الاحتشام – بين الحجاب والسّفور (قضيّة للنّقاش)

مراسل حيفا نت | 01/06/2013

يقول الدّكتور محمود أحمد الزين: "الحشمة في اللّغة الحياء، والاحتشام مصدر احتشم، بمعنى كفّ نفسه عمّا يُستحى منه ترفّعًا، أي عمّا يناله به من الذّم بين النّاس. ولما كان المدح والذّم مما يختلف فيه النّاس كثيرًا، حسب النّشأة والمبادئ والأعراف الاجتماعيّة والثّقافات، كان لا بدّ من أن يختلف النّاس في مفهوم الاحتشام اختلافًا كبيرًا، إذ أنّ لكلّ أمّة ثقافتها ومبادؤها وأعرافها الاجتماعيّة الخاصّة".

أمّا الدّكتور محمّد عجّاج الخطيب، فيقول عن الاحتشام في اللّغة: "الاحتشام من حشم يحتشم احتشامًا، والحشمة الحياء والانقباض، والاستحياء، والاستحياء مبالغة في الحياء، مثل الاستجابة مبالغة في الإجابة، ونقول: حشمته وأحشمته أي أخجلته. ويُقال: فلان يحتشم المحارم أي يتوقاها".

وصار مألوفًا في العربيّة أن يُقال لمن يكشف من بدنه ما لا يليق كشفه، ولمن لا يوقر من هو أكبرُ منه، أو يرفعُ صوته فوق المألوف، أو يسيءُ التصرّفَ بإشارة أو عبارة أو فعل ونحو هذا – (احتشم)، بل شاع هذا في عامّة النّاس. 

وقالت صحيفة "الاتّحاد" الإماراتيّة، الصّادرة في أبو ظبي، في مقال عن الاحتشام بعُنوان: "عرفته المجتمعات الشّرقيّة والغربيّة قبل الإسلام": "فلسفة مفهوم الاحتشام عبر التّاريخ لم ترتبط ببعد دينيّ معيّن، ورغم تباين الاختلافات والحيثيّات الدينيّة من دين إلى آخر، وارتبط مفهوم الاحتشام بالأبعاد الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسلوكيّة كسلوك متحضر، يحفظ للإنسان صورته وقيمته ومكانته.

من ثمّ دعت وأكدّت جميع الكتب السّماويّة مفهوم الحشمة والاحتشام عند الرّجل والمرأة على حد سواء، وحذرت من التّعري والسّفور والابتذال، فلقد عُرِف الاحتشام عند المُجتمعات الشّرقيّة والغربيّة قبل الإسلام ولا يزال معروفًا لديهم حتى وقتنا هذا، لكنّه يختلف بالضّرورة من مِنطقة وثقافة لأخرى.

فالاحتشام عُرف قديمًا عند اليونانيّين، ثمّ انتقل إلى المجتمعات الأخرى، فانتقل إلى الرومان، وعُرِف الاحتشام زمنًا طويلًا، وشاع بين النّساء في القرون الوسطى، واستمر إلى القرن الثّالث عشر، حيث بدأت النساء يُخَفِفْنَ منه.

أمّا في عصر الجاهليّة، فكان العرب الأوائل يعتبرون حشمة المرأة علامة على علو قدرها، ورفعتها، ولذلك كانت الحرائر تلتزم به، وتمتنع عن السّفور إلّا في موارد خاصّة، وقد ورد ذكر الاحتشام في الشّعر الجاهليّ كثيرًا، وأسهب الشّعراء في ذكر فضائله، حيث كان العرب يعتبرون الحجاب من سُنَن المحبّة، فإذا بلغت البنت عندهم كانت تُعرَض للزّواج، وكانت لا تكشف عن وجهها إلّا عند نزول المُصيبة. وكان الحجاب يُعرف بالخمار والبُرقُع والنّقاب والجلباب والعباءَة والأزرار والمُلحَفَة والدّرع والهودَج وهو محمل المرأة.

كما ظهر الجلباب الإسلاميّ، حتّى أنّه شاع بين نساء إسپانيا النّصرانيّات بعد الفتح الإسلاميّ وقيام دولة الأندلس، وحتّى جرى منعه سنة 1960، إلّا أنّه نال إعجاب الإسپانيّين أنفسهم، وعاد مرّة أخرى ليظهر في سبعينيات القرن الماضي، اعترافًا منهم بنبل هذا اللّباس ودلالاته الخلقيّة، وجعلوا للمرأة الُمحجّبة كما يسمّونها تمثالًا في القرية تمجيدًا وتشريفًا وتكريمًا لها، وعلقت صورها على الجدران، وقيل فيها الشّعر، وضُرب المثل بالحياء العربيّ المغربيّ في المرأة الشّريفة.

في فرنسا، أيضًا، نجد راهبات القرن السّابع عشر، قد تغيّر زيهنّ عن زي سابقاتهنّ، وتخلّين عن الملابس القصيرة الّتي تكشف عن سيقانهنّ، وحرصن على ارتداء الثّياب المحتشمة وغطاء للرّأس؛ وفي إسكتلندا في القرن التّاسع عشر، كانت ملابس النّساء تتميّز بوشاح كبير من أعلى الرّأس إلى أسفل القدمين، ما يغطّي كامل الجسد، بل يكاد يغطى الوجه.

وفي اليابان، والصّين وكوريا وجميع دول شرق آسيا، عرفت المرأة الاحتشام منذ وقت بعيد، واهتمّت بالسّتر كنوع من الفِطرة الإنسانيّة من الأساس، إلى أن اختلطوا بثقافات الغرب وبدأوا يقلّدونهم شيئًا فشيئًا، كما فعل العرب والمسلمون".

ومن عادة الكنائس في أوروپا ومناطق أخرى في العالم اليوم أن تضع حارسًا على أبوابها لكي يسمح بدخول المصلّين والزوّار إلى الكنيسة أو يمنعهم من ذلك، إن لم يظهروا بمظاهر الاحتشام. ويفسّرون الاحتشام بأنّ الدّاخل إلى مكان مقدّس يجب أن يرتدي الملابس الّتي تستر كتفيه وركبتيه معًا. ومن يخالف ذلك لا يُسمح له بدخول الكنيسة، لأنّ الاحتشام يدلّ على التقوى والورع.

وكنت ذات مرّة برفقة زوجتي في بانكوك (عاصمة تايلاند)، ورغبنا بدخول مدينة المعابد، وهي مزار سياحي عظيم في بانكوك، فوجدت الحرّاس يمنعون أصحاب الأزياء القصيرة وغير المحتشمة من الدخول. وفنادق شواطئ مومباسا الكينيّة تجدها تحذّر نزلاءَها من التّجوال في المدينة بملابس البحر أو غيرها من الملابس الّتي لا تراعي مشاعر السّكّان المحليّين. والمسألة ليست تعصّبًا أو تزمّتًا ولكنّها احترام لخصوصيّة كلّ مجتمع.

والمشكلة هنا ليست فقط في السيّاح القادمين، بل في شرائح من المقيمين العرب ومن جنوب شرق آسيا؛ ممّا يستوجب تفعيل دور الشّرطة المجتمعيّة والسياحيّة، لتذكير هؤلاء بأنّهم في مجتمع عليهم احترام خصوصيّاته. وهو رغم انفتاحه الكبير على ثقافات العالم، إلّا أنّه يتمسّك بثقافته وعاداته وتقاليده، لأنّها جزء أصيل ومكوّن مهم من مكوّنات هُويّته الوطنيّة، وأبسط ما يطلبه منهم احترام هذه الخصوصيّة.

ومن ناحية أخرى كان الأنبا بيشوي (سكرتير المجمع المقدّس للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة في مصر) قد طالب الفتيات المسيحيّات أن يتعلّمن من المسلمات المحجّبات حشمتهنّ، وقال: "ممكن المسيحيّات يزعلوا منّي، لكنّ العذراء مريم، والقدّيسات جميعًا، والراهبات، ارتدين الملابس المحتشمة". وصدر بيان عن ائتلاف المجالس الرّعويّة المصريّة أكّد فيه أنّ الدّعوة للاحتشام جاءَت في وصايا الرّسل، وكانت في صلب تعاليم المسيح.

كيف نواجه من نصلّي له؟

عندما نرغب بمقابلة شخصيّة مرموقة فإنّنا نستعدّ لها كامل الاستعداد، ونتهيّأ لها نفسيّـًا وجسديّـًا وموضوعيّـًا. فالنّاحية النفسيّة مرتبطة باشتياقنا لمقابلة هذه الشخصيّة، ومدى فرحنا واغتباطنا وسرورنا من أنّنا سنواجه هذه الشّخصيّة الّتي طالما احتجنا إلى مقابلتها. وإنّ فرَح اللّقاء هو بمثابة هدف نسعى إلى تحقيقه، وخاصّةً إذا كنّا قدّمنا طلبًا لمقابلته، فها هو يلبّي طلبنا للقائه، ويستجيب لمقابلتنا في موعد زمانيّ ومكانيّ محدَّديْن، فمتى ستحين اللّحظة الّتي سنتقابل فيها؟  

وكيف سنأتي إلى مكان اللّقاء جسديّـًا من حيث تحضيرنا لملابسنا الّتي يجب أن تتناسب مع «پرتوكول اللّقاء»، وأن تكون ثيابنا رسميّة بقدر الإمكان ونظيفة ولائقة، وأن نغتسل ونتطيّب ونسرّح شعرنا ونبدو بشكل يقنع من سنقابله بأنّنا نستبشر خيرًا بلقائه، وأنّنا نلتزم أصول وقواعد اللّقاء من حيث الوقوف أو الجلوس، أو الوقوف في طابور بانتظار وصوله، أو حتّى التّجمهر لمشاهدته أو تقديم التّحيّة اللّائقة بمقامه. فجلوسنا أو وقوفنا في حضرته يدلّ على جديّة لقائنا به، ويشير إلى طبيعتنا في النّظرة نحوه ومدى احترامنا له.  

ومن النّاحية الموضوعيّة فإنّنا نكون قد تهيّأنا لتقديم مطالبنا وطلباتنا له، إمّا خطيّـًا أو شفهيّـًا، وقد تكون هذه الطّلبات خاصّة أو عامّة، وتتعلّق بسائر الجمهور. فإذا كنّا سنرفع له طلباتنا الخطيّة فيجب أن تكون برسالة رسميّة وواضحة وبليغة ومحدّدة ومفهومة ومقنعة، ويمكن أن نقرأ رسالتنا أمامه بصوت واضح ولفظ مُقنع وكلام مباشر.

أمّا إذا كانت مطالبنا شفهيّة فيجب أن نطرحها أمامه بوضوح وثقة وتأكيد على رغبتنا بأن يحقّقها لنا، وأنّنا نضع أنفسنا بين يديه ونتوكّل عليه، لكي يلبّي مطلبنا الّذي ليس فيه ما يؤذي أو يضرّ أحدًا، بل هو مطلب للخير والمنفعة والصّالح العام وربما الخاص، والّذي لا موانع من تلبيته. 

وأمّا إذا كانت الشّخصيّة رفيعة المستوى، كالمدير العامّ للمؤسّسة الّتي نعمل فيها مثلاً، أو صاحب الشِّركة الكبيرة الّتي نتلقّى معاشنا منها، أو أرفع من ذلك إذا كان موظّفًا كبيرًا في وزارة أو مديرًا عامّـًا فيها، وأقول أكثر، ربّما أنّه الوزير نفسه، فإنّ الاهتمام والعناية تبلغ أشدّها. وماذا لو كانت الشّخصيّة رئيس الوزراء أو رئيس الدّولة، أو ملك البلاد، فإنّنا نعجز عن وصف ما سنشعر به وعظَمَة الموقف وهول الحالة الّتي سنكون فيها..  

وكم بالحريّ إذا كنّا سنقف في حضرة مريم العذراء، وفي حضرة يسوع المسيح، وفي حضرة اللّه، في حضرة خالق السّماء والأرض، في حضرة من أرواحنا بين يديه، في حضرة خالقنا وربّنا؟؟ فبأيّ حال سنقابله؟ ماذا سنرتدي؟ ماذا سنقول وكيف سنخاطبه؟ كيف سنواجهه؟ يا لروعة الحدث، يا لأهميّة الموقف، يا لعظم اللقاء، هل سيفوتنا أيّ شيء لكي ينجح اللّقاء؟ هل سننقص أيّ كلمة ممّا سنقول؟ هل ستفوتنا أيّ شاردة أو واردة؟ هل هذا هو الحال الأكمل لكي نطرح طلباتنا؟

هل هذه هي أفضل الطّلبات الّتي نريد تلبيتها وأكثرها إلحاحًا؟ هل سيقتنع بوجهة نظرنا عندما سنعرض أمامه وفي حضرته أيّ طلب؟ هل سنتواصل عمّا قريب؟ هل سيوافق على استمرار تواصلنا؟ متى سنتمكّن من لقائه في المرّة القادمة؟ وماذا سنفعل بين هذا اللّقاء واللّقاء القادم؟ هل سنستعدّ في كلّ مرّة كما لو أنّها المرّة الأولى؟ هل سنكرّر طلباتنا في المرّات القادمة؟ أم أنّنا سنعيش حالة من الخصام والعداء مع اللّه، ونعود لنرجوه من جديد؟ هل هو على استعداد للصّفح عنّا وملاقاتنا، كلّما خطر ببالنا؟ تساؤلات سيجيب عليها كلّ منّا بمفرده، ولنضع أنفسنا في الموقف الصّواب لنسلك الطّريق الصّحيح.

وبعد؛ من البديهيّ أن يتّعظ كلّ منّا بما يراه في الكنيسة والأماكن العامّة، من حيث ارتداء الملابس الّتي لا تندرج في مظاهر الاحتشام، فلماذا تسمح الأم لابنتها أن ترتدي مثل هذه الثّياب الفاضحة؟ ولماذا تسمح الأم لنفسها أن ترتدي بنفسها مثل هذه الثّياب؟ ولماذا يجب أن ترتدي ابنتي أو أختي أو جارتي ثيابا تكشف أكثر ممّا تستر؟ هل نحن في حفل لعرض الأزياء؟ هل نحن في حفلة رقص ومُجون؟ هل نعتبر ارتداء الملابس دلالة على سنّ الفرد وعمره، وبالتّالي ننكر السّن الحقيقيّة عن طريق الملابس؟

هل نأتي للصّلاة ومخاطبة اللّه الخالق ويسوع ومريم ونحن لا نرتدي ما يليق بمقامهم؟ لا أتطرّق إلى مسألة الثّياب والأزياء وموديلات تصفيف الشّعر وأصناف المساحيق، كما لا أتطرّق إلى النّواحي الاجتماعيّة والأخلاقيّة والأدبيّة، وغيرها من الجوانب الّتي يجب مراعاتها، بل أتحدّث عن النّاحية الدينيّة، الّتي يجب أن تدلّ على عمق إيماننا وأهميّة صلواتنا، ومفاهيمنا الّتي يجب أن تكون صحيحة حول الثّوابت الإيمانيّة والأعراف السّائدة.

لينظر كلّ منّا إلى نفسه حين يتوجّه إلى الكنيسة وهو مُدرك تمام الإدراك، ومؤمن كامل الإيمان، ومقتنع غاية الاقتناع بأنّه سيلتقي باللّه من خلال يسوع، ومن خلال احترامه لجسمه الّذي قال عنه القدّيس بولس: ‭{‬أنتم هياكل اللّه‭}‬. لنحتشم ونحن نخدم هيكل اللّه في الكنيسة وخارجها. فإذا كنت هيكل اللّه، فكيف لي إلّا أن أحافظ عليه؟ وأصونه، وأكرمه، وأقيه من الضّرر والإهانة والتّحقير، وأذود عنه من المكاره والمساوئ، وألبسه أجمل الحلل وأكثرها احترامًا واحتشامًا. فلا أدنّسه ولا أعرّيه، ولا أقبل إلّا أن يدلّ على كرامة وتكريم اللّه وصاحب هذا الهيكل والجسد الّذي هو أنا.

(حيفا)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *