مقال للكاتب سلمان ناطور في ذكرى61 عاما على سقوط حيفا-48/4/22

مراسل حيفا نت | 22/04/2009

الكاتب سلمان ناطور

الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه ، يمشي جنبا الى جنب مع سنوات هذا القرن ، هو يتراجع، والسنوات تتقدم ، ببطء لكن بحزن ، بألم ، بحسره .. يستقيظ مع طلوع الشمس .. يترك البيت .. ويمشي في شوارع حيفا – ي.ل. بيرتس ، هنفيئيم ، مندلي موخير سفريم ، أبراهام أفينو ، ساره أمينو. أسماء لا تثبت على لسانه  وشوارع لا تثبت عليها قدماه .. يبحث عن مقعد في حديقة .. يجتمع حوله أصدقاء ، عندما كان هو "عربجي " ، سكة مكه ، في حيفا .. كان هؤلاء الاصدقاء يبنون قصورهم في بغداد والاسكندريه وأولادهم على مقاعد الدراسه يستعدون لادارة قسم الهويات في دائرة الهجره ..

ألبوم صور يوثق سقوط حيفا 1948

نقول : حرب ال 14 .. (الحرب العالميه الاولى) .. يقول كنت في ال 14 .. نقول حرب النكبه يقول كان عمري 48، ويضيف : "بلغتها يوم ما كان مدفعهم على البرج ، وضرب قنبلة فيها كبريت أصفر على الساعه، قرب مسجد الجريني ، فسقطت الساعه ، قلت : "سقطت الساعه ، سقط الوطن " .. ورحت أبحث عن شريكي ، أبراهام شميدو ، هالعكروت كان صار بايع الخان وبايع الشراكه ".

" كان "الهدار " كروم عنب لدار الخمره وبيت سلام والهواش .. واشتراه ممثل الكيرن كييمت اللي كان مكتبه في شارع ستانتون .. واشترى تل السمك والعزازيه وسلمها لليهود .. ساعدهم برومزا حاكم المركزيه .. فتحوا مكاتب وصاروا يشتروا في هالبلاد ، وهالسماسره والاقطاعيين يقدموا لهم الغالي والرخيص ، البارون اشترى حتى زمارين ، والمنطقه الالمانيه ، كانت مع الالمان من أيام تركيا ، بعد ما اجا قيصر المانيا غليون (ويلهلم غليوم) وطلع على البونط . أول ما وصل طلب الموارس من مشيرية عكا ليعطيها للالمان اللي سبقوه . قام الاهالي صاروا يكيلوها بالحبل . وبعدين ركب حنطور جورج سوس وراح القدس . الالمان كانوا يشتغلوا فلاحين وعربجيه ، مثلنا مثلهم ، بعدين فتحوا الشوارع للقدس وصارت نسوانهم تشتغل على العربات وهم ينقلوا السواح ، ويتمركزوا في الكرمل ، سكن واحد اسمه كيلر. وبعدين اجا شنايدر. وبعدها الراهبات واشتروا أم العمد وبيت لحم من الفرد تويني وباعوها لموسى خانكين زلمة الكيرن كييمت. إحنا هالفقرا ما عرفنا هالبلاد كيف طارت، ولما الفقرا كانوا يرفعوا صوتهم كانوا يكسروا رؤوسهم .. جاري في حارة الكنايس كان الشيخ عز الدين القسّام .. أصله من اللاذقيه .. كان فقير ورجل دين تقي يهدي علي ويوعظني ، لأني كنت أشرب كثير ، كل المشايخ كانوا ضده : الحج خليل وحسن بك وابراهيم بك وسليمان بك الصلاح والحج عبدالله ، كلهم كانوا ضده. ليش : لأنه فقير حربجي بده يحرر هالبلاد ، جماعته كلهم الفقراء والفلاحين المقطعين ، واحد من هون وواحد من هون .. منا يا هالفقرا .. قتلوه الانجليز .. هو وجماعته ، حصدوهم في يعبد .. حياة الشيخ كان مخلص لجماعته .. والله البيكوات والبشوات ما في نفوسهم ذمه .. لا والله .. كلهم حراميه وكنت تشتري الواحد بصرماي .. قبل ما يأخذوا الحكم كان لي صديق يهودي اسمه داهود كوهين بيشتغل عند اهرونسون. يوم ناداني. رحت لعنده : قال لي معكاش خبر ؟ أخذنا البلاد. جيب ولادك على زمارين !

حدثنا الشيخ المشقق الوجه عن ساحة الحناطير ، "كانت مثل محطة التكسيات هالعربات والحناطير واقفه تنتظر .. واحد رايح على المحطه يدفع عشر قروش ويركب .. واحد رايح على أم الجمال .. على الشونه .. أم العلق .. الخريبه .. الياجور .. المراح .. بريكه .. الغيبه .. كان يركب معنا ونوصله " ..

ذكر الخضر ، فاقتربت زوجته وقالت انها ستحكي لنا هالخرفيه :

"مره كنا نصيّف في الخضر ، وصلوا زوار من كل البلاد ، ذبحوا هالذبايح ونزلوا العرق في التناك .. وقاموا القيامه .. بعد ما أكلوا وشربوا ونزلوا عالبحر .. لما فاتوا ضيعوا وصاروا يغرقوا .. فزعت الناس تدب الصوت.. اللي جوزها في البحر ، اللي أخوها .. والختياريه يا حرام صاروا يتدعوا : دخلك يا خضر ، أطلعهم يا خضر !

ما شافوا الا واحد قاعد على الشختوره وفات على نص البحر .. صار يجيب عالشط ويرمي في هالناس .. يجيب ويرمي .. خفى الله يا ربي خمس ست نقلات . بعدين فقدوه ما وجدوه ، قرص ملح وذاب .. قدرة الله .. الناس صارت تقول : هذا الخضر .. ما غرق ولا واحد .. بعدين غنوا ودبكوا وزمروا .. وما حد نام يومها .. كانت سهره ما في أحلى منها .. "

لم يسمح لها بأن تواصل الحديث : قال : الخضر حي ! الخضر حي !

كانت هناك مغاره .. جاء أسعد الخضر وبنى حولها .. وشيدت بنايات جميله في ذلك الموقع الذي يطل على البحر .. ولم يتوقع أحد من الذين كانوا يسضيفون في الموقع المقدس بأنه سيأتي يوم وتصل الى حيفا أخبار دير ياسين حيث يصبح "رأسمال الزلمه فشكه "..

" كنا ، مش عارفين حالنا وين . طاسه وضايعه ، الانجليز ينهشوا فينا واليهود ينهشوا فينا ومشايخنا ينهشوا فينا .. وكلمه تأخذنا وكلمه تودينا .. ومن يوم ما علمونا "سيف الدين الحج أمين " اللي صار بعدها ما تحمله القرود ..

كان ذلك في نيسان 1948 .. في  هذا الشهر الربيعي .. كان جنود بريطانيا يجمعون أمتعتهم ، بعد أن سلموا أسلحتهم لقوات الهاجانا ، واستعدوا لمغادرة هذه المدينة التي انتعشت فيها التجارة وازدهرت في السنوات الخاليه. وأول خبر وصل عن دير ياسين روى كيف كان الجزارون يشقون بطن المرأة الحامل ويمزقون حناجر الأطفال ويطوفون بجثث القتلى عند باب الساهره .. وإذاعة الملك عبدالله وبريطانيا العظمى ترعب قلوب الناس بما سيفعله اليهود للعرب الذين سيبقون في بيوتهم .. كانت مدافعهم تقصف المدينة من عمارة البرج ، هرب اليهود لمنطقة الهدار .. وظل العرب تحت القصف المركز ، وصرير المدافع .. وسمعوا نداءات تقول لهم :

ابقوا في بيوتكم ولا تغادروا الوطن ! لكن المدينة الحالمة أفزعتها "بومباية )قنبلة) سقطت على المحطه ، وأخرى على الساعة التي كانت "تشبه ساعة لندن " ، وأخرى بهيئة برميل معبأ بالبارود دحرجوه على الدرج النازل الى وادي النسناس وأخرى .. وأخرى .. وأخذ جيش الهجاناه ينظف الاحياء العربية من أهاليها

 .. "كان الانجليز يدخلوا على البيوت ويسألونا : بعدكم قاعدين ؟ اليهود راح يدبحوكم اذا بقيتم في بيوتكم ! احملوا أغراضكم ويالله عالبور ..

الانجليز لعبوا اللعبه القذره .. من جهة يصرحوا أنهم بيدعموا الملك ضد اليهود ومن جهة ثانية ما تركوا قطعة سلاح الا وسلموهم اياها .. وكانوا يساعدوهم على تهجيرنا .. كل ما شافوا عربي كانوا يسوقوه للجمارك . جمعوا العرب عند المينا وأغلقوا عليهم خط الرجعه .. وصارت هالقوارب تحمل وترمي في صور وصيدا ، الناس كانت مرعوبه .. من الاخبار اللي سمعوها عن معاملة الجيش .. تركوا بيوتهم مثل ما هي .. الخبز في الفرن .. والطبيخ عالنار .. السوق تركوه مفتوح ، صارت توصل سيارات وتحمل في البضاعه ، نهبوا كل شيئ ، القمح والاكل وأدوات الكهربا .. وهدموا بيوت جديده وباعوا حديدها وحجارها للناس .. أنا وزوجتي وأولادي تخبينا في دار القلعاوي .. قلت : والله باقي حتى لو ذبحوني أنا وأولادي وعملوا منا سرسيسو .. كنا نبعث الولد ناحية الحسبه ليطل على جيوش الملك عبدالله اذا وصلت مثل ما وعدنا .. العلامه على رؤوسهم طاقية فيصلية وعلى رأسها حربة .. لا شفنا طواقي ولا ما يحزنون .. راحت علينا وعلى اللي ركبوا في الشخاتير .. بعد يومين رجعت على دارنا ، لقيت الدار فارغه وما فيها شي .. شفته في عيني .. كان ختيار سكناجي فرغ الدار وما ترك فيها غير ورقة النفوس .. قلت في نفسي ، يالله ، على الأقل حافظوا على أسماء أولادنا . " .

حيفا لم تمسح من خريطة هذا الوطن. لكن معالمها تتغير وتتبدل ، حيفا عتيقة وحيفا جديدة .. واحدة نعرفها نحن وواحدة لا يعرفها الا أولئك الذين تمر في ذاكرتهم أيام البوابة الشرقيه وسوق الشوام وبندر التجار والقشلي .. كما مرت السنوات الطويلة .. نذكر الكثير وفي الذاكرة تهترئ أكثر الاشياء .. تختفي ، يأكلها صدأ هذه الايام ، تتحول الى صور وخيالات تنخز في القلب وتجرح العاطفة ، وماذا نطلب من شيخ تشقق وجهه ، وينتظر قدوم الساعة أو أن يفرجها ربك مع "هالـ … حرمونا نعمة الحياة ، وقطعونا ، ومزقونا وشتتوا أولادنا " ..

وكيف يمكن أن نسجل كل شيئ عن حيفا ؟ قلنا ، نذكر القليل ، القليل ، لعل شيخنا العربجي ينبش معالمها المخفيه ، في الذاكره ، أو على أطلال جامع الجريني أو حمام الباشا الذي تلمع على سطع قبته نتؤات الزجاج الازرق كلما طلعت الشمس ومسحت خيوطها عامود فيصل الرخامي ، الذي أقيم على قبر الشيخ مبارك.

"أهالي حيفا القديمه ، كانوا فقراء ، حجّاره وصيادين سمك .. كانوا يقلعوا الحجار من وادي رشميا ويبيعوها ، وبعدين لما جاء الانجليز ، ووسعوا البور (الميناء) صارت العالم تشتغل في البور .. رفعت كان صياد ماهر ، "فش منه وقدام " كان عنده حمار أسود ، يوقف على ظهر الحمار ، ويمد نظره للبحر ، كان يشوف أفواج السمك جاي ، يرمي شبكته ، ما تفلت منه ولا سمكه .. راحت الايام وإجت الايام ، وهالبحر صار يجيب ناس ويقذف ناس ، "ولانشات " دار أبو زيد تحمل هالعرب.

لوين ؟ لمينا عكا..  

  لوين ؟ لمينا بيروت ..

لوين ؟ لمينا صيدا ..

لوين ؟ لجهنم الحمرا .. "

اليكم ألبوم صور سقوط حيفا في 22 نيسان 1948

                                            

  

 

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *