تلهو سما أبو مغصيب (9 أعوام) مع فتيات جيرانها لكنها بالكاد تتذكر أسماءهن، فيما ذاكرتها تتركز على صورة ذلك الانفجار والدخان الأبيض الذي أحاط بمنزل عائلتها إثر قذيفة أطلقها جيش الاحتلال خلال حرب 2008 على قطاع غزة.
"قصف.. طخ.. فوسفور"، تقول الطفلة، التي تقطن مع أسرتها شرق دير البلح وسط القطاع، بينما تشير إلى المكان الذي تعج تفاصيله بمخيلتها التي لفها دخان القذائف وتلخص بها حكاية ما حل بالعائلة في اليوم الثالث عشر للعدوان.
في الثامنة من صباح ذلك اليوم، كانت الأم مادلين تجلس بجوار ابنتها سما تسرح لها شعرها. نادت عليها شقيقة زوجها للنزول إلى الطابق الأرضي من المنزل فنزلت، وما هي إلا دقائق معدودة حتى سقطت قذيفة مدفعية على ذات المكان الذي كانتا تجلسان فيه.
ملأ الغبار المكان، وعاود الاحتلال قصف المنزل بخمس صواريخ وقنابل فوسفور، فدب الذعر في قلوب سكانه، إطلاق النار والقصف كان عشوائيًا وكثيفًا، حاولوا الاختباء واللجوء إلى مكان آمن في البيت، لكنهم لم يفلحوا.
عندها حاول عم الطفلة عمر (18عامًا) تفقد ما حل بمنزلهم عاجلته قذيفة وحولته إلى أشلاء، وأصيبت "سما" وقتها بشكل مباشر. وتعود بالذاكرة قليلاً لتختصرها بجملة "شفته كله دم".
هذه الكلمات لا تفارق شفتي سما ولا تغيب عن أحلامها اليومية منذ استشهاد عمها، مستحضرة ذلك المشهد المروع، حسبما تقول أمها لوكالة "صفا".
وتضيف الأم: "دخلت سما في غيبوبة بعد الإصابة وتعطلت غالبية أجهزتها الحيوية، وكان ما يثبت أنها على قيد الحياة هو قلبها فقط، حار الأطباء في أمرها ولم يتمكنوا من تشخيص حالتها حتى أعلنوا دخولها الموت السريري بعد 25 يومًا".
ثالوث الألم
عادت سما لكنها كانت تقريباً بلا ذاكرة، فيما كان ذهن أمها يزدحم بتساؤلات عن سبب لهذه الحالة التي ما تزال دون تفسير، قائلة: "كل شيء تغير، سما كانت ذكية ومتفوقة في روضتها، الآن تغيرت وأصبحت بلا ذاكرة، احترت في أمرها ولا أعرف ممّا تعاني".
وتكمل "لم نترك مستشفى إلا وعرضنا حالتها عليه، وتفسيرات المرض كانت مختلفة، وشخّص بعضهم أنها تعاني من الحسد، وآخرون قالوا إنها تعاني جفافًا حادًا، وأخيراً أكد مركز صحي في غزة أن سبب حالتها نتيجة هو استنشاقها غاز الفوسفور".
لا ترافق سما قريناتها في رحلات المدرسة، بل أجبرت على قضاء رحلاتها على أسرّة المستشفيات، قضت 18 يومًا بإحدى المشافي المصرية بيدين كبلتهما أنابيب تجري عبرها محاليل تبث في جسدها عبر شرايينها الرقيقة، وصولاً إلى انتقالها مؤخراً إلى أحد المشافي الإسرائيلية ليتغير مجرى التشخيص تمامًا.
طلب جدها من الأخصائي المعالج في مستشفى "شنايدر" في "تل أبيب" معرفة حالة حفيدته فرد عليه قائلًا: "سما تعاني تلفًا في بعض خلايا دماغها جراء إصابتها بالتهاب في الدماغ ونقص المناعة به يطلق عليه اسم (ADEM) جراء استنشاقها للفوسفور الأبيض".
وتعدّ سما إحدى ثمانية "فرائس" من أصل كل 100 ألف شخص يمكن إصابتهم بهذا المرض، فيما رفض الأطباء في المستشفى الإسرائيلي كتابة تقريرٍ بحالتها المرضية "تنفيذًا للتعاليم الصارمة" لجيش الاحتلال.
وقدم الأطباء لها جرعة دوائية، فاسترجعت بعضًا من عافيتها، وعادت تسير على قدميها بعد أسبوع، لكنها وبحسب الأطباء أضحى عمرها العقلي ثلث عمرها الزمني، وفقدت جل انفعالاتها العصبية وقدرتها على التركيز أو الحديث، مجددًا فصلاً جديدًا من آلام عائلتها.
من يرى سما للوهلة الأولى على مقاعد الدراسة بين قريناتها يظنّ أنّها مستمعة جيدة، لكنها اكتفت هذا العام بالاستغناء – مُكرهة- عن الحديث والاكتفاء بالاستماع فقط لشرح معلماتها المتفهمات لحالتها الصحية.
ومن "تل أبيب" إلى الخليل، رحلة علاجية أخرى لسما، لكن ذاكرتها "أبت" نسيان مشاهد الحرب و"فضلت" الصمت الطويل الذي يكتنف حياتها حالياً.
والد سما موظف بسيط يضطر لتخصيص ثلثي مرتبه لشراء الأدوية لابنته التي تكلفه نحو 800 شيكل شهريًا، وحتى تلك العقاقير لا تتوفر سوى بصيدلية واحدة تبذل جهدًا لجلبها من القاهرة.
رغم ذلك، تتمسك الطفلة بالأمل وتناشد بكلمات قليلة من يساعدها ويخرجها من معاناتها التي سببها الاحتلال لها ولعائلتها، قائلة "نفسي أتعالج". وبانتظار العلاج تبقى سما حبيسة دخان وآلام لفت ذاكرتها وسلبت براءتها.
[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/98087422720131806030327"]