (أبو عايدة) البقاء ورفاقه للدّفاع عن حيفا، على أن يرسل والدته وإخوته الصّغار، خارج المدينة، ربّما ليجدوا قسطًا من الرّاحة والأمان. لكنّ والدته أصرّت على البقاء مع فلذة كبدها مُفَضِّلةً إلقاء نفسها في البحر على تركه لوحده، في حيفا. فوجدوا ملجأهم كباقي سكّان البلد في كنائس وأديرة ومساجد وجوامع حيفا. ويروي برهوم أنّه يوم سقوط حيفا كان أخوه داود يعملُ في قسم الجمارك في الميناء حتّى الثّامنة صباحًا، على أن يبدأ عمله في المكتب الرئيسي، حيث كان يعمل بوظيفة كاملة ودائمة في بناية الجمرك الواقعة في "ساحة بالمار" باب رقم خمسة. لقد كانت حيفا مركز جمارك فلسطين، ومنفذها الوحيد للبحر، ميناء حيفا وهو ثاني أهم ميناء في شرق البحر الأبيض بعد الإسكندرية، ومركزها البرّيّ من خلال سكّة الحديد الحجازيّة، وفيها مركز لشركات كُبرى مثل "آي بي سي"، وشركة "الشيل" وشركة "ستيل" ومصفاة البترول وشركات البواخر، وهذه المراكز فتحت وفسحت المجال لسكان حيفا العرب واليهود للعمل سويّة إذ ارتبطت أواصر الصّداقة والمودّة بين جميع السّكان في حيفا، من عرب ويهود. لقد كانت حيفا وما زالت مدينة ذا خصوصيّات مميَّزة بتعايُشِها فلم يسُدها التطرّف ولا التّوتّرات إلى وضعت الحركة الصّهيونيّة والإنكليز كامل ثِقلهم فيها لإحداث وتنفيذ مآربهم. فقد كان سُكّانها يتعاونون ويتعاملون مع بعضهم البعض يوميًّا في أماكن عمل واحدة وتحت سقف واحد، في المصانع والموانئ والمكاتب والمدارس والمتاجر والدّوائر الرّسميّة، الحكوميّة والبلديّة والقضائيّة. فكم من مرّة نظّم اليهود والعرب بآلافهم إضرابًا ضدّ حكومة البلاد الانتدابيّة، إن كان إضراب موظّفي الحكومة أو العمّال في شركة آي بي سي.

لقد رأى أبو عايدة الحقيقة واضِحة كقرص الشّمس في قُبّة السّماء. وحين طُلِب منه التّوقيع والموافقة على التّقسيم رفض. رفض الموافقة على نقض مواقفِهِ. ليجد نفسه لاحِقًا مطرودًا أو مفصولاً من العمل.

رأى أبو عايدة تهجير سكّان حيفا العرب عن طريق الميناء بآلافهم ورأى كيف يُسهّل لهم رجال الأمن البريطاني المرور عبر نقطة الحدود البحرية، فاتحين أبواب الميناء للنّازحين العرب من جهة محطّة الكرمل وشرق حيفا وجنوب المدينة ليلتجِئوا إلى ساحات الميناء والانتظار للبواخر البريطانيّة الّتي انتظمت بإيعاز من الإنكليز وتحت حراستهم ورقابتهم لنقْلِهِم بحرًا إلى مدينة عكّا، أو برًّا بسيّارات انكليزية أو صهيونيّة إلى الحدود اللبنانيّة وبدون مُقابل، المهم النّزوح عن حيفا وتطهيرها من العِرْق العربي، والتّأكد من أنّهم قد انتقلوا إلى هناك حسب المُخطّط. لقد تجنّد الانجليز والعصابات الصّهيونيّة لنقلهم باتّجاهٍ واحدٍ فقط، فيذكر طيّب الذّكر أبو طوني أنّه حين أراد العودة بحرًا إلى حيفا وجد رفضًا قاطِعًا من رُبّان البواخر العسكريّة الإنكليزيّة ومنعته وعائلته بصفاقةٍ شديدة من العودة، لكنّه عرف كيف يعود ليكون الخادم القضائي لشعبه في وطنه.

لقد بقيَ في حيفا يوم سقوطها حوالي ألف وخمسمائة عربيٍّ من مجموع ثمانين ألف عربيٍّ كان يسكنها وهناك مصدر آخر يذكر بقاء زهاء ثلاثة آلاف عربيّ من مجموع سبعين ألف عربيّ.

 أرادوا حيفا نظيفةً من العرب. صحيح أنّه تعالت أصوات يهوديّة رسميّة وغير رسميّة تطالب العرب بالبقاء كآبا حوشي وشبتاي ليفي ولكن الواقع كان عكس ذلك، فأخبار المجازر والقتل والفتك لأهلنا من قبل العصابات في قرى قضاء حيفا كالطّنطورة وإجزم وكفر لام وعين حوض وعين غزال وأمّ الزّينات أرهبت أهل حيفا، ولا ننسى دعم ومسئوليّة لجنة الطّوارئ العربيّة الّتي طلبت (وكأنّه كان هناك سبب لكذا طلب) تسهيل النّزوح، ليصبح أهل حيفا لُقمةً سائغةً لمؤامرات الإنجليز والصّهيونيّين، كان المُخطّط تشريد سكّان جميع قُرى السّاحل الفلسطيني من رأس الناقورة شمالاً إلى غزة هاشم جنوبًا.

لذلك لم يؤيّد المناضل أبو عايدة داود تركي دخول قوّات فوزي بك القاوقجي المدينة على اعتبار أنّها كانت مسرحيّة مدروسة لنهاية معروفة ومُبرمجة.

رأى، داود المؤامرة بوجهها الصّحيح، تآمر صهيوني بريطاني ورجعي عربي محلّي ومن أقطار عربيّة أخرى على فلسطين، وعلى أهل فلسطين العرب ، الّذين وجدوا "باللجوء المؤقّت لسبعة أيّام" كما طُلِبَ منهم حلاً مؤقّتًا ليمتدّ إلى يومِنا هذا، فقد وجد داود نفسه مؤيّدًا ومُسانِدًا وعضوًا في عُصبة التّحرّر الوطني، لاحِقًا.

سقطت حيفا بتاريخ 22/4/1948 أي قبل انتهاء الانتداب البريطاني بثلاثة أسابيع، فقد كان من المفروض أن ينتهي بتاريخ 15/5/1948. وهذا أعطى الضّوء الأخضر للقوّات الصّهيونيّة لتطبيق الخطّة الّتي وضعتها للاستيلاء على حيفا بكاملها وفق خطّة أُطلق عليها اسم "المقَصّ = مسبارايم" لتمزيق حيفا العربيّة إلى ثلاثة أقسام. وقد تواجدت في حيفا خلال أيام احتلالها فرقة كرميلي بقيادة موشي كرميلي الّذي خشِيَ أن يبقى في حيفا عدد كبير من العرب فأمر بقصف مراكز تجمّع سُكْناهم، في الأحياء التحتا لحيفا بالمورتار، لإثارة الرّعب في قلوب السّكان العرب لدفعهم ترك البلد. زِد على ذلك المجازر الّتي اقترفوها في وادي روشميا وبلد الشّيخ والحوّاسة (الّتي كانت بلد العمّال والفلاحين الفقراء حيث كانت بيوتهم من التنك).

قام الرّفاق توفيق طوبي وطيّبا الذّكر الشّاعر عصام العبّاسي ويوسف عبده بكتابة منشور باسم "عصبة التّحرّر الوطني" في نادي "إميل توما" اليوم والّذي كان مقرًّا للعُصبة في درج الموارنة، يدعون فيه السّكّان إلى عدم الرّحيل وترك البلد، حيث وزّعوه في كلّ مناطق حيفا العربيّة حتّى الميناء، وقام بعض الرّفاق بنقل المنشور تحت النّار إلى عكّا والنّاصرة، لتوزيعِهِ. ويروي الرّفيق أبو الياس توفيق طوبي في كتاب "جذور من الشّجرة دائمة الخضرة" أنّه طُلِبَ من العرب ألانتقال من أماكن سكناهم والتّوجه للتّمركز في وادي النّسناس وفي حيّ عبّاس، "وينقل توم سيغيف هذا الحدث عن بروتوكول الجلسة المحفوظ في أرشيف الجيش الإسرائيلي ويُشير إلى ردّ توفيق طوبي الرّافِض لعملية التّجميع واصِفًا هذا السّلوك بأنّه بمثابة غيتو للعرب وبأنّها خطوة عنصريّة مرفوضة" ومع ذلك فقد جرت العمليّة بأوامر وإشراف الجيش. وجملة أخرى قالها الرفيق أبو الياس لرفاقه وأهله "سأبقى هنا لرعاية الجمرة والعمل على عودتكم مع أهلنا الى حيفا".

بعد سقوط حيفا نزحت العائلة إلى الجليل لتعود بعدها إلى حيفا، كما جاء في الحلقات السّابقة. ومن هنا بدأت حيفا مرّةً ثانية.

يتذكّر برهوم عمل الشّيوعيين العرب واليهود في حيفا لمنع النّزوح أو لإعادة من نزح أو تحرير بيوت النّازحين بعد عودتهم إلى حيفا، ففي حادثة يذكُرُها أنّ الرّفاق اليهود تلقّوا خبرًا من طيّبة الذّكر بنينة فاينهاوز مفاده أنّه هناك شِلّة من الجيش تحتلّ بيتًا في شارع عبّاس، فصعدت إلى تلك المنطقة ثلّة من الرّفاق كان من بينهم الرّفيق بنيامين غونين، وبعد نقاش وتداول وحتّى صدام، قيل للرّفاق ما لكم وللعرب، فكان الجواب: جئنا لنُرجِعهم بيوتهم ونُرجِع لهم بيوتهم. فاتّصلْتُ بالرّفيق بنيامين الّذي روى لي حادة مماثلة، بعد أن صادق على حادثة عبّاس، أنّه ورد نبأ تجميع بعض من سُكّان حيفا العرب في منطقة جبل الكرمل، قبل الجامعة اليوم (دينيا) لرميِهِم بالرّصاص، لكنّ قدوم الرّفاق ومن بينهم بنيامين غونين السّريع لتلك المنطقة ساعة وصولِهم الخبر حال دون قيام المجزرة.

أذكرُ أنّه في إحدى زياراتنا الانتخابيّة في شرق حيفا، استقبلتنا عائلة بحفاوة بالغة عرفنا سببها لاحِقًا حين حضر جدّ العائلة أبو محمّد، معلِنًا تأييده للحزب الشّيوعي والجبهة بقوله: بفضلهم بقينا في حيفا وبفضلهم رجعنا إلى بيتنا ورجع لنا بيتنا ورجِعت لنا أملاكنا. وأمّ حنّا من حيّ وادي النّسناس تروي قصّة أخرى مشابهة وتحيّ فيه دور الشّيوعيين في إرجاع غُرفةٍ من بيتها إليها كانوا قد أخذوها من عائلتها. وللحديث تتمة والسؤال يبقى من سيكتب هذا التّاريخ قبل ضياعِهِ. والأمل يبقى بما قاله الرّفيق توفيق طوبي "سأبقى هنا لرعاية الجمرة والعمل على عودتكم مع أهلنا الى حيفا". والأمل باقٍ بمطلع قصيدة أبو عايدة:

سَنَعُودُ يا حَيْفَا وَتَحْتَفِلُ          بِجُمُوعِنَا الوِدْيَانُ وَالجَبَلُ.

وعلى أرضنا السّلام والوئام. ولنا عودة. فنشيد العودة يبعث الأمل فينا:

لا لن يطول بُعدي وسوف تُبصرُ عودي

نعم سأعود وتُفنى القيود وسوف أراك حماي

                                     ديار الحمى ستمحي الدّماء                                     

ويُطوى عن الأرض العذاب

فيزهو السّلام ويحيى الوئام

وأرجعُ بعد اغتراب

 

  

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *